المقالة

ما فعل السفهاء بنا

“هل نحن نريد ليبيا أم نريد أنفسنا كأشخاص؟”. سؤال جوهري وفي الصميم طرحه السيد د. محمود جبريل في الحوار الأخير الذي أجرته معه قناة 218، وهو سؤال يحمل في الواقع إجابة موجزة عن كل ما حدث في ليبيا منذ سقوط النظام السابق وحتى هذه اللحظة، وربما قبل ذلك بكثير.

هذا السؤال نفسه كان عنوان مرحلة مهمة في تاريخ تأسيس هذا الدولة الليبية، وهي السنوات من 1948 إلى 1951 من القرن الماضي التي شهدت صراعا مشابها لما يحدث الآن، وكانت ليبيا على حافة التقسيم، بينما شعبها يعاني الجوع وانتشار الأوبئة والسلاح، لكن ظهر رجال أنكروا ذواتهم فكانت إجابتهم الحاسمة (ليبيا أولا)، لذلك كان التعامل مع إرث الماضي والمصالحة الاجتماعية أولويتهم، وهذا ما تؤكده مواثيق المصالحة العدة التي تم التوقيع عليها، وفي مجملها تجعل بناء الوطن أولوية قبل محاكمة الماضي، وأجلت البت في كل المشاعر إلى ما بعد تأسيس الدولة ومؤسساتها الحري بها تحقيق العدالة الانتقالية في ظل قضاء نزيه.

حدث هذا حين كان الحكماء في الواجهة وليس السفهاء، وكم حاول من سفيه في تلك الفترة إثارة نعرات الانتقام ونعرات الأقاليم، فظهر الانفصاليون وعقدوا اجتماعاتهم بقيادة أشخاص يسعون لمصالحهم وغير معنيين بليبيا، لكن الوطنيين والمؤسسات المدنية والثقافية من كل أجزاء ليبيا أجهضوا تلك المشاريع الانفصالية.

بعد فبراير لم تغب الحكمة ولا الحكماء، وخارطات طرق وبيانات وكتابات كثيرة تثبت ذلك، لكن للأسف أصبح السلاح شرعية المرحلة ولسان حالها الناطق، وكما يقال “السلاح جا فيد الذلال” وفي هذه الحالة: السلاح كان في أيدي السفهاء. وربما من سوء الحظ أن العامل الذي كان من المفترض أن يكون عامل استقرار اقتصادي، ومن ثم سياسي، تحول إلى عامل صراع ونزاع وحروب، وهو المال والثروة التي نُظر إليها بذهنية الياغمة وليس برؤية الاقتصاد الوطني.

والمال عامل محايد، فإما أن يكون في يد مؤسسات دولة موحدة لها رؤية وخارطة طريق، أو في أيدي لصوص استغلوا مرحلة الفوضى وغياب الدولة والضوابط، والمال السايب يعلم السرقة، بل ويؤدي إلى حروب، وكان هو المحرك الأساسي لكل الصراعات، بما فيها الجماعات الإرهابية المتشددة التي دخلت دائرة الصراع على هذه الثروة، ولفترة اختزل الوطن برمته في هلاله النفطي كخزنة يتصارع حولها الورثة، الذين وصل بهم الحقد إلى محاولات حرقها من باب: “علي وعلى أعدائي”.

في كل هذا كانت الإجابة على السؤال الحارق هي كون من تصدروا المشهد، سواء عبر مجيئهم عن طريق الصناديق أو عبر السلاح والميليشيات، كانوا يفكرون في أنفسهم وفي الغنيمة وفي المال السايب. ولو جلسوا مع بعضهم مرة كما فعل الأجداد وفكروا في ليبيا لوفرنا كل هذه المعاناة، وكل هذه الدماء، وكل هذه الضغائن التي انتشرت في النسيج الاجتماعي.

هذه الأغراض الشخصية هي التي جعلت ليبيا متسكعا لكل الأجندات الخارجية، دولية وإقليمية، التي فتحت لها فروعا داخلية ووظفت وكلاءها من عملاء محليين، لا يهم إن كان تنظيما أو مشروع حزب، أو مجرماً، أو لصاً، أو مهرباً، أو إرهابياً. المهم أن يكون خادما محليا لمصالح خارجية تلتقي بمصالحه الآنية والشخصية.

فتورطت دول كبرى في التعامل مع أشخاص لا يرى فيهم الليبيون سوى لصوص أو مجرمين، وظاهرتا “جضران” و “العمو” مجرد مثالين عن قائمة طويلة. وهذا ليس غريبا عن بعض ساسة تلك الدول الكبرى الذين تعاملوا تاريخيا حتى مع عصابات المافيا ومهربي المخدرات في دول تعمها الفوضى، لكن من المفترض أن يكون غريبا على مجتمع يسلم قياد أمره لمثل هذه العصابات التي تتاجر بمصيره.

كثيرا ما نتابع أحاديث سياسيين في القنوات الفضائية يبدؤون حديثهم بالترحم على الشهداء، والدعاء بالشفاء للجرحى وعودة المفقودين، ثم الحديث عن ليبيا والتكلم باسم الشعب والشارع، وبمجرد أن يُستفز أحدهم، أو تنتابه حالة من الغضب، يفصح عن رغبته المكبوتة في منصب أو غنيمة، وأن سبب اعتراضاته كلها كونه خرج من المولد بلا حمص، وكأنه يطالب بثمن لإسكاته. وأفضلهم يتحدث عن مصالح فئة أو قبيلة أو إقليم.

كتل سياسية تتشكل داخل المؤسسات النيابية المتتابعة من أجل تحقيق مصالح أفرادها، والذين تنتهي مواقفهم الوطنية المعلنة بمجرد الحصول على غنيمة من مناصب أية مبادرة أو خارطة طريق تُطرح.

وهم تلقائيا ضد أي حل أو مبادرة أو خارطة طريق لا تؤدي إلى مصالحهم الشخصية.

الفارق بين هذا الجيل والجيل المؤسس ليس مجرد عقود زمنية تفصل بين الأجيال، ولكن حقبة كاملة من الحكم الشمولي المتخلف الذي حوّل مجتمعا برمته إلى فأر تجارب لمشاريعه الفاشلة، واستطاع أن يربي في ثقافته هذه النوازع الشخصية، وأن يحيل هذا الفضاء الجغرافي ــ الذي لا يذكر في نشرات العالم إلا عبر ثروته النفطية ــ إلى مكان يتصارع فيه الجميع من أجل الوصول إلى هذه الثروة بأية طريقة ممكنة، وكان هذا النهج هو المدرسة الضخمة التي جعلت من الفساد ثقافة انتشرت رأسيا وأفقيا.

كان الفارق بين الجيلين حقبة أُلغي فيها اسم ليبيا من قاموس التداول، واستُعير لها علم ونشيد وطني لدولة أحرى.

وكان الفارق إدارة جماهيرية قلبت هرم الكفاءة رأساً على عقب، واقتصادا ريعيا في يد السلطة التي قضت على القطاع الخاص ومنعت أية مبادرات ذاتية، وحولت الليبيين بكل طبقاتهم إلى طوابير في المصارف ينتظرون رواتبهم الشحيحة المتأخرة.

كان الفارق مطالبات دائمة من “القيادة” بتوزيع الثروة مباشرة على الناس للتصرف فيها، بدل أن تتحول إلى سياسات وطنية رصينة توزع الفرص والرفاه ضمن دولة تحترم مواطنيها. ومطالبات دائمة من القيادة بأن يترك الليبيون الأرض ويهاجروا إلى “جنة إفريقيا” مقابل مبالغ مالية يحملونها معهم.

وكان الفارق هو تبدل قيم أخلاقية جعل من اللص “شاطر” ومن النزيه “غبي”، وأجيال تلاشى عندها مفهوم الوطن ومفهوم المصلحة العامة التي تتحقق في ظلها المصالح الخاصة، واضمحل الانتماء إلى أدنى حدوده، لدرجة أصبح الكثيرون يكرهون العلم والنشيد الوطني وحتى منتخب كرة القدم الليبي.

الفارق أن الغالبية لم تعد تريد ليبيا لأن الوطن اختُزِل في أشخاصهم، ولسوء الحظ أن مثل هذه الفئة التي تدربت على اغتنام الفوضى، وعلى النفاق، وعلى فن اصطياد الغنيمة، تملك من المؤهلات الانتهازية ما يجعلها تتصدر المشهد وتملأ المناصب.

إنها فئة ليست خافية على أحد، منتسبوها واضحون ولا يخفون أنفسهم، وبالإمكان مشاهدتهم وسماعهم في عواصم العالم، في كل الاجتماعات والمؤتمرات، في الفضائيات وفي مواقع التواصل، يُظهرون رفضهم لكل مبادرة توافق أو تقارب، ويكيلون الشتائم لكل بعثة للأمم المتحدة، ويشنون هجومهم على النخب والكفاءات.

___________

نشر بموقغ بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

انتظروا الزحف المليوني نحو القدس

عادل بشير الصاري

استمر صنماً

نجوى بن شتوان

ما الذي تعنيه الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ؟

علي عبدالله

اترك تعليق