كان الولد صغيرا، لم يكمل عامه التاسع عشر، كان بنغازيا بكل ما تحمله الكلمة من مدلولات، كان ” عيل بحر ” كما يسمي امثاله البنغازيون، يمشي راقصا، رافعا يده متناغمة مع جسده الراقص كي يرد تحايا “عيال البحر وعيال البلاد “، يرى المدينة التي خبر شوارعها وازقتها واهلها مركزا للكون، فلا مكان يمكن العيش فيه الا بنغازي، ولا حلبة للرقص ولا إيقاع يطلق المكنون ويغور بالمحلق بعيدا الا ايقاع مرزكاوي بنغازي، ولابديل ان سألوه ” من الدنيا وازي” يقول “بنغازي”.
عيل بلاد كان و”عيال البلاد” كما ييسمي البناغزة ابناء مدينتهم، هم أولئك المعجونون بترابها والمنقوعون في “سبخاتها”، اولئك الطافحون بقلقها وتوترها.
“عيال البلاد ” هم مواويل بنغازي، فرحها وشجنها، وهم ايضا توترها وعنفها وتمردها حين يحين موعد الانفجار، هم تركيبة خاصة وغريبة، ليسوا ابناء قبيلة ولا اقليم ولا مذهب ولا طائفة ولا حزب، هم ابناء مذاق للأغنية وطبق للأكل وللوردة ولرائحة البحر، ابناء لذائذ الحياة، ابناء الايمان بالقدر، خيره الممتع الذي يعبونه حتى الثمالة وشره الاليم الذي يتجرعونه طربا، هم الاميون والمثقفون، العصاة والمؤمنون، متوسطو الحال والمعدمون، هم “العادلون” الظلمة، الطهرانيون، اعداء الانظمة والعسكر والبوليس في كل حين.
أما “عيال البحر” فهم تلك الطليعة المتمردة من “عيال البلاد” البناغزة، بحارة ارضعهم البحر حليب التمرد والمواجهة و التحدي.
والولد كان صغيرا، كان “عبدالسلام الحشاني” أو “سلومه الحشاني” كما تدلله بنغازي في العام السادس والسبعين من القرن العشرين لحظة الانفجار الليبي في بنغازي، لم يتجاوز التاسعة عشر من عمره حين انخرط في الحراك الطلابي والمواجهة مع ماكينة القمع الضخمة والمرعبة في شوارع بنغازي، كان يلوح بمقلاعه راقصا، كان قبضة احتجاج مرفوعة ضد الماكينة المرعبة. كان “عيل بلاد وعيل بحر”.
“سلومه” كان صغيرا ولكنه وكما يقول الليبيون “رضع حليب أمه بنغازي” كاملا، رضع التمرد والعدل والانسانية الحانية، رضع روح بنغازي وسرها.
رضع عشق الحياة وحتمية الموت، شرب خيرات القدر ختى ثمالته وتجرع شره مؤمنا بخيرات خواتيمه، ولذا سار منتصب القامة راقصا، رافعا ذراعه محييا بنغازي والطلاب والشهادة إذ أزفت.
ولكنه كان صغيرا، رغم تمرده وقوته وثباته بدا “عصفور جنة” وسط قفص المحكمة العسكرية، بدا ورفاقه ” عبدالسلام الجريدي ، جابر العبيدي ، فتحي البكوش، محمد القندوز ، توفيق الغزواني، فتحي التمر ، علي بالتمر ” بدو سرب عصافير حرية، تطلقها بنغازي في سماء البلاد، وتكبلها قوى القمع وسط قفص المحكمة العسكرية لتنطق بالإعدام والمؤبد لذاك السرب، لذاك المستقبل الليبي.
كانوا قد نصبوا المشنقة للحشاني وسط بنغازي منتظرين وصوله ليتم شنقه وسط الميدان كما تقول هتافات الفاشست الليبيين، اخذوه مكبلا من سجن الفاشست الطليان “البورتابيينيتو” بطرابلس، في رحلة طويلة الى بنغازي، بالضبط رحلة الف كيلومتر، ليتم الشنق وسط بنغازي اذلالا وقهرا لمدينة قالت ” لا ” للقمع وحكم العسكر، كان المخطط ان يصل صباح الخميس الى بنغازي ليشنق مباشرة ولكن القدر خيره هذه المرة، عطل السيارة قرب اجدابيا لساعات ليصل “سلومه” بنغازي ليلا، وتؤجل حفلة الشنق، لتكون الجمعة يوم ميلاد جديد للحشاني ويلغى الاعدام، ليكبر “سلومه ” معنا بالسجن، يمضي معنا اثنتا عشر عاما، راقصا في مشيته، ضاحكا في صباحاته، ثم قارئا للقصة والشعر والرواية، حالما كالعادة ببنغازي سماء للعصافير الطليقة.