عبد العزيز الزني
الصغار يلْهون بتطلعهم إلى تكوينات السحب ، المنتشرة بأحجامها المختلفة ،على وجه السماء ، كانوا يرون فيها ملمحا لمخلوقات يعرفونها ، و قد تشكلت هناك بعوامل لا يدرون عنها شيئا ، بينها ما يشبه وجوه البشر أو جزء من وجه ، أنف أو ذقنٍ . و أحياناً يبصرون أشياء أخرى ، جوارٍ كالأعلام مثلاً ، تمخر عباب بحرٍ . أو ما يماثل قافلة تعبر الصحراء .
وتمضي عيونهم بشغفٍ و متعةٍ ، تبحث و في كُتل سحب أخرى ، عن تشكيلات أخرى ، ويشير أحدهم بفرحة المكتشف ، إلى وردة ، ويصرخ آخر جملا أرى، وثالث شيخا أبصر.
وهكذا وقت ، يتتابع و قد تسيد فيه البصر و الخيال، و تتلاشى تلك السحب أو ترحل و معها كل التشكيلات و ما تصوره الصغار .. ليستقبلها صغار آخرون في بقعة أخرى من العالم … و يمارسون معها نفس اللعبة.
وذات المشهد يُنشأ مع الأشجار ، مع بعض أغصانها و فروعها و على جذورها , و أوراقها ، حيث يمكن رؤية ما يشبه مخلوقات ، يعرفها الصغار أو أشكالا أخرى مبهمة إلا أنها موحيةً . ما يرفع درجة المتعة و التسلية .
محمد زعطوط كان كغيره من صغار المدينة , الذين عاشوا لا تفارق مسامعهم مغاني السواقي و ترانيم تدفقها ، و متابعة أسراب الطير و هي تُشكل و تَتَشكل في أجواء المدينة ، فتوحي للرائي إليها بتكوينات مختلفة ، ثم أن هذه الأجواء كانت و بطبيعتها الأسرة مهيأة لتهيئة ، أجواء مناسبة للموهبة ، كي تنطق و تنبعث في أشكالٍ تعبيرية متنوعة ، فيقرأ المتلقي رواءهم .
زعطوط حين أحس توهج موهبته ، استجاب لها ، و الاستجابة انصياع لصدق الموهبة.
إذ ما أن استوت له الأمور اقرّ ( كنت مهووساً بالبحث الدائم في جماليات المكان و البيئة ،محاولا أن استخلص منها رؤاي الفنية ) . و قناعة منه ، أن لا تدعيم لميوله الفطرية سوى التحصيل العلمي ، و الجلوس أمام معلم . و يتخرج في معهد ناصر للمعلمين ، في مدينة بنغازي ، قسم فنون جميلة ، عام 1980م .
و هو المولود بمدينة سوسة 1960م . تلك الفاتنة التي ” لفها الأصيل في حلة نسجت من الأضواء ” الأمر الذي كان أساسيا في تكوين موهبته و يعمل معلماً لمادة الفنون التشكيلة ، ثم موجها و يهتم لاحقا بالصغار ، ممن برزت ميولهم الفطرية و بوضوح نحو المحاكاة . و يقيم الورش الفنية ، و المعارض في أكثر من مناسبة ، خارج وداخل الوطن ، و صار تشكيلياً معروفا ً. تناولت إبداعاته عديد المقالات ، و أجريت معه الكثير من اللقاءات ، تَعريفاً و تعرفًا ، على لوحاته و منحوتاته .
و لم يكتف زعطوط بالوقوف أمام لوحة على حامل ، و بيده فُرشاة . فرأيناه لاحقا ، و بعد ما تحقق له ، من توفيق في هذا الاتجاه ، يلتفت و حوالي عام 1990م ، إلى الغابة و ما أدراك ما الغابة ، غابات البحر المتوسط دائمة الخضرة ، هذا ما عُلمنا من كتب مادة الجغرافيا ، قبل مشاهدته واقعاً . و مع مكونات الشجرة تلك التي أصابها العطب ، فسقطت أرضاً ، بسبب طول جفافٍ أو رياحٍ عاتية ، أو آفة قاسية فرعا و غصناً و جذعاً ، من شجر البطوم ، و الزيتون ، والخروب تبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى ، مغايرة لها شروطها و متطلباتها ، قطعة خشب بين يدي زعطوط ، يأخذ تطلعه إليها منحى آخر ، حينها تلك القطعة ، هي أقرب ما تكون ، إلى وليد بين يدي “القابلة” التي ما أن تستلمه ، بعد تلك الدّفْقة الجاضة بالحياة ،تمضي و هي تردد “مشاء الله ” في إماطة الأذى عن جسده الطّرِيُّ ، ثم تغسله جيدا ، قبل أن تدثره ، و تضعه و قد دبّ الدفء في أوصاله ، إلى جانب أمه ، ليمتص من صدرها الحياة . القابلة تفعل كل هذا بمتعة مطلقة . زعطوط كمبدع يعمل هو الآخر ذات الشيء ، مع تلك القطعة ، بعد أن يلتقطها من تحت الشجرة الأم ، يقلبها بين يديه ، يتأملها ، و إلى أن يتضح له ملمحا بعينه .
يستظل زعطوط ظل تلك الشجرة ، يستند إلى جذعها ، لا يتوقف عن تقليب تلك القطعة ، ولا تأملها ، إذا ستصير منحوتةً .. لها دلالاتها ، يبدأ و أزميله عملية تخليص الجذع مما علق به من شوائب ، و نتوءات ، و زوائد يرى بحسه الفني عدم جدواها ، و يمضي زعطوط النحات منصاعاً لتكوين تلك القطعة الطبيعي ، مهيئا إياها بعد أن تنصاع له هي الأخرى ، لما ستصبح عليه . يستغرق هذا من الوقت غير القليل ، لا تفارقه متعة الإبداع و التكوين .
فزعطوط ينحت و يلون و يرسم بمحبة بيئته ، و الحياة و الكائنات . يبذل ما يستطيع كي يحافظ على خصوصيته و خصوصية بيئته ، يُظهر مكامن الجمال ، دونما ابتذال ، منحوتاته تحرض العين على اقتحامها ، و من ثم المضي إلى أبعد نقطة يمكن أن تتحقق من الإدراك و الاستيعاب .
المنحوت عند زعطوط مساحة مفتوحة أمام التأويل ، تعكس موقفه مع ما حوله ، يمكن للرائي أن يستشف ما لم يخطر على ذهن صاحب الأزميل قراءات من قبل مهتمين و دارسين ، تناولت إبداعات زعطوط أبانت الجوانب الجمالية ، و تحدثت عن دلالاتها و مراميها . و من نقاط الاتفاق في هذا التناول ( تعدد الدلالات للمنحوتة الواحدة ، بتعدد زوايا النظر إليها ) عموما منحوتات زعطوط تستوقفك لتقول لك شيئا رمزاً أو صراحةً .
أكد الفنان محمد زعطوط على انه لم يأخذ أو يتبنى توجها أو مذهبا فنياً بعينه ، إلا أنه لم يمنع على نفسه أن يستفيد ، من إبداعات غيره ، يجد لها صدا في داخله .
و من المطبوعات التي تناولت نتاجات زعطوط و من بينها من كررت هذا أكثر من مرة : الشاهد / الأعداد ـ 182 ـ 184 ـ 190 ـ المسرح و الخيالة / الأعداد ـ 26 ـ 27 ــ المجال /العدد ـ 27 ــ شؤون ثقافية / العدد ـ 21 ــ المؤتمر /العدد ــ 27 ـ العرب /العدد 6097 ـ أويا /الأعداد ــ 197 ـ 285 ــ الشط / العدد 716 .
____________________
نشر بصحيفة فسانيا