من خيال النشوةِ المسروقة في ليلٍ أقصرَ من قامته
سقط إلى وجع الأرض محتجاً
ترنح فوق أرصفتِها كسؤالٍ يتقاذفه الأنبياءُ والفلاسفة
ومضى دون إجابة
لكنه بنُبلٍ خاض حربه الخاسرة.
كأن الضجيجَ مهنتُه
مازال عكازه يقرع بيوت الأصدقاء آخر الليل
ومازال نشازه العبقري
يسخر من سطوة اللحن الرتيب.
في سيرته التي لم يكملها يستعيد، إدريس المسماري، شجن سنوات نشأته الأولى وروح التمرد ضد أي نوع من التسلط التي تلبسته مبكرا، فكان دائما الطفل المربك، فهو من ناحية نشيط وفاعل، ومن ناحية مشاغب ومشاكس للسلطة بكل تجلياتها الأبوية، وهذه الخلطة هي التي جعلته فيما بعد جذوة من (النشاط المشاغب).
غير أن بدايته الحقيقية مع “وجع الدماغ” الذي وسم فيما بعد، كل حياته، يعيده إلى فترة دراسته المرحلة الإعدادية وأولئك المعلمين الذين لم ينسهم، وأسهموا بشكل كبير في تشكيل شخصيته وخياراته فيما بعد: “بدأنا نتعرف على مدرسين جدد ممن درسوا علم النفس والاجتماع بالإضافة إلى عدد من المدرسين المصريين. في هذه المرحلة بدأت علاقتي بالتعليم تأخذ مساراً آخر. كان لمجموعة من المدرسين دور بارز فيه، أذكر منهم الأساتذة: محمد حسنين، مدرس اللغة العربية، الذي كان أول من اكتشف موهبتي في كتابة مواضيع الإنشاء وحفظ القصائد والأناشيد، وكان كثيراً ما يشجعني على قراءة مواضيع الإنشاء التي أكتبها أمام طلاب الفصل، واختارني باعتباره رائد فصلنا في السنة الأولى الإعدادية، في 70/71، مساعده في تحرير صحيفة فصلنا “النور” ، وفي سنة الثانية إعدادية كان الأستاذ المهدي الجلي هو رائد الفصل واختارني كذلك لأحرر معه جريدة “المعرفة” حيث فزت بالترتيب الأول من حيث التنسيق والمواد والرسم الذي كان يقوم به زملائي من الفصل: خليل المقصبي ومحمد الترهوني وعبدالله بورواق، على مستوى النشاط بالمدرسة. وكان لمدرس الدين “محمد القرضاوي” دور في تشجيعي على القراءة، وحين اكتشف في إحدى المرات، وهو يقوم بشرح أحد الدروس الدينية، بأنني اقرأ في كتاب “على هامش السيرة “لطه حسين من تحت مقعدي الدراسي، قال لي “ايه ده بتقرأ وسايب الدرس..؟” وسحب الكتاب وأخذ يتصفحه ونظر لي مبتسما وقال “لسه بدري يا ابني على وجع الدماغ ده…!!”
لكن وجع الدماغ كان خيار إدريس بكامل إرادته الذي قارع به السلطة طوال عمره، وجعل من حياته مسيرا شاقاً على جسر نحيل بين الحياة وبين الموت المتوقع في أي لحظة. ابتلعه هذا الوجع كليا فيما بعد، وابتلع معه عائلته الصغيرة التي كانت حوله ومعه في كل مغامراته التي لم يحسب يوما عواقبها، منذ أن نزع شنة الفقيه في الكُتّاب ليحيلها إلى كرة يلعب بها مع رفاقه.
دخل إدريس السجن، سجين رأي، في الحملة التي شنها النظام السابق على المثقفين لإزاحتهم عن طريق تصوراته الخاصة التي أوصلت في النهاية هذا الوطن إلى الحضيض، ومن السجن خرج أكثر نشاطا وأكثر ثقافة وأكثر إصرارا على مواصلته.
مثل القليلين الذين عرفتُهم، لم يعرف إدريس اليأس، ولم يستسلم لتلك السلطة التي أطبقت بقبضتها على الوطن والمجتمع، وكان يؤمن أن الثقافة هي الوسيلة الأساسية للتغيير، وبأن الضغط، والاستحواذ على الهوامش المتاحة، وتوسيعها، والحوار، الأدوات الأكثر نجاعة لخلخة أركان الاستبداد، لذلك تحولت حياته السياسية إلى مشاريع ثقافية ذات بعد سياسي.
قبل رحيله بفترة قصيرة زارني وعائلته في بيتي بقرية كرسة، ورغم كل الإحباط الذي أحاط بذلك الحلم الذي انبثق في فبراير، ورغم كل الكوابيس التي رسمها سُرّاق هذا الحلم، لم يتغير إدريس أو تخمد جذوته، وكان الحديث طوال الوقت عن مشاريعه الثقافية المقترحة التي يخطط لها، وعن إيمانه بقدرة المثقفين على التأثير في الأحداث حين يكون لهم وجود حقيقي.
كنت أحدق في هذا الجسد النحيل أمامي الذي أنهكه المرض، وفي تلك الروح المتقدة التي ما عاد الجسد قادرا على ملاحقتها، وكنت امتلئ من جديد بالأمل، خصوصا حين كان يحدثني عن أحلام يدرك هو نفسه أنه لن يطول به المقام ليراها، لكن إدريس الذي مشى دائما على حبل نحيل بين الحياة وبين الموت، لم يكن معنيا سوى بحياة الحلم، قبله أو أثناءه أو بعده. لذلك عاش دون أن يخشى المغامرة أو يحسب العواقب، واستطاع أن يعبر كل الأنفاق الخطرة التي مر بها، واستطاع أن يجرجر ذاك الجسد المنهك خلف روح تواقة دون أن يراوده شعور بالنهاية أو اليأس، انطلاقاً من أن مهنة المثقف الحقيقي ضد اليأس، خصوصا حين يعرف أنه سليل مثقفين أحرار يدرك أن أسئلتهم مازالت تفور بعد قرون من رحيلهم.
إدريس رحل وهو مستعد لذلك، بل وهو في ذروة سعادته، لأنه لم يتخلَّ عن إيمانه بالإرادة الخلاقة، ولأنه أطمأن على خيارات أولاده لمستقبلهم، كما أخبرتني رفيقته المناضلة أم العز، رحل ولا يريد من هذا الوطن شيئا سوى أن لا يكف ساكنوه عن الحلم والتفاؤل.
لكن ما يحزنني أن التأبين الوحيد لمثقف بهذه القامة وبهذا التاريخ، أقيم خارج ليبيا، في القاهرة، تلك المدينة التي هرب إليها يوما بحلمه في أن تكون له مجلته الخاصة المهتمة بالشأن الليبي عبر الفكر والتحليل الرصين، فكانت “عراجين” المجلة المنفية، المعارضة بمهنية وامتياز، والتي مُنعت من الدخول إلى ليبيا مثلما مَنعت قوى غامضة دخول حفل تأبين صاحبها إلى ليبيا حتى الآن، وإلى بنغازي خصوصاً، مدينته الأثيرة، التي طالما أبّن فيها رفاق الكلمة والنضال.
وعزائي ما كتبتُه على صفحتي حين صعقني خبر رحيل إدريس “لن أؤبن إدريس، لأن مثل إدريس ليس في متناول الموت، سيبقى بيننا جذوةً مشتعلة ومشاريعَ لا تتوقف وأحلاما لا تخمد. الشخصيات الملهمة تكون أكثر حضورا بغيابها، وسيكون إدريس مُلِحّاً علينا في غيابه أكثر من إلحاحه في حضوره عندما كان يحشد الجميع بجانبه من أجل كل مبادرة ثقافية شاغلها الوطن وسؤالها الحرية.
وعزائي أيضا ما كتبتُه مجيباً على حزن عائلته جراء هذا الجحود “لا تزعلي أم العز.. سيأتي وقت تكريمه حين يكون للتكريم معنىً. إدريس في ذمة تاريخ هذا الوطن ولن يُنسى كما سيُنسى من يُكرّمون الآن لأسباب خاصة ووقتية. الشاعر إبراهيم الأسطى عمر كُرم كما يليق به بعد نصف قرن، وعبر مهرجان خمسينيته، 2001 ، الذي كان إدريس أحد مخططيه، وعبر ذلك المهرجان الضخم “مهرجان الأسطى للفكر والفنون”.
سيأتي جيل يقرأ التاريخ كما ينبغي، ويفصل بين من نذر حياته للوطن، وبين من نذر الوطن لحياته.
__________________
نشر بموقع بوابة الوسط