في عيون كلماتي حنين صارخ يندلق من الأحشاء ومن كبد الروح ومن منعطفات وأقبية الذاكرة ويتنزل صهداً ولهيباً فوق الخطوط، فوق هامة الحروف المتراصة التي تتنضَّد بغنج ودلال راية تخفق بالرؤى وبالأماني، أطرافها موسومة ومرصعة بالطلاسم والتعاويذ الموغلة في القدم، تحت الراية يترجل فارسا متأهباً لتفسير المعاني وبعض الكلمات وخواتيم القصائد، متوتراً ينتابه القلق ساهراً على راحة البوح، يسعى، تتسم خطواته بالأناة وبالصبر وباللهفة، اشتياق يسد الفراغ الضئيل بين السطر والسطر، يتضاءل البون الشاسع بين المعنى والمعنى لكنها تتعدد القراءات، يا الله أي حنين هذا الذي يتصاعد من جوف الكلمات وبين كواحل الشعر وخلف الألفاظ البعيدة وفواصل الكلام، وأي لهفة هذه؟ يا لهذي الأبجدية القادرة على احتواء هذا الكم الهائل من الهول ومن اللهفة..؟!! في أقرط أبجديتي المتدلية أهواء مبتكرة وعوالم يطيب لحضورك أن يتعثر بها ويطيب لها الإحاطة بحضورك فلا تخرج من دائرة صنعها فرجار حنيني.
من أقراط أبجديتي يتدلى ضوء أزرق ناحل، ينوس ببطء يبحث عن ملاذ آمن، يعرف خطواته إليك، يتوق لدعوتك لقراءة أحد أشعته الخافتة التي ترتعش عشقاً قديماً معتقاً بغبار كالفضة، مرسوما بيد زمن رائق، أحد الأشعة كان يختزلك في بهرة شفافة تومض كالبلور، هدب من ضوء كان يكتب حضورك الأنيق، خيطاً ناعساً يشاكس طرف عباءتك المعلقة على مشجب منفاك، وأخر يسعى ليلامس دمعتك المعلقة بين الرمش والرمش والتي تأبى السقوط إلا على تراب قريتك البعيدة.
لا أريد أن أبيح ذاكرتي لك دفعة واحدة، ولا أن أفتح لك كل خزائن الروح، ولا أريد قراءة محطات الانتظار الممتدة عبر العمر، ولا أن أفيض بالكلام عن حضورك، الذي بات يملأ مكاني وزماني ويرمي بي عند حدود وطن كان عامراً بالياسمين والشيح والعنبر…
هذا الحضـور الذي يملآ قلبي طمأنينة عن مدننـا، عن بساطة البدويَّ فينا، عن تعثر طفلتين في الطريق خلف جدتهما… الأولى تتعثر، تسقط، تمسح دمعتها، تمسح التراب عن ثيابها وجرح ركبتها… الأخرى تجرها، تحثها لتلتحق بالجدة التي تحمل حقيبتهما المدرسية وتحمل نظرة حذرة توجهها لكل غريب قادم إلى المدينة “البيضاء” الصغيرة… الطفلة الأولى هي أنا، عن مدرستي وقلم الرصاص المميز الذي أهداه إلى والدي بعد خروجه من السجن، عن فطوري البسيط المختلط برائحة حبر الكتب المدرسية الجديدة، عن المواد البسيطة التي نصنع منها “عرائسنا القماشية”، عن المثلجات الرخيصة التي تبيعها جارتنا،عن الفرق بين شارعنا الحبيب والشارع الخلفي حيث تسكن العفاريت، عن حكايات جدتي عندما تنقطع الكهرباء، عن رغيف “التنور”، عن ميراثها العريق من أهازيج الصحراء و”غناوي العلم”، عن وشمها الأخضر المرسوم بدقة المتعانق مع عروق اليد النافرة، عن رائحة الحناء في كفها وهي تتحسس بها حرارة جسدي الهزيل، وأصابعها المخضبة التي ترتعش حباً عندما تتخلل خصلات شعري الفاحم وأنا أتدثر تحت لحافها نائمة، شذى حبات عقد العنبر التي تتزين به وحبيبات الريحان المختلطة بالمسك التي تدسها بين طيات ملابسها، عن عقد “المحابيب” التي تجمعها حبة حبة وأساور الفضة، محفظتها حيث النقود وحبات الحلوى، رعشة قلبها وهو يرتجف دفئاً ليغير اتجاه النبض والدمع أمام نغمة “مالوف طرابلسية” عن البهاء الكاسر معها، عن أنفاسها اللافحة في حضرة بوادينا، أن أشرح لك ما يفعله هواء “المرج” ونسمات الجبل بكيانها…
ولا أريد أن أختلي بك في عرس شعبي نتبادل الغناء لنقتحم به مواقيت الوطن بفرح لذيذ وعربدة تثير الأشجان تحت سماء “برقة” ومطرها الحميم يغمر جسدينا ويفيض بالبهجة… كم أتمنى أن أحدثك عن فزان، والواحات، عن تذوق لذة الشاي في “الباكور”، عن كل مدينة في الوطن، عن كل قرية ملأتْ سماء الروح بالقناديل والفرح والأغاني…
لكني كنت مجبرة على الانسحاب والاستدارة، مجبرة على الرجوع، على النكوص، فمغادرتك بشكل مباغت أوقف فيض الكلام في حلقي، غادرتَ وانسحبتَ، رضيتَ بالغربة ما إن هزم الغرباء ربيع الوطن الكاذب الذي جاء كاحتمال سقط سهواً من خلف ردهات التاريخ الموحشة حتى تركتني ورحلت ظلماً.