يا حراس المعابر.. استقيلوا يرحمكم الله
سعيد العريبي
ما أشبه الليلة بالبارحة.. بالأمس حوصر المسلمون الأوائل في أحد شعاب مكة.. واليوم يحاصر المسلمون في غزة.. لم تتغير الأمور كثيرا.. ففي كلا الحالتين هناك محاصرون ومحاصرين.. هناك من يعانون مرارة البغي وقسوة الحصار.. وهناك جبابرة طغاة يصرون على إيذاء المسلمين، وتطبيق منهجية التجويع والحصار.
في كلا الحالتين تتفق قوى البغي والعدوان على محاصرة قلة مسلمة.. لم ترض أن تدين لغير الله.. قلة مسلمة ذنبها الوحيد.. أنها تقول كما قالت بالأمس: الله ربنا ، ومحمد رسولنا، والقرآن كتابنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
استبدلت الأماكن والأسماء.. وتعاقبت الأيام وتبعتها السنون.. وتغيرت الظروف ووجوه الطغاة.. لكن صحيفة المقاطعة.. لا تزال على حالها وإن تغير اسمها.
فصحيفة المقاطعة الأولى.. أو الصحيفة الظالمة القاطعة، كما أسماها زهير بن أمية.. هي نفسها صحيفة اليوم.. التي يرفعها أعداؤنا وحكامنا، ويختارون لها في كل مرة أسما جديدا.. بدءًا بـ “كامب ديفيد” ومرورا بـ “أوسلوا” وانتهاءً بــ “أنابلوس”.. ولا فرق في نهاية المطاف بين صحيفة وأخرى ، قديمة كانت أم جديدة.
في المرة الأولى.. وبعدما عجزت قريش عن قتل الإسلام في مهده.. أجمعت أمرها على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب في شعب من شعاب مكة.. لا يقدمون لهم طعاما، ولا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم من أنفسهم، ولا يتجرون معهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ليقتلوه.. وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، وأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا.
وفي هذه المرة.. وبأمر من اليهود، تحاصر دول الجوار أكثر من مليون مسلم، في غزة المسلمة الباسلة.. ويقصفهم العدو بالصواريخ والقنابل.. فلا يعترض حكامنا ولا ينددون، ولا يقدمون لهم طعاما، ولا يسمحون لمن يقدمه.. لا يساعدونهم على الخروج، ولا يسمحون لهم بالخروج.
في المرة الأولى.. اكتفى المشركون الأوائل بتعليق صحيفة المقاطعة، في جوف الكعبة، احتراما للمكان وقدسيته، ولم يكن ثمة من يحرسها.
وفي هذه المرة.. يعلقها الحكام كالقلائد في رقابهم، ويحرسونها بما يملكون وما لا يملكون.. ويغلقون من أجلها الحدود والمعابر.
في المرة الأولى.. وبعدما جهد المسلمون وشارفوا على الهلاك عطشا وجوعا، رثى بعض المشركين لحالهم، وأشفقوا عليهم، وتعاهدوا على نقض الصحيفة وإخراجهم من الشعب ولو بالقوة.
وفي هذه المرة.. لم يلتفت أي من حكامنا المسلمين، إلى حال إخوانهم في غزة.
في المرة الأولى.. وقف زهير بن أمية بن عاتكة عمة الرسول، يحرض قومه على تمزيق الصحيفة وهو يقول: “يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم والمطلب هلكى لا يبيعون ولا يبتاعون.. ؟ والله لا أقعد حتى تشق “الصحيفة الظالمة القاطعة”.. فيعارضه أبو جهل.
وفي هذه المرة أيضا.. يقف المخلصون والصادقون في كل قطر من أقطارنا، ويرفعوا أصواتهم، ويصرخون مرارة وألما: “لا لحصار المسلمين في غزة”.. فيعارضهم أبو جهل.. ويمنعهم من التظاهر والتنديد.. ويصادر حتى حقهم المشروع في العويل وفي الصراخ.
في المرة الأولى.. قام المطعم بن عدي، إلى الصحيفة التي علقت في جوف الكعبة فشقها فرفع الحصار، وعاد بنو هاشم و بنو عبد المطلب إلى مساكنهم أحرارا.
لكن وفي هذه المرة.. لم يجرؤ أحد على فعل ذلك.. لسبب واضح وبسيط.
في المرة الأولى.. لم يكن ثمة من يحرس الصحيفة، التي علقت في جوف الكعبة.
لكن وفي هذه المرة.. كان الأحفاد أكثر خوفا عليها من أسلافهم.. فلم يعلقونها في جوف الكعبة أو على أستارها.
صحيفة اليوم.. يضعها حكامنا في بؤبؤ العين، ويفدونها بدمائهم وكراسيهم، وما ملكت أيمانهم.. ويحرسونها، بشرطة الشغب والهراوات، وسيارات المياه الحارة، وكلاب الشرطة، والقنابل المسيلة للدموع.
مزقت صحيفة الأمس.. وهزم أبو جهل.. ورفع الحصار عن المسلمين.. فمن يجرؤ اليوم، على تمزيق صحيفة الحصار والاستسلام.. من يجرؤ على ذلك.. ليكفكف دموع الثكالي، ويواسي الحزاني، ويدواى الجرحى، ويطعم الجائعــين، ويخفف معاناة المظلومين البائســين.
أعني وبكل اختصار:
من سيكسر الحصار.. وينقذ الكبار والصغار.. وينشر السلام والأمان في الديار.. ؟
كتبت هذا المقال ونشرته أثناء حصار غزة عام: 2008.