هل للإنسان من مفر، فهو بين خيارين كلاهما يستعبدانه، يفصلهما جدار فاصل بين واحتين فكريتين سياسيتين تنتميان إلى زمنين متقاربين و رؤيتين متباينتين، الأول يقفل أبواب العقل و المعرفة و حرية التفكير و الثاني يفتحهما و يجعل أبوابها مُفتحة للحصول على المعلومات و المحرّمات حتى يظنّ أنّه يملك الدنيا و مافيها سخرها له العلم والتطور التكنولوجي، الأول يقع تحت سلطة قمعية أحادية الرؤية يقودها حزب واحد لا يعرف قيمة الأنسان ولا يحترمها ويؤمن بعبوديّة الكلّ، والثاني يقع تحت سلطة ديموقراطية تعددية جمعت لنفسها كلّ اسباب القوة و التقدم يقودها حزبان أو أكثر و تؤمن بأنّ الناس سواء أمام القانون وتُسيّر أمورها حسب دستور راقٍ و سوق حرة توفر للأنسان ما لايخطر على البال من صنوف السلع و الخدمات، الأول يمثل فكر الأستبداد و التسلط على العباد و البلاد و الثاني يمثل فكر الحرية و التطور، والانعتاق من قيود العبودية. هل العلاقة بين النظامين يكمن فيهما النفي والأثبات لمعنى الحرية؟
منذ سنوات نشر مفكر أمريكي متخصّص في التعليم ونظرية الأعلام ونقد الثقافة كتاباً في غاية الأهمية بعنوان “نسلي أنفسنا حتى الموت” عام 1985م لخصّ فيه وبطريقة ذكية ومذهلة للغاية ومختصره كيف أنّ المجتمع الأمريكي أضحت منغمس لساعات طويلة في التسالي والإمتاع التلفزيوني. وقد قام بنشر عدة كُتب أخرى من أشهرها ” استسلام الثقافة للتكنولوجيا ” سنة 1992م بيّن فيه كيف يكون للتكنولوجيا من تأثير سلبي على الفكر و الثقافة و قد أعلن أنّ التفكير الفكري من خلال و سائل التقنية الحديثة كالتليفزيون تختزل السياسة و الأخبار و الأحداث و حتى التاريخ إلى نوع من الأمتاع و التسلية فمثلاً التليفزيون حسب رأيه ” يدمر المحادثة العامة الجادة و يهمش العقلانية ” كما يهمش الثقافة و الخطاب العام فالتكنولوجيا يراها قوة مهيمنة أكثر من أنْ تكون قوة مساعدة لحرية الإنسان فهي تشكل الثقافة باشكال مختلفة فكلما تظهر تكنولوجيا جديدة تتشكل الثقافة على صورتها في عقول البشر، فالمجتمع بشكل عام تحوّل من مجتمع يستخدم التكنولوجيا إلى مجتمع تسيطر عليه التكنولوجيا.
يقول الكاتب (نيل بوستمان) نحن الأمريكيون تابعنا لوقت طويل رواية 1984 للكاتب الأنجليزي جورج ارويل الذي أصبح رائداً في مجال الدفاع عن كرامة الأنسان والذي أوحى في روايته كيف كان العالم الحر في مأمن من شرور الأنظمة المتطرفة وكيف كانت الديمقراطية الليبرالية في مأمن من عثرات ما أوحت به الرواية عن دول أخرى لاسيما الدول “الشيوعية ” على أنّه لم يقع أيّ قمع أو عبودية في المجتمع الراسمالي ولم تصلنا نيران الأساليب المتوحشة، في نفس الوقت كنا قد تجاهلنا و نسينا رؤية أخرى و تصورآخر أقدم من عالم جورج ارويل وأقل شهرة المُتمثل في رواية للمفكر الأنجليزي الدوس هاكسلي بعنوان ” عام جديد شجاع “ لذاعلينا أنْ نتفحصه بنفس الحماس، فكُنا أمام عالمين مختلفين فعالم أرويل منعزل بعيدا في جزيرة نائية عرضة للعواصف و الرياح والامطار الغزيرة، بينما علم هكسلي مفتوح يتواجد في منتجع فسيح يقع على البحر و طوال الوقت جميل ومشرق. عالم هكسلي وعالم ارويل، خيالان روائيان يشكلان ملامح العلم والحياة، وهما نمطان عُرفا بـ ” أدب المدينة الفاسدة “. فكيف قارن الكاتب بين هذين المفكرين؟
قدم ” نيل بوستمان ” بهذه المقارنة كلّ من خشية الكاتبين على النحو التالي:
1
جورج ارويل توقع أنْ الأنسان سيقع تحت وطأة القمع والسيطرة والهيمنة في نظام يجيد التلاعب بعقول الناس وعواطفهم ويسيطر على كافة جوانب الحياة الشخصية والعامة وسيقوم بهذه المهم الرديئة ” الرفيق الأكبر” مستخدما وسائله الخاصة المتوحشة ويعمل على طمس الحقائق وتزويرها ويمتلك سلطة كاملة على الناس.
2
بينما عند هاكسلي لا حاجة لهذه الوسائل للتحكم في البشر فأنّ النظام يحاول أن يخبرنا بأنّ الحقائق ليست مهمة وإنّه لا داعي لوجود السيطرة على كافة جوانب الحياة ولا حاجة إلى مثل هذا ” الرفيق الأكبر ” حتى يفقد المرء حريته واستقلاليته أو حتى ثقافته أو تاريخه، فقد توقع أنّه سيأتي زمن يعشق فيه المرء النظام نفسه لما يتيحه له من تقدم تكنولوجي يجعله يلهى ويتسلى إلى حد يفقد قدرته فلى التفكير!
3
خشية أرويل كانت من الذين يتحكمون في المعلومات وفي حق الحصول على المعرفة حيث يصادرون ويحجبون الكتب الناقدة على الناس، ويمانعون ترف حرية الفكر والتعبير وملاحقة الناس الذين يدّعون التفكير الحر وينغمسون في الحرية الذاتية، وبهذا ما على الناس إلا الطاعة الكاملة لفكر الحزب.
4
بينما هاكسلي كان قد رأى أنْ لا حاجة لحجب المعلومات والمعرفة ومنع الكتب عن الناس فيمكن أن تغرق المجتمع بكم هائل من الكتب والمعلومات عارضاً عليه من دون أية قيود وعراقيل الحصول على المعرفة فإنّه الكثير من الناس سوف لا يبحثون عن المعرفة الجادة ولا يقرأون الكتب بنفس بنفس الوتيرة الماضية وبالتالي فالخشية تكون من الذين قاموأ بتزويدنا بكثير من المعلومات التي يصعب حصرها وتصنيفها و ألتي تتحول مع مرور الزمن إلى سلبية وأنانية وشيء عادي.
5
خشية جورج ارويل كانت متمثلة في شتى انواع المعلومات الحساسة والسرية المحجوبة على الناس وجعلهم يتخبطون في ظلام الجهل والعماء المطلق ويقاسون من الواقع المرير ويقعون أسرى طغيان وجبروت النظام الذي يخنق وسائل الأعلام كما يتحكم في استخدام ازدواجية اللغة، ومنْ ثمةّ لا مفر لهم من التفكير بطريقة موحدة.
6
أما هاكسلي فخشيته كانت من اولئك الذين يقومون بتعويم الناس بشتى أنواع المعلومات لجعلهم يعتقدون أنهم يعرفون أكثر مما ينبغي فرحين بهذا الكم الهائل والمتاح لهم دون أيّة قيود، فالناس في هذا العالم يفاخرون بكمية المعاومات التي يطلعون عليها ويتابعون تدفقها السريع من جميع الجوانب بمختلف المواضيع والأحداث، وبالتالي لن يكون لديهم الوعي الكافي لمعرفة مصادرها وما تحمله من موضوعات أنّها عبودية طوعية لمثل هذا الكم الهائل من المعلومات.
7
خشية أرويل كانت في حجب الحقيقة عن الناس وطمس كل الطرق للوصول إليها وملاحقة كل فرد يحاول اختراق جدرانها والتعرف عليها، بل وتجعله يخاف مما يعتقد فيه ويؤمن به ومما تراه عيناه وتسمعه أذناه، فإنّ الأمر الطبيعي هو فرض الرقابة الصارمة على المعرفة، فلا تفكير خارج عن تفكير الحزب مالك الحقيقة وحارسها الأوحد.
8
بينما هاكسلي خشيته كانت من تقديم الحقيقة وبإصرار كبير سافرة على بساط واسع من دون حذف يجعل من هذه الحقيقة أمراً عادياً حتى مع مرور الالوقت تصير لا معنى لها لدرجة أنّنا ننخدع لصورها ونعتقد أننا أحرار في حين أننا لسنا كذلك، فكلما ازدادت معرفتنا بما يحدث حولنا ازدادنا عبودية له...ونكونومن ثمّة نكون أسرى لهذه المعرفة وفرحين بهذه الحقيقة المألوفة وهذا الجوهر العظيم، فلا داعي لحجب أيّ شيء على الناس فقد ألف الناس فقدان نعمة إنعام النظر.
9
خشية أرويل أننا سنكون أسرى لثقافة أحادية الجانب وصارمة والشعب لا يرى ويسمع إلا رؤية حزب حاكم واحد صاحب السلطة المطلقة ويعيش تحت تهديد ” الرفيق الأكبر” رأس الحزب، إنّه عالم مرعب والناس يعيشون في ظروف قاسية كالعبيد.
10
بينما هاكسلي خشيته كانت تعويم الناس بثقافة سطحية وهشة واحتفالات صاخبة وانفتاحهم على العالم وعلى الثقافات المتعددة وازدياد نفوذ العلم والتكنولوجيا في الحياة ووسائل الترفيه لاجتلاب المسرات، عالم يصبح العلم فيه أداة للسيطرة، نظام يتحكم في الناس بذكاء ودهاء تحت ذريعة أنهم أحرار يتمتعون بالراحة والاستقرار، مجتمع يعيش على تعظيم المنفعة إلى حدودها القصوى واغتنام اللذة وفضل الاغتباط.
11
في الرؤية الأرويلية نجد أن الرقابة صارمة ومؤلمة والناس كأنهم قطيع من البشر يعيشون في كهف مظلم كل شيْ مزيج من الخوف والكراهية، عالم يسحق الفردانية والمجتمع يقع تحت سيطرة ” الرفيق ألأكبر”.
12
بينما عند هاكسلي الرقابة تكون ممتعة ومُسلية و يتلذّذ المتلقي بما فيها و ينتقل الأنسان في جوانبها دون تفكير في هذا العام يصعب الهروب من مغرياته فالناس سعداء فرحين بما لديهم و بما يمكنهم الحصول على مايريدون من مغريات السوق الحرّة، عالم يمنح الناس الغرور والزيف بأنهم المسيطرون، بينما في الحقيقة يقومون بما يؤمرون به في الواقع و يتبعون نهجه، ومن ثمة الناس تسمح لنفسها و بمنتهى السهولة أنْ تُخدع و تضلل، بل و يعتقدون أنّهم أحرار و يركنون إلى هذه المتعة و الانبساط، غير أنهم ليسوا كذلك إذ يعيشون في عالم من الخداع و الزيف و التزوير.
الخلاصة أنّ أرو يل رأى فيما نكره سيغمرنا بالشقاء، بينما هاكسلي يرى في كل ما نحب ونستمتع به يغمرنا بالسعادة اعتقاداً منا أننا فرحين في عالم يعج بالمنفعة بينما نحن أسرى هذه السعادة المزيفة. فتكون الحياة فيها لسيطرة العلم وصناعة المخدرات والعقاقير و بالانتهاء التدريجي للمشاعر الإنسانية، وتحت هذا النظام يظهر الأنسان سعيد غير أنه لا يحس بفقدان أثمن ما لدية وهي الحرية وبالتالي إهتمامه بالسعادة المادية يصبح أكثر من الاهتمام بالمعرفة، وهي سعادة آلية تفرضها التكنولوجيا فرضاً لما لها قوة و سحر فإذا أردت شيئاً ما في هذا العام فيكفي أنْ تضغط على زرٍ ليكون أمامك في التو ما تريد، ويفقد الأنسان عندها الشعور بالفنون الراقية ويركن إلى ما هو سهلاً و اكثر متعة، فالأنسان يتحول في هذا العالم إلى شيء شبيه بآلة تغذي نفسها وتطلب المزيد من أنتاج المنافع بأكبر قدر لأكبر عدد من الناس، كل منفعة فيها سعادة الأنسان. فضلاً عن أن الروابط الأنسانية تكاد أن تتلاشى وعلاقات الأسرة تكاد تختفي وفي كثير من الأحيان يفقد الأنسان القدرة على الحياة في عالم تسيره التكنولوجيا والعلم. في هذا العالم القائم على الترف والعبث والمنفعة الحسية والمعنوية والتفاهة، عالمٌ تحكمه التكنولوجيا والعلم عالم ملئ بالتضليل والتزوير يصبح الأنسان فيه مبرمج على نحو أنّه يتقبل العبودية على أنّها الحرية المطلقة. فأيّ عالم أقرب للحياة وأيّ رؤية أقرب للواقع، رؤية الدوس هكسلي ام رؤية جورج ارويل؟