أسئلة الروح الحائر واجتراح فلسفة العدم
جميل حمادة
كتاب الوهم هو أول ديوان مطبوع للشاعر والكاتب عبدالمنعم المحجوب، ولكنه ليس الأول بالفعل. فللشاعر ديوان آخر سابق لم يرض عنه وتجاوزه، فأهمله وألقى به في مؤخرة الذاكرة. كان اسم تلك المجموعة الشعرية “أزرق الهجرة أبيض السؤال”. وكانت في اعتقادي مجموعة فريدة وجيدة فيها الكثير من تفرد الصورة وغرابتها وقدرتها على الإدهاش معتمدة على توفر إيقاع خفي بسيط. ومع ذلك، ففي أثناء مراجعته للسحبة التجريبية لتلك المجموعة لم يتقبلها الشاعر، فقرر إلغاءها، وأنا شخصيا لمت صديقي كثيرا على إفناء ذلك الديوان وشطبه من قاموس كتبه.
على أية حال، ليس هذا وقت البكاء على الأطلال (!) فما مضى قد مضى، ونحن الآن بصدد هذا الديوان الجديد الفريد.
توطئة مختصرة حول الشعرية الحديثة وقصيدة النثر:
كثيرون هم الذين وقفوا ضد قصيدة النثر، وأعني هنا التفريق بينهما، فأنا أفهم أن قصيدة الحداثة تقع ضمن مفهوم شمولي، يتعلق بكل أشكال النشاط الإبداعي وأجناسه، أما قصيدة النثر، فكلنا يوافق على أن هنالك محاولة للاصطلاح على شكل نثري من القول الإبداعي الجميل، أو لنقل النثر الفني، للإقرار بكونه شكلا شعريا، دون الالتزام بقواع القصيدة الكلاسيكية المتعارف عليها. وسواء رفضنا ذلك الشكل أم أقررنا بوجوده، فقد أصبح موجودا. “وإن القوانين تلك موجودة مع أنها قد تتغير من شاعر إلى آخر، وإن طوبوغرافية النص الإبداعي تتيح لنا إمكانية الحكم على شعرية النص أو عدمها”. ولا يستطيع أي منا أن ينكر بأن حياة الإنسان تتجدد وتتغير أشكال نشاطه، ولذلك تتغير قوانينه وأحكامه وما يستتبع ذلك من نظريات، “لأن الإنسان وعالمه والواقع الذي يعيش فيه إنما هو ثمرة نشاطاته الفكرية الخاصة به إلى حد كبير، وأن طبيعة تجربته تسيطر عليها بقوة المصادر التي يستخدمها لجعلها في متناول الوعي، يقول جاكوب كورك ويضيف “إن الفن والأدب، بل كل صيغ المعرفة والتعبير، تحتوي على طاقات خلاقة كبيرة لا مناص لها من أن تتدخل في تركيب المادة التي تعالجها..” ويقول أيضا “بأن كل وظيفة أصيلة للروح البشرية لها هذه السمة الحاسمة ذات المعرفة الادراكية، فهي لا تقوم بمجرد الاستنساخ بل أنها تجسد إلى حد ما قوة وصلابة أصيلة”. (*)
المحجوب ومحاولة نحو تجربة صوفية معاصرة:
يمارس عبدالمنعم المحجوب التجريب في الحداثة الشعرية انطلاقا من تراث النثرية الصوفية العربية وتشعباتها الإسلامية التاريخية وتباين مصادرها. وأعترف لكم بلا غضاضة أنني أرهقت كثيرا في دراسة “كتاب الوهم” هذا وأجهدت نفسي حد أنني كنت استيقظ الرابعة فجرا لكي أكتب أفكارا بعينها تعن لي ذات إكتشاف أو إيماض. ولا أنكر أنني حاولت الاجتهاد في البحث عن مصادر المحجوب الصوفية واللغوية، كما فتشت في الذاكرة عما لم تمكنني لحظة الكتابة المحددة من إيجاده في تراث المتصوفة المتوفر لدي.
كتاب الوهم وثنائية الخفاء والتجلي:
ضمن هذا النسق الثنائي سوف نحاول قراءة كتاب الوهم، انطلاقا من ثنائية صوفية ربما تكون مختلفة عن طموح المتصوفة عادة وهو ذوبان الذات الكلي في الذات الالهية، ودليلنا إلى هذه الثنائية هي النص التالي الذي يطرح فيه الشاعر قدرة الذات على الاختفاء في المكان الذي يتعذر الاختفاء فيه، في الوقت الذي يكون الاختفاء في الغابة “مثلا” أمرا عاديا:
(بينما الغابة تعلم الخفاء
تكون الصحراء امتحان الخفة) “16”
لقد تبين لي أن الشاعر عبدالمنعم المحجوب يكتب صوفيته انطلاقا من تلك الثنائية الجدلية التي اعتمدت على تبادل العلاقة بين عنصرين هما لب الطموح الصوفي، ألا وهما ظاهرتي “الخفاء والتجلي”، ولكن ضمن فهم الذات لهذه الجدلية كان يتحقق لها ذلك في بلوغ حد من الإيهام اللغوي بالتحقق. وبمعنى آخر نقول؛ أن تلك الثنائية حتى ولم تتحقق بالفعل بالمفهوم المادي، إلا أنها كانت تحقق ذلك من خلال الوسيط اللغوي.
وعبر تغليب للتجريد المطلق المضاعف، كان يوغل الشاعر فيما وراء الميتاطبيعة، أي أنه كان يمارس تجريد الأفكار ذاتها. يقول عبدالمنعم المحجوب في القصيدة الأولى، بعد أن يبرر الوجود كله بآلية الوهم، معتمدا على قول لسان الدين بن الخطيب: (الحركة وهم، والزمان وهم، وما ثم إلا خبر مجرد لاشيء منه في الخارج) يقول:
“كلمتي صمت يستدر الصمت أن ينصت أكثر” إنه يريد للصمت أن ينصت أكثر، وهذا ما نسميه تجريد الفكرة حتى من أسس المعنى الممكن. ودائما يضع الشاعر بين السطور فكرة متممة للمعنى لكنه لا يفصح عنها. فيقول أن إنصات الصمت هو معراج إلى ذاته. وما ذاته تلك التي أخذت ضمير الغائب إلا هو نفسه، غيبها لكي يحل فيها غائبة فيصبح الأصل سراب والسراب أصل لايرى، ويفصح عن ذلك في أكثر من موضع:
(كلما أشفق على نفسه تعاوده الحمى
كلما استفاق رأى صورته أمامه
يعود ثانية يغيب في طلب الأصل)
لقد أوغل الشاعر في استخدام الرموز الصوفية طامحا ليس في بلوغ جمالية اللفظ وتفرد الصورة بقدر ما حاول تحقق اختفاء الروح وذوبانها في قدسية التأمل، ولا نريد أن نقول في ذات الله، لأنه لا يعلنها لا بالتصريح ولا بالتلميح، ولكننا نفترض جدلا أنها طموحه النهائي، لأنها لا تتبدى إلا عبر البحث عن دلالات مواضع الروح في الخفاء ثم التجلي ذاته.
وهو بذلك لا يبتغي أن يكون طموحه نسخة عن طموح المتصوفة، وإنما كان محاولة تدريب الروح على الاختفاء في سرابات صمتها الذي يفترض أنه “انقطاع” فعلي عن الكون، وعزلة تخترعها الذات لروحها، حتى تبلغ أقصى طبقات التجلي لصاحبها. كما أنه يختبر الروح في سبيل هذا التحقق بقدرتها على الصمت، الذي يعني العزلة:
(قس صمتك وأنصت إلى متى)
إلى متى تستطيع الروح الصمود في العزلة، حتى تبلغ مرادها الغامض.
وفي اعتقادي أن عبدالمنعم المحجوب قد تبنى في هذا الديوان آلية إبداعية- ولا أريد أن أقول شعرية- مؤداها؛ الانتقال عبر نظام التكثيف اللغوي من بساطة الومضة الشعرية إلى حدة التغميض اللغوي منطلقا من إلغاء التناقض بين المفردات في نظامها اللغوي، في محاولة للوصول إلى شعرية صوفية مغاير تستمد شرعيتها “المزعومة” من إبهاماتها. أي بمعنى أنه لا يعترف بهذا التضاد بين الأصل والصورة، لأن الصورة صورة الأصل، ولا يقيم وزنا للتضاد بين الضد والند، ربما معتبرا أن أصل الأشياء واحد، وأن هذا الإيقاع الواضح بين الضد والند ما هو إلا برهان على واحدية الأصل، وما غيره سوى تفرعاته التي جاءت من جذره، مثلما نقول مثلا أن حواء خرجت من آدم، وعلى الرغم من أن آدم ذكر، فقد كانت حواء الأنثى، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة وخلقنا منها زوجها). إذن فالأصل والضد خرجا في الأصل من خلق واحد. وفي هذا الإلغاء لأشكال أو أحوال التناقض بين الشيء وضده يقول: ((خط سماء أم برج هو/ نقطة طير أم حجر هي)
من موه المبدأ بكل هذه الدقة))
إنه يعتبر الفصل في إلغاء التناقض بين حالتين متباينتين هو المبدأ وتمويه المبدأ بكل هذه الدقة يستوجب التساؤل. ثم يعزو هذا التمويه إلى خطأ بشري، ويبرره بحيازتنا لناموس الخطيئة؛ بأنه “معطى لنا أن نزل من المهد إلى اللحد”. وفي إلغاء الفوارق من ما نزعم بأنه التناقض يقول فريدالدين العطار في وادي الطلب: “.. وأن يجتمع الكفر والإيمان أمامك فستقبل كليهما حتى يفتح لك الباب، وحينما يفتح لك الباب يتساوى الكفر والدين، حيث لن يبقى هذا ولا ذاك..” كما فعل الشبلي حين لم يفرق بين الرحمة واللعنة وأعلن غيرته من ابليس لأنه حظي باللعنات من البارئ العلي، أما الشبلي فقد ظل كسير محترق الكبد. يقول الشاعر: “ماالوهم. أنك تمتص ضدك وكل حكمك لام النفي”. إن الروح هنا تبحث عن إشراقها في النفي بعد توحد الأصل والضد. إنه ينكر هنا الضد ويعتبره لب الوهم، باعتبار الواحدية التي تنفي الضد، كما تنفي الشعور بالذاتية. (فمن واجب الصوفي ألا يشعر بذاتيته، لأن شعوره بالأنا فيه شعور بالاثنينية والشعور بالاثنينية شرك، ولذا يمارس هو إمتصاص الضد باعتباره وهما، وإفناء الذات بحكم النفي للوصول إلى حالة التوحد”.
صوفية صناعة السراب والذوبان في سراب الأصل:
“أذهب مني إلي ولا أصل” “أشرب لأرتوي سرابا.. أواصل لأسقي الآخر سرابي”
أحلم لئلا يخدعني سراب الآخر/ أواصل لأخدع بسرابي..” الصوفي نفسه صانع سراب ماهر”.
كل هذه وغيرها من مفردات التخفي والتجلي، هي زاد الصوفي ناشدا الذوبان في ذات الله التي يجدها أو يهيأ لروحه أن يجدها داخله. ولذلك فإنه يستعين بها “اللغة السامية” كي يبلغ مدى روحه الذي يظل يعتقد بأنه عسير المنال، إلا عبر لغة غير التي يعرفها العالم المرئي. لذا فإنه واصلا إلى الاعتقاد بحقيقة سرابه، رغم معرفته بحقيقة سرابه كخدعة ووهم، إلا أنه مرتاح لهذه الخدعة (أواصل لأخدع بسرابي) يواصل التوهم ولا يقاوم ثباته في أعماق روحه كحقيقة منشودة – رغم أنها لم تتحقق بعد-.
حيرة الروح:
استخدم الشاعر في “كتاب وهمه” كما هائلا من المفردات التي تحيلنا إلى تراث الصوفية العربية والفارسية الإسلامية، والتي لا يطمح الشاعر من خلالها – بالضرورة- بلوغ ما بلغوا، بل إلى إكتشاف السر في اختفاء روحه في ذاتها على طريقته، وذلك من خلال ثنائيات تقود دائما إلى ثالثة مثل؛ الشمس والظل بحيث تبلغ السلام، والصورة والأصل هي الأنا، والضد والند بالغان واحدا في المرآة. يقول العطار: “فيا خفيا في الروح وأنت خارجها، إن كل ما أقوله ليس أنت وهو أنت أيضا”. وفي هذا السياق تبلغ الحيرة بالشاعر متصوف القرن العشرين حدا ليتساءل عنها قائلا: (ما الحيرة. إذا أينع الصمت وليس في يدك أن تبقيه على شجرة الكلام) إنه يخترع عشقا آخر في الصمت، الذي ينشد من خلال تلاشي الروح في ظلاله، دون أن يعلن ذلك، كما فعل الصوفية الأول. يقول فريدالدين العطار أيضا: “لكنك إذا خبرت العشق ولو قليلا، فسترى العيوب كلها أفضالا”.
وبعيداً على مطمح الشاعر في أن ينشد البلاغة في القول، بمعنى أن الشاعر لا يهدف إلى بلوغ مرتبة في البلاغة بقدر ما ينشد اجتراح الصورة المدهشة لتجلي حالة الخفاء من خلال إبراز “البرادوكس” اللغوي، مضيفا إياها على حالة الصحراء والغابة، كثنائية تصل إلى ثالثة هي امتحان الخفة، وكأنها اختبار للروح وتدريب على التخفي.
أما أثرك الذي يجعل الشاعر يتساءل: أن كيف له أن يسبقك، فهو يقع أيضا ضمن ثنائية الثبات والحركة. فالأثر يسبقك لأنك متنقل وهو ثابت، رغم أنك صاحبه.
وهو يريد للذات أن تغوص أعمق بعد أن ترمم أشباهها، بفرضية أن تنزع منهم التناقض مع الأصل الواحد (رمم تشابهك/ صحح أشباهك وماءهم) وأن تغور أعمق كما لو أن وجهك سينطفئ. إنه طريق يبدأ بالغوض في قاع الظلمة والتلاشي في أحد الفناءات، في الوقت الذي تنشد فيه الروح النور (كما لو أن كفك تضيء/ وأن نبعا آخر يشتعل) وكأنه يريد أن يقول لنا أن الغوص في القاع هو انتقال من عالم إلى آخر، وهنا يعلن الزمن عن لانهائيته من خلال المكان (القاع). لاحقا هناك، ثم يعلن المتصوف عن هويته؛ مستعينا بنفس معطيات التحول الحركة، الثبات، الإمحاء، النفي، يقول: الهوية: لا- ثبات، تبدل وإمحاء/.. التاء مجال الاجتراح) هو افتراض لصور الروح، من خلال التاء، وتبدلاتها من خلال أن يكونا نفسا واحدة. وحتى تبرز الهوية لصيقة بالوهم تكون “الأنا؛ هفوة لساني بين الظلال وبين الضلال” وتتبدى الهوية بداية بمعطى المعرفة، فكأنه يقول: “تكلم حتى أرى فعلك وأمنحك الهوية” (!).
مساكن اللغة:
لا يكتفي الشاعر بالبحث عن الهوية في متن اللغة، وإنما يبحث كذلك عن البيت في تشكلاتها. يقول: إنما نغادر- نسكن من البيت حرف التاء. فكأنما البيت الذي يقبل على الرحيل نسكنه في التاء، أما البيت الذي يمنحنا سكينته، فهو يهبنا الباء، بعد التعريف، أي في المتن، أما حين أقامنا في رجفة الياء، وكأنها تحاول أن تلتف حولنا لتشعرنا بألفة الباء، حيث كل مرة نسكنه، نجزم أنه وضع لنا”. ويصير البيت أحوالا مبنية على تبدل أوضاع الكائن؛ بمعنى أنه: (في كل مرة يكون خارجا/ يحن أن يكون داخلا) وتصبح المسألة دائرة تسير بكل هذه الأوضاع المتبادلة بين الكائن وأشيائه ومن ضمنها البيت. إنها دائرة الضياع.
ثم تأتي الكلمة لتصبح دليل الشاعر ليصل إلى ما ينشده أصلا في تكريس الوهم كحالة الفعل، وكأنه في الوقت ذاته يقدم تعريفات غير مطروقة للمعرفة منسحبة على الكلام، يقول عبدالمنعم المحجوب: “الكلمة الفخمة رذيلة/ الكلمة العابرة ذات أجراس/ الكلمة التي تعلم قاتلة/ بعض الكلمات رجاء خلق فاسد/ بعضها حشد آلهة في فوضى/ الكلمة – الفعل وهم أصيل). إنه أيضا يعمل على إلغاء هذا الفارق بين الأصل والوهم، بين الكلمة والفعل. ثم نعود إلى البيت ثانية في قراءة استكمالية، وكأن الشاعر المتصوف يريد أن يستكمل بناء الغرف والشرفات، وأن يبحث عن إمكانية سكنى للمتصوف في بيت ما، فيقول في القصيدة (35):
(البيت رأى الميم كما هي
مغلقة كمحارة الذات/ ممتثلا للألف/ متمثلا به
البيت حل عقدة الميم/ صارت باء مفردة بحدين/ بينهما النقطة لا يلتقيان)
سوف يتساءل القارئ، عن أي ميم تلم التي رآها البيت يتحدث الشاعر؟ أقول في تأويل أول، انطلاقا من معطى نظري أولي إشتغلنا به منذ البدء وأعلناه، مؤداه أن الشاعر يكتب بناء على “تضمين مضمرات شعرية مستنتجة” يفترض في القارئ المتأمل أن يبلغها.
هذا التأويل ينبني على فرضيات وجودية تقول: “أن البيت موجود، وهو للسكن الثابت، المستقر، وأما المنزل فإنه إقامة مؤقتة” ينظر البيت إلى الميم – وهنا نؤول هذا الميم باعتبارها (ميم المنزل) ونتصور أن البيت سيتمثل المنزل نازلا – أي من النزل، ومن ثم النزل) وهنا سر الإقامة المؤقتة (الميم) أما (باء) البيت فقد تحولت أصلا من الميم التي حل البيت عقدتها.
أما التأويل الثاني فهو أنه حين حل البيت عقدة الميم، فصارت باء مفردة بحدين “أي شقين، بينهما النقطة لا يلتقيان؛ أصبح الباء تاء، فكأنها باء البرزخ الذي له ضفتين، وهي هنا تصير قابلة للثبات والديمومة، وهنا “بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان”.
فلسفة العدم؛ في المكان والجسد:
ثم يعاود سؤال: الأين – المكان/ الهوية: أين يقف، وهنا ينظر إلى نفسه ليعرف أين يقف هو، وهنا لا يحدد المكان إلا من خلال اكتشافه لموقع أناه، وكأن هنالك رغبة في الذوبان أيضا، ولا يكون مثل أحد، كأننقول مثل النفري، أو الشيرازي مثلا: (الصمت كاف إذا بطل التشبيه) إنه يستعمل الصمت هنا بديلا عن التشبيه، فيلغي كافه لكي لا يشبه أحد. وفي الوقت الذي يكون فيه (الصمت إناء سيدركه الفيض بسعته صمته) فينطقه حتى يقول فراغه، يصبح الجسد العاري إزار ذاته، فالجسد هنا طوق ورداء، وكل كائن له فراغه الذي يحرسه. أن العراء هنا رديف للفراغ، والفراغ رديف للصمت، والصمت أحد أشكال الوهم، وكل تنأى بعيدا باللغة لتخلق فلسفة العدم، أو الفناء المطلق الذي يحيل الكائن إلى تسبح في تخيل القدرة الخارقة للروح في نفي الجسد، وبالتالي في اعتبار وجوده غير موجود.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أنه لا يتبع بقية المتصوفة في نفي التثنية، باعتبارها شكلا من أشكال الشرك بالذات الالهية، والإيمان الحقيقي هو بالوحدانية، إلا أنه يريد لهذه الروح أن تصنع التثنية من داخل واحديتها، لأنها من طبيعتها، وهو هنا يقر بطبيعة خلق النفس من النفس ثم ينفيه للوصول إلى التوحد، فهو يقر بقدرتك على التثنية ولكن من خلال الواحد، كما تصنع المرآة بالأشياء، أي أن تصنع مرآة نفسك من داخلك فيقول: كن مثنى/ قابل كيانك/ بمثل ما تصنع مرآة بك) وهو هنا يعتبر الروح مسؤولة عن هذه القدرة، فيلقي على نحو تمجيدي مبهور قليلا بالفعل؛ فعل “كن” الوجود والكينونة وهو فعل الله عزوجل “كن فيكون”. فيقول: ((يالـ “كن”/ ذات عنق البينو، قد لا تترك وراءها سوى رماد الطائر نفسه)) (يريد طائر الفينيق)). وعلى نفس هذا المستوى من المعنى، يناول الظل كبديل للأصل قابل لتكرار الذات من الواحد، والمرآة هنا كذلك مرادف آخر تضاعفي معاون على تكرار “ظل الأصل”. وأرى أن هذه الصورة هي محاولة أخرى لتمثل شكل من أشكال التناسخ الروحي مستعانة بالمرآة كأداة لتحقق الأصل أو للقبض على الظل، لأن الظل في المرآة أصل.
إن هذه المجموعة مكتزة بصور هائلة جميلة تخرج من الغيب لتدخل في غياهب غيبها الخاص بها، دون أن تقدم ملامحها بإفصاح لأنها تحيا في الخفاء بناموس الخفة. إنها صور موجودة لكنها مستعصية بل ومستحيلة، لأنها تنطلق من الروح المجرد، الروح السرابي، لتنطلق إلى آفاق متجاوزة لأبعد من ذلك لتلج أغوار النفس، وتخيلاتها، وتغوص وراء الأفكار، ومحصلاتها التي لا يبلغها إلا كل من زهد في الدنيا، وهجر همومها وغرائزها، هواجسها وأحلامها، أكلها وشرابها، متعها وشهواتها، ناشدا البحث عن عشق متفرد، يبحث فيما وراء الأشياء، متجاوزا أبعادا العينية المادية، وأفكارها القريبة.
_________________________
الهوامش:
1- منطق الطير- فريدالدين العطار النيسابوري، ت: د.بديع محمد جمعة – بيروت.
2- اللغة في الأدب الحديث – جاكوب كورك – ت:إيمانويل عزيز و..
3- قصيدة النثر – سوزان برنار- ت: دار الشؤون الثقافية – بغداد1994