شاءت الظروف أن أستقل سيارة أجرة متوجهةً إلى إحدى المؤسسات المصرفية العامة لأنجز معاملة تتعلق بوالدتي، تركت سيارتي عمداً في محاولة لتعويد نفسي من جديد على هذه الثقافة الصحية –بالرغم من المعوقات الكثيرة– مثل الطقس الحار والبنية التحتية غير المهيأة للمشي، وأردت كسر كل هذه العوائق لأصل إلى المكان المخصص لخدمة العملاء المصرفية.
وبعد الانتهاء من مهمتي عدت مشيًا على الأقدام حتى أزعجتني نظرات الناس، وبعضهم لوّح ببعض المفردات وكأنني من كوكب المريخ، باستثناء هؤلاء الشباب من ذوي الأخلاق الرفيعة الجالسين أمام مقهى في شارع البلدية، الذين ارتأوا أن يزيحوا بعضًا من كراسيهم لترك ممر المشاة المظلَّل بالأشجار أمامي، وقالوا لي: «تفضلي يا أبلة».
لكن سرعان ما وجدت خطواتي تقودني إلى شوارع فرعية، حتى لمحت سائقي السيارات يرمقونني بنظرات الاستغراب والتصيُّد المفرط لم أجد حيلة إلا أن ألتفت برأسي ذات اليمين وذات الشمال، وإذا بسائق «تاكسي» يناظرني ويأمل أن أكون زبونة الظهيرة وسط اكتظاظ غريب للسيارات، ولا أعرف كيف يقضون احتياجاتهم وهم يسيرون ببطء شديد. وفعلاً، لوَّح بيده لي قاصدًا الوقوف، وبمجرد صعودي ضحك قائلًا: «مش وقت مشي بكل!» أجبته: «نعم».
وعند بلوغنا مشارف منطقتي صرَّح قائلًا: «والله كويس.. أهو نحّوا المكتبة وبيبنولنا مول!» وكان يشير إلى أعمال الصيانة وإعادة التشييد لمبنى سوق الجمهورية سابقًا والقريب من مكان سكننا. لم تسعفني المفردات المحكَمة في ردي إلا بسؤالي له: «المول أهم.. تقصد؟»
أجاب مسترسلًا: «المهم الناس تلقى وين تمشي ‹وتتفرهد›، أما الكتاب ما عادش فيه فايدة، والثقافة ما عادش يدور فيها حد!»
مؤشر خطير عبَّر عنه هذا السائق الذي يرى في ثمن أجر التوصيل فرصة ذهبية للقبض على لقمة العيش، ويرى خروج المرأة مشيًا غير مبرر، ويعتبر غياب الثقافة عن المجتمع أمرًا مفروغًا منه، وأن الكتاب سلعة زائدة أو ترف للمعنيين!
نفس السائق يتحدث باسم أكثر من ثمانية ملايين مواطن تقريبًا، وعن عدد أكثر من ثلاثة ملايين وثلاثمئة وخمسة وستين تقريبًا من النساء اللواتي يمكن أن يقمن بتربية أبنائهن وتعويدهم على القراءة، وأن تكون المكتبات ذات جدوى في مجتمع يعاني من غياب المنظومة التربوية وفراغ كبير. وهذا ما غض النظر عنه قائلاً: «طريقك زينة أختي، وربي يسلم».