المقالة

مجلة المؤتمر.. عندما رفعت ألوية المعرفة .. من عرين الأسد

مجلة المؤتمر

بمنتصف التسعينات كنا جمع صحفيين نحضر مهرجان المدينة ببنغازي وفاجئنا الكبير (احمد الفيتوري ) بعدم حضوره لأي نشاط رسمي للمهرجان ..فهو كسجين سابق كان يحترم وبشدة سنوات اعتقاله ومحنتها، لكننا  فوجئنا في اليوم الثاني للمهرجان به وهو يقف  ليجمعنا خارج مقر اقامتنا بالفندق، ليزور بنا بنغازي التي لا يراها غير مثقف بمثل قيمة الفيتوري  (والتي دون سيرتها لاحقا بكتابه سيرة بني غازي )  ..اذكر اني سألته حينها..

ـ لمَّ ..لم تحضر نشاطات المهرجان الرسمية ؟؟..

فقال لي وهو يحث الخطى (الفيتوري لمن لا يعلم  من المثقفين العرب الذين اصطلح على تسميتهم بالمشائين ) اجابني حينها (وهو يقوم بأكثر من عمل وبضربة سهم واحدة  يشرح للزملاء عن أقواس بنغازي، ويحث الخطى نحو بيت أحمد رفيق المهدوي، ويمنحني ثواني لأجل سؤالي )

ـ يا زكريا ..أنا هامش على متن الأحداث هذا دوري  وما اقوم به وهو  أكثر تأثيرا وأطول عمرا وهذا ما أفخر به .. كانت كلمة قالها ومضى  لطريقه ……..وفعلا ها أنا الآن نسيت كل ما دار بالصالات  الرسمية بذاك المهرجان (مع العلم اني دونت أغلب  أحداثه وراسلت بها الصحيفة  بشكل يومي ..زمن الفاكس يا حسرة ) ولا أذكر إلا بنغازي القديمة بقيادة مرشدنا  (أحمد الفيتوري ) بل أذكر كل ما قاله لنا أثناء الرحلة.

ما قاله (الفيتوري ) يومها  لم أجعله كلمة تذهب مع نسيم بنغازي الشتوي الذي كان كصفير (فلوت )  يكر تحت اقواسها القديمة بل اعتبرته حكمة ، وعلقت بذاكرتي ولم تغادرها الي يومي هذا ..

حين التحقت لأعمل ضمن فريق مجلة ( المؤتمر ) والتي كانت طوال سنوات صدورها الثمان لم تكتفي بدورها كدورية فكرية ثقافية شهرية  فقد رافق كل عدد صدر منها مجموعة أخرى من المنشورات منها  الكتب التي رافقت كل عدد من صدورها الشهري والتي فاقت ال340 إصدار كذلك  الكتيبات التي توسط صفحاتها  والتي خصصناه للأبحاث والدراسات الأكاديمية والاجتماعية أغلب الأحيان  إضافة  لمجلة (المؤتمر الصغير)  التي  كانت هدية داخل كل  “مشمع” غلف كل عدد من  اعداد (المؤتمر ) .

 كانت (المؤتمر ) مؤسسة ثقافية  مكتملة  كسرت قاعدة احتكار الدولة للكلمة وحريتها  كسرت سلاسل الجمود وتقيد أي حركة  فكرية او ثقافية  وكانت تلك سياسة اعتمدتها الدولة ونظامها  لأكثر من ثلاث  عقود ، لذا جاءت المؤتمر لتكسر كل تلك المحرمات  والقيود فكسرت قاعدة احتكار المطبوعات  واصدارها وطباعتها ،  اضافة لكونها (أي المؤتمر) كانت صوت مغاير وهادي وهادف للتغيير وصدر من رحم الدولة نفسه ..

نعم كانت صوتا هادئا في  (دولة لا تعرف الا الصراخ والزعيق ) جاءت المؤتمر لتكسر احتكار الدولة لكل العمل الإبداعي والثقافي وأودعته في سجون الكتب ومنافيها مما غيب ذهن وعقل المواطن طوال تلك العقود التي سبقت ظهور مجلة المؤتمر  .. جاءت (المؤتمر ) لتلغي كل ممنوعات الدولة بل ورقابتها بل بلادتها في معاملة الكُتاب وكتبهم ، انهت عصر قبور الكتب ومنافيها ..كسرت احتكار صدور الكتاب  لسنوات طوال على وجعلته حكرا  جهة واحدة وهي الشركة العامة للنشر والتوزيع والاعلان .. والتي كانت القناة الوحيدة التي تملك حق منح الترخيص لنشر أي كتاب  واصداره وكان تحت اشرافها اهم فروعها ( مكتب الرقابة على المطبوعات ) والذي له  كانت له سلطة قاضي في حين كان بالمزاج يرمي كتاب لسلة المهملات ولو لعشرين عاما ولا من رقيب عليه  ..  يحكى ان كاتبا وضع كتاب  بيد يدي هذه السلطة  وانتظر طويلا فرحه بإصدار مطبوعته  ، لكن للأسف كان الرفيق الأعلى الاسرع اليه  ،  فاختاره لجواره و ليخرج الكتاب بعد رحيله وبسنوات ولأسف لم يوجد احد ليوقع  حتى ايصال استلام الكتاب  .

مجلة (المؤتمر)  تستحق الكثير من الدراسات والابحاث والوقوف عند تجربتها الرائدة …….تستحق شكر كل من ناضل لأجلها ليخرجها مكتملة الاستدارة  والاستنارة  ، ومهنيا لم تغفل حرفا من ابجد هوز شروط الحرفة .. مع ذلك هناك ومن قلب نظام من عارض وبشدة وبشراسة كل ما نشر  فيها  ( لم تكن مجلة المؤتمر ) مجلة ضد احد ولم تكن موجهة للوقوف في وجه فريق ما ، كانت فقط مجلة تلتزم  شروط المهنية  و الموضوعية  التي الزمت بها نفسها ..

كانت ليبيا ومستقبلها والقضاء على الجهل والانطلاق بها لافق  التنوير هي هدفها السامي  ..لم يناسب هذا الكثير مما جعل المجلة وطوال سنوات صدورها تحت الضغط كأنها اثارت حنق الكثيرين  ..لسنوات اصرت المجلة على عكس السائد فالقائمين عليها شرعوا  وفتحوا نوافد بها عل مصرعيها  لم يعتد احد  قبل ذلك رؤيتها مشرعة ومفتوحة بهذا الوضوح ..فقبل ذلفك كان التعتيم سمة كل شيء

استغرب الكل حينها  النظام القائم ، بل والليبيين انفسهم لكنهم رويدا  تعودوا  بل وصاروا ينتظرون (اقصد هنا الليبيين ) على رؤية هذه النوافذ المعرفية وهي  مشرعة ومفتوحة وبشكل دائم ..بداية من فتح المجلة  لنافدة ملفات حقوق الانسان .. ونوافد للدراسات حول ضرورة وجود منظمات للمجتمع المدني وضروراتها لتفعيل المجتمع والنهوض به ..ومقالات شَرعت واشارت بقوة  لأهمية  وجود الدستور بل نظرت له ولكونه لا توجد دولة تدعي انها عصرية وهي لا تملك ابجد هوز أي دولة وهو الدستور ، المجلة طرحت هذا بأسلوب علمي واكاديمي وعلى هيئة دراسات  وايضا تناولتها بمقالاتها الصحفية  ..وغير هذا كثير ولا يمكن حصره  في بمقال واحد  ، هذا اضافة لما قدمته للمجمع الثقافي  من مادة ثقافية دسمة شملت الشعر والقصة والنقد  والدراسات بل والفنون التشكيلية والتي جعلت منها قالب متغير لغلافها، وايضا فنون المسرح والموسيقى  والسينما والتي كانت موادها تنشر بالتناوب عدا ذلك فلقد اهتمت المجلة بنشر الكثير الكثير من المقالات  والدراسات والابحاث حول الحداثة وما بعدها ……. فما نشرته المؤتمر حول الحداثة يتنافى اصلا مع نظام الغى في اعتي عهوده اللغة الانجليزية ليس من المناهج العامة فقط بل أنه اوقفت الدراسة   بها حتى بكلية الطب  لأجل ترسيخ الفكرة (الايدلوجيا ) مقابل هلاك الصالح العام  ، بل جرى العمل على تعريب منهج كلية الطب وغيرها من الكليات العلمية ، وكلنا يعلم الأن كيف انتهت هذه الأفكار العقيمة  وانتهى العمل  بها بل وفرضها بالقوة بالفشل الذريع.

 الغت مجلة المؤتمر كل هذا الدجل القديم وحاولت جاهدة أن تدخل بليبيا للعصر ولقلب التاريخ ..ولم يكن لهذه التجربة أن تستمر لولا وجود مثقف من طراز رفيع  كالدكتور (عبد الله عثمان ) والذي استمات وتعرض للكثير من الضغوط ليوقف هذا التسيب والخرف (كما يسمونه ) ممن يخافون على مصالحهم من الضياع .

 كذلك لم تكن لتنجح مجلة (المؤتمر) في ايصال رسائلها لولا وجود صحفي وكاتب وصاحب مشروع مثِّله وجود اسم (محمود البوسيفي ) والذي رسم خطوطه بثبات واختار شخوصه بحكمة   وفي مغامرة مدروسة وشجاعة منقطعة النظير،  واضعاً امام عينيه بعد عمله السياسي بالمطبوعة أن يجعل من نفسه خادما لكل مثقفي ليبيا وكتابها وادباءها زراد فنونها   وهذا ما حصل فعلا وبنجاح منقطع النظير وعدد الكتب  التي صدرت عن المجلة والتي اشرف على (ادارة مطبوعاتها )الشاعر الكبير (مفتاح العماري ) لأكبر دليل عل عمق هذا الإنجاز والذي انحاز للمواطن وثقافته اولا ثم للمثقف الذي عاني كثيرا ولترسيخ مكانته كقيمة ادبية وثقافية داخل نسيج هذا الوطن تانيا …………….

اكتب هذا وانا افخر بكوني كنت ضمن هذا المشروع العظيم  واحيى اساتذتي من خلال هذا الفضاء

ـ( احمد الفيتوري ) الذي علمني بـ(كلمة ان الهامش قد يكون اكثر عطاء من المتن ) وهذا ما عملت على  تطوير نفسي وبشكل دائم على منهاجه  سوى بعملي الصحفي الفني أو عملي التحريري ، وذلك بكل تجاربي  قبل مجلة (المؤتمر) و حتى ما بعدها ، لكنه كان اجتهاد طويل ومستمر حتى وانا اكتب هذه الورقة  لازلت امارس التجريب عليه …..(من يختر الحبر طريقا لا يصل ابدا ) أنا اؤمن بهذا واصدقه ومع ذلك مستمر في العمل عليه  ..لذا وليعلم الجميع ان بعض النجاح الذي حققته كصحفي  حققته  وانا اشتعل كهامش …………ولعلمكم كثيرا منكم  اكره المتون انها لا تترك لصاحبها فرصة حتى لأن يستحم .

شكرا …………..(محمود البوسيفي ) فبعد اكثر من قرابة عقدين وبأكثر من تجربة صحفية  عملت فيها خلفك مباشرة وبلا حاجز بيننا  كنت طوال فترة عملنا  رئيس تحريري  المباشر رغم المشاعب الذي بداخلي ورغم من حاول حسدا  (ان يدخل بين الظفر واللحم ) لم تكن تعطي بالا لأيا منهم ..فالحسد كان يثير اشمئزازك من حامله  وكذلك تبغض صاحبه  .. كنت تؤمن بي وبكل ما اطرحه من افكار.. بل من تكريمك لعملي  لم تضع أي فاصل بين اسمينا خاصة بمجلة المؤتمر (والتي خصصت حديثي عنها الأن ) ففي القوادم هناك الكثير لأرويه عن امجاد  نسجتها برفقتك وتحت راية حكمتك  …

استاذ محمود .. اعلن للعالم ها هنا انني كصحفي  انتمي اليك .

اخيرا ……دكتور عبد الله عثمان كبيرا انت حتى ع (ليبيا ) فكثيرا ما قدمت لها ولنخبة مثقفيها  في حين علمت من القديم  إنك لم تكن تنتظر منهم حتى كلمة ..شكرا.. فلم يكن الاشخاص همك يوما بل كان الوطن وكانت الافكار .. والتي رغم خسارات احلامنا رغم انحناء طهورنا وانهيار اكتافنا  لازلت وانا اتابع كل ما تكتب  تحاول  ولوحدك وبوجع أن لا تجعل من هم لك  يشغلك عداها ……. لست عرافا لا قول هذا لكن (ليبيا )ابدا لن تخذلك

كبير شعرنا .. مفتاح العماري  .. كنا محظوظين ونحن نشتغل صحفيا على مختاراتك  الأدبية… فقد كنت الباب الذي مر منه الكثير من الشباب الذين  لولا المؤتمر وجراءتها   لما سطعت نجومهم   بسماء معرفتنا .

الكبير يوسف الشريف …والمبدعة حواء القمودي ..وجودكما  لجوارنا وان كان قصير زمنيا لكن تبت لدينا انه خلود ثقافي

محمد الشريف .. يامن ريشتك سقطت من طائر بالجنة وحامل الوانك قوس قزح ………..ربما غيبك الموت لكنك عندي ابدا لا تموت

انور بزع …….العمل معك جعل تجربتي اكثر ثراء

احمد السيفاو …………عيني التي ارى بها ليبيا

حكيم القبائلي …….اعرني بعضا من حكمتك

اخيرا …………….الم اخبركم انا محظوظ  بزملائي وبأساتذتي وكوني شريك بمشروع بحجم مجلة (المؤتمر ).

____________________

نشر بموقع بوابة أفريقيا الإخبارية.

مقالات ذات علاقة

“قامات من بلادي”.. تكريم لرواد من التشكيل الليبي

عدنان بشير معيتيق

ما يُسمى بعصر (الإلحاد العلمي)

قيس خالد

الحاسي.. باحث عن وطن يخلد فيه الفن.. لا عن نرجسية التشكيلي

زكريا العنقودي

اترك تعليق