أوبريت هكذا أنا
تهاني دربي أديبة ليبية متميزة جداً في كتابة المقالة التي تتناول الشأن العام في مجالاته جميعها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فلا تترك قضية رأي عام تمر من أمامها من دون أن تتناولها بالتحليل والمناقشة مفترضة في كل مقالاتها أن هناك قارئاً يناقشها فيما ترتأي من رؤية، هي كاتبة روائية لبقة تطرح المشكلة بوضوح وتقترح الحل الموضوعي البعيد عن الغلو والتطرف والقريب من ذائقة الأغلبية ولا يمكن لكاتب أن يتميز في فن المقالة إلاَّ بعد أن يكون قد عارك الحياة كثيراً وعاركته ويكون أيضاً قد اكتسب ثقافة كبيرة موسوعية في كافة مجالات المعرفة، فتهاني ليست كاتبة سلبية تترك الأمور تسير أمامها من دون أن تتدخل، فكل قضية تحدث في هذه الدنيا لابد أن أجد مقالة لتهاني عنها وبالطبع أحرص على قراءة هذه المقالة لأعرف رأيها في القضية المطروحة خاصة إن كانت قضية سياسية.
أما عندما كتبت عن الثقافة والأدب فتكون قراءتها بتركيز لأنها من الكاتبات اللاتي لا يعرفن المجاملة وأذكر في بداية الألفية أنني عرضت عليها كثيراً من النصوص قبل نشرها في الصحف ودائماً تبدي رأيها بوضوح فالنص الذي تقول عنه جيداً أشعر أنه جيد جداً، وأرسله سريعاً فينشر.
ولأنها قارئة جيدة فكنت أسالها عن الكتب المهمة والكتّاب المهمين وأذهب لإحضار تلك الكتب وقراءتها وأن تتم استحداث هيأة لرعاية المواهب الأدبية في أي مؤسسة ثقافية فستكون ناقصة إن لم تكن تهاني إحدى أركانها أو على رأس هذه الهيأة.
وليس معنى أنها متميزة في فن المقالة أنها غير متميزة في فروع الإبداع الأخرى لكن من وجهة نظري أنها في المقالة تقاتل جيداً، وعندما كنا مسافرين مع مجموعة من الأدباء إلى مهرجان العرعار الثقافي السياحي في مدينة مصراتة في الصيف الماضي أهدتني كتابها الشعري الأول الصادر عن مجلس الثقافة العام الليبي بعنوان ( هكذا أنا) وعلى غلافه كانت صورة ( سيبيل ) أو العرافة الليبية التي رسمها مايكل أنجلو على سقف إحدى كنائس إيطاليا الشهيرة، وكتبت لي في الإهداء كن رحيماً بي يا أصفر ومع خالص المودة، ولقد قرأت الديوان في مصراتة والحقيقة أنه أعجبني لأنه ديوان مثقفين قصائده معظمها تحيلك إلى أمكنة شهدت أحداثاً ثقافية أو سياسية عالمية وتستدعي لك تواريخ مهمة في حياة الإنسانية به رؤية الكاتبة للحياة وعلاقة المرأة بالرجل حسب وجهة نظر الكاتبة.
قصائدها معظمها مكانية، سواء المكان الجغرافي الذي عاشت فيه الشاعرة ردهاً من الزمن مثل إيطاليا أو الهند أو مصر أو أمكنة زارتها لفترة قصيرة مثل المدن الليبية والجبل الأخضر وما احتواه من مدن أثرية أو المكان الذاتي وهو النفس حيث تبث مشاعرها.
مواضيع القصائد مواضيع جميلة ومحببة ومختلفة، كل من يقرأ الديوان سيخرج بمعلومات كثيرة، لكن ملاحظاتي حول الديوان تكمن في اللغة.. فاللغة تحتاج إلى بعض المعالجات وإعادة الصياغة فمثلاً تقول الشاعرة في قصيدة هذيان ( 2 صفحة 29 ).
هل تعرف كيف تحب ؟
كن صادقاً وخذ وقتك للتفكير
وعندما تجيب تلعثم قليلاً
حتى أتأكد أنك فهمت سؤالي
وأخذته على محمل الجد
والأفضل من وجهة نظري أن تكون القصيدة كالتالي :
هل تعرف كيف تحب ؟
فكر بصدق وخذ وقتك
وعندما تجيب تلعثم قليلاً
حتى أتأكد أنني سألتك !
وأخذتني على محمل الجد
فالكثير من قصائد هذا الديوان الضخم الذي يحتوي على ما يقارب من مئة قصيدة تحتاج إلى ما اقترحته في التعديل السابق من معالجات لغوية ودلالية لتعطي القصيدة مفعولها بصورة أعمق، لكن هناك عدّة قصائد رائعة مسبوكة جيداً منها مثلاً قصيدة ( مساومة صفحة 132 ) :
يساومني بالعصا والجزرة
ونسى أنني أكره الاثنين معاً
أو قصيدة ( هوا صفحة 117 ) :
على أُرجوحة التكرار تشابهت الأيام
سأوقف وتيرتها بقفزة عالية
وبالطبع اقترح حذف بقية المقطع وهو ( أخرى في الهوا ) فجملة بـ ” قفزة عالية ” تكفي وفي القصيدة توظيف إبداعي جيد لكلمة : التكرار، أُرجوحة، الأيام، وتيرتها، أيضاً فعل وقف في حالته المستقبلية.
قصيدة أخرى جميلة في الديوان بعنوان ( حكم صفحة 116 ) تقول فيها :
يعز على العمر
أن يفيض كأسه بعسل الحكمة
ولا أحد يحتاج حلاوته
غير الذباب
هذه قصيدة كبيرة ورائعة ومؤثرة وخالدة وعميقة أيضاً ونابعة من روح تهاني الشفافة التي نعرفها جميعنا، قصيدة اختزلت فيها رحلة عمر مقدمة عبرها عصارة مركزة من رحيق الشعر الحقيقي.
في الديوان قصائد كثيرة تتحدث فيها الشاعرة عن أسرتها وعن حياتها وهو ديوان ضخم وأقترح أن تصنف قصائده وتصدره مرّة أخرى في ثلاث دواوين وكل من يتم قراءة هذا الديوان سيشعر مدى حب هذه الشاعرة للجمال والخير والأدب والثقافة والضوء وكل القيم النبيلة في هذه الحياة عبر ما قدمته من رؤى وأحدث ومشاعر ومواقف تعرضت لها هذه الشاعرة في حياتها الفائضة بعسل الحكمة الشافي لكل القلوب الجريحة، ديوان كالبيت كالسيرة الذاتية فكل قصيدة بها أشعة ضوء تريك زاوية من زوايا حياة الشاعرة فترى الشاعرة الأم والزوجة والحبيبة والمثقفة والمهمومة بهموم الحياة والمتعاطفة مع المرأة.
ديوان ترسم فيه صورتها بصدق وتقدمها في إطار على شكل كرة لا أضلاع لها يرى من وجوه الحياة جميعها، يدور كما الشمس ليضيء كل من يراه، لم أتعب كثيراً في فهم هذه الكاتبة والشاعرة بعد قراءة ديوانها هذا، كانت صريحة جداً، لم تطمس شيئاً عرضت تجربتها برؤية شعرية، رسمت لنا اللوحات وعزفت لنا الموسيقا وأخذتنا معها إلى مدن تاريخية زارتها اقتسمت معنا متعتها الأدبية والفنية وغنت لنا أوبريت جميل عنوانه هكذا أنا.
لقد قدمت لنا هذه الشاعرة عبر الديوان درساً مهماً اسمه هكذا أنا، درساً اسمه الصدق فلو كل إنسان كان هو أو صار هو لعمت الشفافية والطهارة والحب أركان الدنيا، لكن مشكلة الإنسان لا يريد أن يكون هو ويريد أن يستمر في لبس القناع حتى يخدع نفسه التي تفضحه دائماً بأنه بطل وإله وخالد، فالصدق عند الضعفاء هزيمة غير مقبولة والخداع والقناع والزيف انتصارات وهمية تكتظ بها الحياة.
في هذا الديوان رأيت تهاني ولم أر غيرها.. استمتعت بالقصائد التي أعجبتني والقصائد التي لم تعجبني تركتها لذائقات أخرى أحترم اختياراتها وأقدرها.
أي إنني قطفت من البستان الأزهار التي أحبها وزرعتها في قلبي إلى الأبد وتركت في البستان أزهاراً أخرى لبقية قراء هكذا أنا.