أتذكر لقاءنا الأول. كنتُ دخلتُ عامي الرابع عشر بفوضى عارمة، مكدساً بالروايات الكلاسيكية وبالكتابات الدينية مع كم هائل من الملخصات التاريخية التي حصلتُ عليها من والدي، مدرس التاريخ… كنتُ أمام عتبة منزلنا أقرأ بعين وبالأخرى أتابع بائعات الخبز يمازحن البائع السوداني في المحل المقابل. إذ ذاك وقف أمامي، حاجباً عني ضوء الشمس، أحسستُ بالتفوق لدى رؤيته.
“تقرأ؟”. سألني، بصوت هادئ، لم يخف نبرة الأمر فيه حتى إنني أحسستُ بأنه يتهمني في خضم فوضى خطيئتي تجاه فتيات بائعات الخبز، هززتُ له برأسي مؤكداً بأنني أقرأ، فمد يده لأخذ الكتاب دون أن يتفوه بكلمة إضافية. مددت له الكتاب، تصفحه قليلاً، تمتم بعدها قائلاً: “أوليفر تويست، أتحب القراءة لتشارلز ديكنز؟”. هززتُ رأسي موافقاً، جملة مهمة غصتْ في حلقي، ابتلعتها بصعوبة، نظرتُ إليه متفاجئاً من نفسي، إذ أخذتْ الدموع تتجمع في عيني عندما تغلبتُ على الغصة، آخر الأمر، قلت: “قرأتُ له كتباً أخرى”.
“جيد”. قال وهو يعيد إلى الكتاب. تطلع ناحية الفتيات اللائي كن يتضاحكن غنجاً، بصوت عالي. التفت ناحيتي استل من الحقيبة المعلقة على كتفه، مجلة صغيرة طبعتْ خلال الستينيات – أعتقد بأنها كانت المختار مجلة دايجست ريدر كما أتذكر حالياً – لم أكن سمعتُ بها مطلقاً آنذاك. ففي البلدة كلها لم تكن هناك إلا مكتبة واحدة بائسة، يُشرف عليها مسن أعمى.
حاولتُ طويلاً معرفة كيفية عثوره على الكتب الغريبة، إلا إنني فشلت، فالمجلات التي كان يقدمها لي في أغلبها مترجمة من لغات أخرى، بعضها عبارة عن قصص بطولات قديمة حدثتْ في المدن الأوروبية، أبطال قدماء يمتلكون قدرات خارقة، رؤى أخلاقية عالية، لكنهم دوماً يعانون فقدان البصيرة، لا يمكنهم رؤية الأحداث التاريخية جيداً تجدهم دائماً ما يتعثرون في خضم مفاجآت الحياة التي تعترضهم.
لهذا السبب هم يعتمدون على أشخاص باهتون يقدمون لهم الرؤية الواضحة، المطلوبة بالنسبة إليهم حتى لا تقع تلك المعارك الكبرى، التي تبدو مقدرة وحتمية للجميع، كل أسبوع كنتُ أتلقى منه عدداً إضافياً ومختلفاً، كتب تاريخية، ملخصات مثل العالم في اقصى توتراته، إنها تُقدم خلاصات حية ومفيدة، لم يكن يتفوه بأي كلمة زائدة، تلك التي تسمح له بتوضيح ما يتوجب علي فعله، كان غامضاً وساحراً. خلال إحدى المرات – فيما بعد – قدم لي دعوة لحضور لقاء ثقافي يقيمه في منزله، لقاء من شأنه وضع حجر اساس لمشروع جديد.
خلال الأحياء السكنية، تبدأ الحياة عصراً. تبرد الأجواء، مع ميول الشمس إلى الوداعة. وداعة الغروب. إذ ذاك يكون أغلب الأهالي رشوا طرقاتهم الترابية بالمياه، الأتربة الغاضبة طوال فترة الظهيرة تشرع في تهدئة هياجها المشاكس. الروائح الدافئة تبدأ بالانبعاث. النسائم الرقيقة التي تأخذ بالانسياب بوسعها دوماً إخراج الصبايا المتعطرات، ليتبادلن الزيارات، متشحات بأجمل ملابسهن النابضة بالحياة، سيقانهن مصقولة كأعمدة الرخامية، أعينهن تتطلع باحثة بشوق قلق مكتوم، مدركات ما يخلفن ورائهن من أثار في القلوب اليافعة التي تنتظر يومياً الابتسامات – الغامضة في معانيها بأفضل اللباس – كل شيء ممكن الحدوث عند ميول الشمس نحو الوداع اليومي.
ربما طبيعة البلدة تجاوزتنا – بلا شك – فنحن لا نرتدي أفضل ملابسنا كما إننا لا نقف عند زوايا الطرقات الترابية من أجل مغازلة الجميلات، لا نشتم عطورهن كالجديان الشبقة، إننا لا نهتم إلا بالأمور التي تخص الكتب. من أعلى قمة القار، عند الصخرة الباردة، نتطلع دوماً نحو الأسفل، إلى الطرقات المكتظة بالعابرين، إذ ذاك نكون اجتزنا شوطاً كاملاً من الحوارات الجانبية، الحماسة تأخذ منا الكثير، ننتهي من حديث مهم حول كتاب ما، لنخوض حديثاً مهماً حول كتاب مختلف.
في تلك الفترة ارتبطتْ حياتي عميقاً بالكتب وبالأحلام، أقضى نصف اليوم في قراءة الكتب الخيالية والنصف الآخر في الأحلام، لكل شخص في البدة، دور فيها. لم يكن غريباً – بالنسبة لي – أن أراه ضمن أحلامي، عقب تلك الاجتماعات. واقفاً بين الظل والضوء – كما حلمتُ به – منقسماً بشكل عجيب. كانتْ الصحاري من وراءه مبتلة بمادة لزجة، نفاذة، هياكل سيارات مدمرة، يعلوها الصدأ، رائحة الوقود تفوح فيما استمرتْ المحركات تجأر مثل الوحوش الجريحة.
كنتُ أقف في مكان جاف نسبياً، قدماي لا تقدران على الحركة، لا تصلان إليه، ضمن زاوية بعيدة أخذتُ أراقبه حيث البلل اللزج كلما أردتُ التقدم، ينتابني إحساس هائل بأنني على وشك الغرق. لا شيء منطقي، لا شيء يمكن فهمه جيداً إذ يشرع في المغادرة، مبتسماً، دون التفوه بكلمة، كان يرتدي بلوفر بني أسفل قميص رمادي وسروال جينز فضفاض، كان يضع نظارات من أجل الرؤية جيداً، يحتضن مجلداً بني اللون بالكاد لاحظته، دوماً لا ينبس بأية كلمة.
داخل الحلم كنت أناديه بالأستاذ. ممتزجاً ضمن مشهد هائل مع بائعات الخبز يتضاحكن بابتهاج. لسنوات عشتُ وهم كوني أمتلك قبلين في صدري. المشهد الممتزج أخذ يزداد مع الزمن، دوماً عند مفترق الطرق، أرى الاختلاف ضمن المشهد اللا نهائي -بمرور السنين- لم تعد الهياكل الصدئة للسيارات شبه الغارقة فقط ما أراه في أحلامي. بدأتُ أرى كتباً تغرق في الرمال اللزجة، مخلوقات بائسة، تحاول الخروج من بين صفحاتها المكدسة، تمد أيدي معتمة كالظلال نحو الأعلى.
ليس دائماً يغرق في الصمتْ، ففي تلك الأيام خضنا نقاشات هائلة حول الأفكار والكتب فيما نتجول عبر الأحياء الداخلية دوماً غرقنا في حوارات مختلفة، قصيرة في معظمها، غامضة لكنها متتابعة، حوارات مغرقة ضمن خيالات أقرب إلى التهويمات الشعرية المضللة، باعتبارنا حملة التاريخ الجديد، كنا نطالع معاً لطائرات العبور من فوق صخرة القار المطلة على جل الأحياء الداخلية، نتأمل أضواء السيارات المغادرة، نحاول معاً أن نكون أكثر غموضاً مما نحن عليه، بعض الأسماء نرددها كأننا في خضم صلوات خفية، نتبادل بعض المقاطع التي تلفت انتباهنا ضمن بعض النصوص الأدبية المترجمة، كتب الرحلات، المجموعات التاريخية، التراجم الضخمة التي تتحدث عن الإمبراطوريات الفارسية والرومانية، كنا نمتلك ترجمات جيدة لمذكرات ونستون تشرشل تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند رسل، بعض السير الذاتية العظيمة للقادة العسكريين والحكام السياسيين مع قصاصات المأخوذة من أعمدة القصيرة التي كان يكتبها أنيس منصور حول أكثر أشخاص يثيرون الرعب في التاريخ البشري.
من فوق صخرة القار نحاول أن نتمثل العالم، مختبئاً تحت صخرة ما، عند كل شارع، وراء كل باب نحلم به ضمن كل سحابة عابرة، تتشكل برغباتنا. نتخيل أن بوسعنا الدخول أي باب لنخرج من الجهة الأخرى في إحدى شوارع نيويورك، دريسدن، باريس أو اسطنبول. بالرغم من ذلك، كل شيء ظل هادئاً. واصلتْ العتمة -دوماً- إلقاء سدولها على الأحياء، فاستمرتْ النجوم غزوها سماء البلدة بشرارات نابضة مستعارة من فستان أميرة ساخرة بلا شك، ممهدة دروباً خفية للطائرات العبور الغامزة بأضوائها.
خلال جلستنا قبيل دعوته لي من أجل حضور برنامجه الثقافي، طلب مني التحدث عن نفسي، عن أولى الأشياء التي تتبادر إلى ذهني. لا أدري حقيقة ما الذي قلته، إنما لدي ثقة بأنني كنتُ سأقول أموراً مشابهة لم سأكتب بعد قليل. فلازلتُ أتذكر اليوم الأول الذي اجتمعنا فيه حول المسجلة للاستماع إلى احدى أغاني توباك.
كنا عند الكشك التبغ، الذي تم طلاؤه حديثاً بالأخضر الغامق، بحسب تعليمات مكتب الحرس البلدي. النكتة المتداولة آنذاك متعلقة باللون الأخضر والتبغ والفهم الشامل للمستجدات. بدافع من ذلك الفهم المفاجئ، أراد أحد الشبان الجيل الضائع تقديم تفسير مختلف، فأدرج شريط كاسيت لتوباك. سمعنا كلمات هادئة في البدء، غامضة، سرعان ما انطلقتْ كالجياد البرية. نظراتنا -بلا شك- امتلئت بالدهشة. هذا مختلف -ربما قلنا- مختلف. الشاب الفاهم ترجم تلك العاصفة من الكلمات. انتفضتْ كل كلمة، صارتْ جياداً، إحساس غامض مشتعل خُتم في عمقها. الأحياء، الرصاصات الصديقة تصطدم بالجدران، أعداء في ثياب الأصدقاء، الجحيم، كلها حبستْ ضمن كلمات كالجياد. لم أكن بحاجة لفهم تلك الكلمات حتى أدرك ما كان يُحرك عالمي، يهز كل وتر في أعماقي البعيدة.
تبدأ السماء تزداد حمرة، العتمة تنسدل برقة فوق الأشياء، دوماً على صخرة القار نحاول اعادة الماضي لأرواحنا الهشة، نعرفها بهدوء بأنفسنا الحقيقية، فيما الشرارات تبدأ تجرح السماء، نُدرك بأن لا شيء على حاله.
عقب هذه السنين -عندما أراجع ما حدث تلك الأيام- أدرك بأننا امتلكنا سراً لم نُدرك قيمته الفعلية. كان موجوداً أمامنا ينبض مثل طفل حديث الولادة، بقدمين قويتين، تدقان رمال الصحراء لتنبجس المياه الصافية كالدموع من بين الحبيبات، استمررنا على تجاهله.
كان لا بد أن يحدث ما حدث. نصب الكشك الأخضر لبيع التبغ، مجيء مدخن الحشيش مع شريط كاسيت لأغاني توباك، لنسمع جموحاً ضمن الظلمة. كلمات مثل الجياد، أخذتْ تنخر رذاذاً، كما يحدث في أفلام الحروب والفروسية، مثلما يحدث دوماً ضمن الكوابيس.
لسنا كالآخرين -قال الاستاذ- لا بد من معرفة هذا. الاختلاف. لسنا مثل الآخرين. لا. نحن مختلفون، ربما هذا ما يسمونه بالهوية. لم يكن جديداً على ما قاله. داخل مدرستي الابتدائية، اكتشفته عملياً، فالمعلمة تحدثتْ بإسهاب بلغة مختلفة، وإن كانتْ مألوفة. رسمتْ على اللوح أشياء كثيرة لسنين، قالت بأنها تدعى الحروف، اي مجهود يقدمه المرء قرباناً من أجل فهم تلك الحروف التي تلاعبتْ بها المعلمة بمهارة على لوح الكتابة.
أضطر -أحياناً- للتوقف عن اللعب من أجل تعلم المزيد عن لغة لا استخدمها إلا قليلاً، أقابل أصدقاء جدد لا يمكنني التحدث معه، أراقبهم يحدثونني عن أحلامهم، آبائهم، ابتسم لأنهم يتعجبون لعدم قدرتي على الحديث مثلهم. كنتُ أفهم ما كان يحدث حولي، غير قادر على البوح بما في داخلي. عقلي الطفولي – آنذاك – ظل يعمل جيداً وبسرعة مضاعفة من أجل الفهم، ولا يزال، فالكلمات ظلتْ تعوزني دوماً، الكلمات التي من شأنها أن تمكنني من قول ما أريد.
كنتُ أتحدث بلغتي الأم لأناس أدرك بأنهم لا يفهمون حرفاً مما أقول، لكي أريهم بأن لساني يتحدث جيداً دون أن أحتاج لإغماض عيني، أو للتفكير، عبثاً حتى مجلدات القواميس الضخمة لم تحل المعضلة التي كنتُ فيها، فالقواميس بدتْ مراجع لفهم الماضي أكثر من كونها بوابات لفهم المعضلات المعاصرة.
غالباً ما كنتُ أفضل الصمت فيما أكاد أنفجر بالقصص في داخلي، لطالما كرهتُ هذا الاحساس القاهر بالعزلة الداخلية من أجل التخلص منها، عملتُ بكد في سبيل هدف واحد، هو جمع رصيد كافي من الكلمات، تسمح لي بخلق قصص لكل اللحظات المتوقعة.
كنتُ أشبه بممثل يستعد لصعود المسرح، غالباً ما كنتُ اُقدم عروضاً شبه ناجحة، مثل قصة الذئب الذي رافق الثعلب إلى مزرعة الفلاح، دخلا من ثقب في السياج، ثقب بحجم جسديهما. تفصيل كان يتوجب على الذئب اهتمام له، بحسب نصيحة الثعلب، لكنه أكل أكثر مما يجب، دجاجات ربما أو أرانب. عندما لاحظا حركة من جهة الفلاح، ركضا مبتعدين، خرج الثعلب من الثقب بسهولة، لم يكن قد أكل كثيراً، الذئب لم يستطع الولوج من خلال الثقب، كان منتفخاً بشدة.
عندها أدعهم يخمنون ما حدث بعد ذلك، ليستْ القصة هي العنصر المهم، الأهمية تكمن ضمن أسلوب إلقاء، وهو ما يجعل بعض الممثلين ينجحون حتى بالنصوص السيئة. قصصي كانت تحوي عناصر القبول التي ظننتُ بأنها تزيل الثقل منها. الأسلوب الهادئ، عدم وجود كلمات ضخمة، بلا فنيات كبرى.
لا أدري متى وجدتني قادراً على الحديث من دون إغماض عيني. كنتُ فقدتُ – بسبب المجهود الرهيب – كثيراً من شخصيتي الأولى، لا بد بأنها ضاعتْ للأبد، خلال عملية تجميع الكلمات. صرتُ منقسماً على ذاتي، مثل أغلب أبناء جيلي. طوال الوقت كنتُ أدرك هذا حتى خلال طفولتي، كنتُ أدرك هذا.
في البدء ظننتُ بأنهم المختلفون، بعدها اعتقدتُ بأنني المختلف، انتابني شعور غامض بعدم أحقية أي شيء بدلاً من ذلك شعرتُ دوماً بالتيه. ولدتُ بهويتي، أضعتها في المدرسة، بعد ذلك بالمصادفة فحسب عثرتُ عليها في الشارع.
هذه المرة، كانتْ مختلفة، باهتة أكثر، إنما مؤثرة أكثر، كان يتوجب علي جعلها واضحة لأجلي أولاً، بسبب ذلك استغرقتُ في جمع القصص، بسبب ذلك فحسب فتنشنا التاريخ – فيما بعد – من أجل العثور على الوضوح المفقود.
صرتُ مهووساً لبعض الوقت بالأحداث اليومية. أخذتْ أفكاري تنمو بشكل دائم وكثيف، مليئة بالشخصيات وبالأحداث اليومية. منهمكاً من أجل ترتيبها للوصول إلى الصورة النهائية، لكل ما يمكن أن يحدث. قطعة واحدة تُفقد، تجعل من فقدان الكل ممكناً، تماماً كالفسيفساء.
كنتُ أعيد اكتشاف ذاتي ضمن القصص القديمة التي تشكل لوحات الفسيفساء في داخلي، حكايات مطولة عن الجمال القوية الراكضة بفرسانها ناحية الشموس خلال مطاردة الشياطين، مغالبة الشهوات، تضخم الظلال، الحروف المعوجة ضمن المخطوطات العتيقة، قصص ألف ليلة وليلة عن الجواري ذوات الأجساد الفتية، خطط الهروب الدائمة، خيالات متنقلة حول الشخصيات أنثوية ضمن الرسوم الكارتونية كالنباتات التي تتحدث على نحو ساخر.
هناك حكايات شعبية قديمة حول تساقط الأمطار، غرق المستعمرات النمل، عندما تقلع السماء، تشرق الشمس ناشرة خيوط اشعتها الدافئة لتمسد التربة المبتلة، فتخرج جماعات النمل مترنحة، حاملة القمح والبذور، لنشرها تحت الشمس في وقت يصدف مرور طير معتم في السماء، يلمح البذور المعروضة بإغراء، فيهبط من أجل التقاط بعض منها، لتبدأ بعدها إحدى الملاحم التي لم أستطع يوماً ترجمتها على نحو جيد، دوماً ما أتوقف عند منتصف القصة، عاجزاً. الحروف عجزتْ عن تشكيل أية كلمة أخرى.
لأجل التحكم بها قضيتُ سنوات في قراءة الكتب والملخصات التاريخية حول عالم لا معنى حقيقي له أو بدا على هذا النحو، عالم مليء بالعنف والأوهام. دوماً تعبر كانتْ الطائرات سماء بلدتنا -في إحدى الليالي- كنا نعد من أجل البدء في كتابة التاريخ من جديد، بركاى هامشي مي كان يتأمل الأفق، الظلمة الهاجعة فوق قمم الكثبان الرملية، كنت بجانبه عند صخرة القار. كنا وضعنا -فيما بعد- دستوراً غير مكتوب، النقاشات اليومية خلقتْ لنا نوعاً -لنقل- من البروتوكولات المشابهة لتلك المذكورة ضمن القصص الأوروبية والمجلات التاريخية المترجمة.
***
كنتُ – دوماً – أقرب إلى صحفي يتابع قصة مقالة غامضة التفاصيل ومتشعبة بقصص ليست مكتملة، ستكون معتمدة أساساً على مذكراتي القديمة مع دفاتر التي قمنا بكتابتها بنظام صارم وتبويب يمكن وصفه بالأمين إلى جانب أوراق خاصة كتبتها بشكل يومي منذ عام 2001 حتى أوائل مارس 2004 بأسلوب اليوميات الأقرب إلى الأدب-بالأخص الشعر منه إلى العالم الصحافي.
سيتوجب على أي قارئ أن يكون صبوراً لرؤية الصورة النهائية التي أحاول إيصالها، هذا جديد كلياً بالنسبة لي، فالسنوات القليلة التي قضيتها بصحبة الكتب لم تكن كافية لأشعر بأني أكتب بحرية كاملة، سأحاول جمع أزمان متناقضة ضمن صفحات مليئة بالتناقض. مشكلتي كانتْ في أمرين متلازمين: اللغة والزمن.
ما حاولتُ تحقيقه هنا هو بضبط إعادة تمثل ما حدث، أولاً في ذهني ثم في كتابته على الورق بشكل شبه دقيق. فمن ناحية لم أعد قادراً على التذكر المتسلسل للأحداث، بدأتْ القصة – بالنسبة لي – كأنها لعبة كبيرة في سبيل تركيب صورة معقدة، كل ما اعتمدتُ عليه هو حمل كل قطعة من الفسيفساء مع محاولة تذكر من أجل وضعها في مكانها المناسب والبدء في رفع قطعة أخرى.
***
كنا نلتقي كل يوم عصراً عند الصخرة فوق القار -حيث يقال بأن زعيماً قديماً ألقى أروع خطبه السياسية- نراقب، نتحدث ونراجع كل شيء ضمن نقاشات حماسية.
“عندي اعتقاد بأن الخلاص منحة تاريخية، فهو مرتبط بالفهم وإعادة توزيع الأحداث، ربما أكثر من هذا، توزيع متعلق بالفن تماماً مثلما هو متعلق بالدأب يومياً كأننا ضمن عمل اللاهوتي – الأشد أهمية – من أجل إيجاد سيناريو نهائي معزز بالثقة الكاملة. لإيجاد رؤية واضحة للنهايات المطلوبة سلفاً. القدرة على إقناع الجماعات. فهم تاريخنا مستحيل إلا بأسلوب راديكالي، حالياً، هذا غامض قليلاً، بسبب عدم وجود تفاسير مقنعة. لا خلاص واضح إلا ما اعتقد بأنه يبدأ بإيجاد قابلية من أجل التنقيب ضمن مجلدات مكتبة ما مع الكثير من الوقت، الكثير جداً من الوقت”.
هكذا أوضح فكرته نهاية ذلك اليوم. في تلك اللحظة البعيدة، كان بركاى امتلك رأياً واحداً ضمن حزمة ثقيلة من الأفكار. كنا تحدثنا قبلها حول أشياء كثيرة، ظلتْ عالقة في ذهني لمدة طويلة بعد ذلك.
“لأنها القصص ذاتها – قال بحماس – إنما أجد دائماً أمامي تناقضاً مرعباً. لا تاريخ مكتوب للاعتماد عليه، المئات من القصص المروية، أحياناً يصبح عندي اعتقاد مختلف بسبب اختلاف طبيعة اللغة مثلاً، أعني نحن جميعاً في داخل هذه اللغة. أنا، أنت، جدك، جدتي. كلنا داخل هذه اللغة – اللعنة – وهي بداخلنا. الخلاص من الداخل، لا فرق إما منا أو من اللغة. ماذا فعلنا؟ في حالتنا، التجاهل كان هو الأسلوب الأمثل الذي اعتمدناه، تركنا كل شيء يمضي بهدوء، تماماً مثلما يحدث مع الشروق والغروب. التجاهل هو سلاحنا دوماً. لم نهتم للتاريخ بحثاً عن الخلاص الضروري حتى غدا مجرد الحديث حوله مستحيلاً. لسنوات أخذت الأحداث تتعقد لا لشيء نهائي، إنما استمرار عقدة من المشاعر غير المفهومة في التكاثف مع القصص اليومية. غالباً ما ينتابني شعور غامض بالسقوط الوشيك بسبب هذا الهدر العاطفي، نقطة الصدام! أتفهم ما أعني؟”.
لم أكن أفهم بضبط ما كان يقصده، إنما كنت دوماً أشعر بغرابة حكايته، بالرغم من أنها تأخذ أسلوباً غريباً إلا إنني كنتُ دوماً أجد لها وقعاً في نفسي. الفهم لم يكن لسبب ما عقلياً، كانتْ تساؤلاته تقارب الاعترافات، يمكن تفهمها حتى دون فهمها. لسنوات فكرتُ حول سبب شعوري بهذا، ربما لأنني كنتُ أعتبره تجربة جديدة في حياتي أو لأننا كنا نعاني نفس المشكلات بأساليب مختلفة. عندما سألني إن كنتُ أفهمه، كنت بالفعل وجدتُ لكلماته مستقراً في داخلي.
“أحاول – قلتُ له – قبل أسابيع كنتُ مع جدي، للمرة الأخيرة. جدي فقد ذاكرته تماماً. طوال الفترة التي سبقتْ الفقدان، أخذ يروي مطولاً قصة عشق خاضها عندما كان في الخامسة عشرة. ما لاحظته في قصته، كونها تجربة عصرية جداً، ليست فقط قصة عشق قديمة، جعلني هذا أحس بالارتباك قليلاً، كأنها لم تحدث عندما كان في الخامسة عشرة”.
“أفهم هذا – قال بركاى هامشي مي – عندما أعيد قراءة ولا تزال الشمس تشرق استغرب كونها كتبتْ عام 1926 أي بعد سنتين من سقوط الخلافة الإسلامية وقبل إعدام المختار بأكثر من أربع سنوات، قراءتها تجعلني أشعر دوماً بالارتباك. العصرية التي تظهر في النص لا تتوافق مع قدم تاريخ ظهور النص نفسه كأن القصص تتجدد دوماً”.
إذ ذاك عقبتُ قائلاً بأن هذا يبعث احساساً مضللاً. اتفق معي بركاى قائلاً بأنه حاول دوماً فهم المسألة، فبدأ يعرض على مازحاً البحث حولها. أخبرني بأنه يمتلك مكتبة ضخمة مقارنة مع المكتبة الوحيدة ضمن البلدة، وإن لديه حزمة مقالات جيدة كُتبتْ منذ العشرينيات، مجلدات تتحدث عن نشوء الدول الجديدة، عقب الحروب العالمية، مع ظهور أطوار مختلفة لفكرة الجماعات الضاغطة، غرابة أطوار الشعوب خلال الثورات، الانقلابات العسكرية، سنوات الاستقلال.
“ضمن مكتبتي -قال بركاى هامشي مي- المئات من أعمدة الصحف والتحقيقات حول الإبادات الجماعية مذكرات من عاشوا أهوال تلك المراحل العصيبة من تواريخ الشعوب، بعض أفضل المقالات السياسية التي بشرتْ بالأنظمة الجديدة للعالم، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، ترجمات جيدة تحصلتُ عليها من شاب يعمل في مكتب ترجمة عمومية، تُرجمتْ خصيصاً ليطالعها بعض المتنفذين في الدولة، سيناريوهات الأفلام الضخمة مثل العراب، آخر رجل يصمد، الطيور، مكان في الشمس، مجموعة جيدة من المذكرات والسير الذاتية. حسناً، أنا بحاجة إلى عشرين سنة للوصول لأسباب التضليل الذي نعيشه، عشرين سنة فقط”.
“هناك من وصل الستين، بلا نتيجة”. هكذا قلتْ مازحاً، لكنه أخذ المسألة بشكل جدي.
“لا لا لا أبداً – قال – سأعتبر هذا تشاؤماً، وهو غير مقبول بالمطلق، لا تعد لمثل هذا قط”. لم أرد أن أبدو مستسلماً فقلت: “قليل من العقلانية، ربما”.
“قلت عقلانية، أهكذا قلتْ؟ اسمع لأي سبب أخبرك جدك عن قصة عشقه – داومتُ التطلع نحوه كنتُ أخبرته عن ذكريات جدي حول عشق قديم خاضه حتى الجنون – أتظن بأنها مسألة متعلقة بالعقلانيات -لم أكن- عندها لن تفهمه مطلقاً. الأسباب التي دعته لرواية ما حدث معه حين كان في الخامسة عشرة، أعني جدك تجاوز….”.
“الثمانين”. عقبتُ بما يشبه الاعتراف.
“بضبط -بركاى وضح متحمساً- أظن بأنه أراد حماية قصته من الضياع، أراد لها أن تستمر في داخلك بالذات، منحها نمواً جديداً لا أكثر. العقلانية كانت تفرض عليه أن يحتفظ بقصته حتى النهاية، خوفاً على صورته مثلما فعل غيره ممن في عمره. العقلانية تفرض فقدان بعض القصص، المئات، بل الآلاف من المسنين أخذوا قصص عشقهم معهم، لم يعد لها مكان في الوجود حتى أبنائهم لا يمتلكون إلا ما عاشوه عنهم، بلا ماضي وبلا أساطير تجعلهم قادرين على العيش بأسلوب مختلف. جدك لابد أحس بأنه يمتلك شيئاً مميزاً، لم يرد الموت دون منحه إياك، قدم لك هدية قيمة. العقلانية لا شيء أمام القصص. لهذا السبب بالذات أعتبر بأن السنوات العشرين القادمة مهمة بالنسبة لي، لأنني أود معرفة ما تخفيه هذه القصص. تجاوزها دون فهم، يعني عدم فهمها للأبد”.
لسبب ما ظننتُ بأني فهمتُ فكرته قبل أن يشرحها لي. كأنها فكرتي. هل كنتُ مضللاً آنذاك أم كنتُ مجرد منبهر به؟ فكرتُ بأنه سيطلب ربع ساعة من حياة كل شخص عندما يبلغ السبعين قبل إكمال فهمه لمادة القصص، تماماً مثلما فعل كازانتزاكي، كنتُ آنذاك قرأتُ بعضاً من مذكراته ضمن مكتبة والدي الخاصة. بإفصاحي عن هذا الرأي، رأيته يبتسم.
“حسبتك تحب قراءة ديكنز فقط، كازانتزاكي رائع أيضاً، في الحقيقة هو أكثر من رائع، إنه يبدو النصف الصامت منا. نصف الهمجي، الساحر. صاحب شهية مفتوحة كالبدائيين، وحش عصري. لا بد أن نقرأه معاً، نحن بحاجة للحديث حوله. دوماً شعرتُ بأنه واحد منا، أحياناً خضتُ نقاشات معه ضمن منطقة خيالي، لولاه، لبقيتُ وحيداً، مع ذلك رغبتي غير المشبعة للمناقشات حوله. أتتخيل شيئاً من هذا النوع، عدم البهجة لأنك لن تجد ما يُشبع رغبتك”.
عدم البهجة، رغبات غير مشبعة. أردتُ أن أقول بأن هذا يبدو حديثاً مهماً حول الفتيات. أردتُ أن أمازحه قليلاً، لكنني أحجمت بسبب النظرة الملتهبة ضمن عينيه، كان يبدو جدياً، لا شك بأنه كان يستعد لمأساة ما ستحدث -لا شك بأنه- كان يرى واحدة تتشكل آنذاك. واصلتُ التطلع إليه بصمت. إيجاد تفسير ما دوماً مسألة معقدة. تظل تعتقد بأن ما تفتقده هو الخلاص، هل يمكن أن تكون الذكريات خلاصاً؟ الصور المتبقية في الذهن، أيمكن أن تكون؟ هل تعتقد ذلك؟ هكذا سألتُ نفسي مراراً طوال السنوات التي أعقبت تلك الفترة. أتذكر بأنها كانت عصرية مدهشة، شمس لطيفة، نسائم عطرة تسري بهدوء مثل الحلم، رائحة التربة المروية تملئ أجواء البلدة. بركاى بدا منتشياً، أقل غموضاً، تقنياته المسرحية غائبة، رغبته الجامحة في الإدهاش خافتة، لم يكن إلا أفكاراً متوهجة بالرغم من إنه كان لا يعبأ بالاعتراف بتلك الأفكار، لم يكن يعترف بها بالمطلق، يعتبرها تهمة، لسبب ما شبه غامض، كان يعتبرها تهمة.
“القصص تخلق الشعوب -قال شارحاً- أما الأفكار فإنها لا تصنع إلا الأتباع. سرعان ما ستُقدم لنا خطوطاً حمراء تصل بنا دوماً إلى طرق مسدودة غير قابلة للتجديد أنظر إلى الأسفل كل مسن، كل شاب، كل طفل من شعبنا، يحفظ الأمثال دون أن الإهتمام بالقصص من ورائها. كل منهم يمتلك العشرات، المئات من الحكم الجاهزة دون أن يقدر على رؤية القيمة القصص المتضمنة في أسلوب ولادتها، كأنها سقطت من السماء أفكاراً جاهزة. القصص ترينا بأن كل شيء من صنعنا، الأفكار تفعل العكس تماماً، إننا نصدق بأنها مقدسة دوماً. الرعب يتجسد ضمن الخلاص المفترض من قبل تاريخ غير مكتوب، تخيل حجم النقص الذي يقدمه التاريخ المقدس الذي لا يستند إلا على أفكار شبه مقدسة، تعطي وعوداً غير منطقية لمستقبل هلامي، أي كابوس. البدايات دوماً بحاجة لماضي ما. ماضي غير مكتوب وغير موثوق، قد يفتح الطريق أمام أشد الأفكار المقدسة جنوناً”.
“أفكار مثل ماذا؟”. هكذا سألتْ.
“هذا هو السؤال -قال بركاى هامشي مي- إنها مسألة إيمانية، ينقصني الكثير، لا إيمان عندي بالأفكار. مهما كانت هذه الأفكار، الإيمان، صادق كالشمس. حدوث عكس ذلك، لا بد أن ينتج صداماً رهيباً. من يريد حدوث صدام كهذا. الإيمان طريق حتمي نحو المواجهة. هذا ما يفعله الإيمان بالأفكار داخل المجتمعات. الأفكار تأخذ المجتمعات إلى الصدام. أصنع فكرة، ثم انتظر وقوع جريمة. كيف يمكن تجنب هذا؟ كيف، بالمجتمعات الفاضلة مثلاً أم بالمجتمعات التي تحكمها الأنظمة الديكتاتورية؟! الخيارات المتناقضة. اليوتوبيا أم الديستوبيا؟ لحسن الحظ، ما أبحث عنه يمكن تحقيقه ضمن حلقة صغيرة تهتم بالذاكرة. تجميع قصص الأحياء السكنية، ما حدث طوال عقود، ربما قرون، ما حدث دوماً شيء مهم”.
“بلا أفكار كيف يمكن أن يأتي أي خلاص”. تساءلتُ بعصبية طارئة.
“دوماً هناك خلاص -أجاب متفهماً- حيث الخلاص لابد أن تظهر القصص، ما علينا سوى تتبع القصص، تماماً كفتات الخبز، قصة تلو الأخرى، لنصل للخلاص مجدداً. الركض في كل الاتجاهات من أجل جمعها -عندها ابتسم قائلاً- سأروى لك هذه: حلمتُ مرة بنفسي أركض خلال الأحياء، التقيتُ وجوهاً أعرفها، كانوا كالأشباح يخرجون من الطرقات الترابية فجأة، ليتفوهوا بأشياء غامضة، تلميحات لم أستطع فهمها مطلقاً، لم أكن أتوقف عندها، بل استمر في الركض حتى أصل صحراء مفتوحة، حيث أجد رمالاً مبتلة، هياكل صدئة لسيارات غارقة بالكاد، لا تزال محركاتها تجأر كالجمال الشبقة. التطلع إليها بدا مرهقاً. التطلع دوماً مرهق، دوماً أردتُ الابتعاد”.
في ذلك اليوم كان صريحاً، ثملاً بصراحته، بالنسائم العليلة، بالحرية التي يجدها كونه لا يزال مجهولاً. كنت ألتفتُ نحوه، محاولاً التقاط شيء عنه، أي شيء، لا يهم ما يكون، لحظة إلهام، لحظة ضعف، تناقض ما ربما قد يصدر عنه أو منه، من أجل إيجاد توضيح لصورة بدتْ غامضة أو قصة غير مكتملة. لكنه استمر في هدوئه الحيادي، معزولاً عن كل شيء يحيط به، فيما بعد نجحتُ في تكوين قصة عنه.
كان أصغر سناً حين سمع أشياء عن والده، وصفاً علق في ذهنه مطولاً كما في ذهني، الندبة المفاجئة، المزاج عصبي، نفاذ الصبر، الرؤى والكوابيس. اعتبرها دوماً علامات على السقوط. كان شاهد والدته المنهارة عصبياً، تعاني بشدة. أعتقد دوماً بأن اللوم يقع على والده. خاله كان يعتبر والده شيطاناً، مر بالبلدة خلال أزمنة الفوضى. بذرة شيطانية لازمته طويلاً، ذلك الوصف المعتم. زادتْ هذه الاعتقادات من غرابة تصرفاته. العزلة. الانطوائية والكوابيس سيطر عليها عندما بلغ العاشرة. بدتْ أبدية. بدأ قراءة الشعر، التاريخ والأدب النهلستي.
ظل محباً للحياة ونهم بشدة فيما يتعلق بحبيبات العنب المغموسة في الثلج البارد، المانجا، شرب العصائر باعتبارها البديل المتاح للأنبذة الجيدة، يبدو مسرحياً عندما يفعل ذلك، يترك خيطاً نحيلاً من العصير القاتم ينساب عند حافة فمه فيما يستغرق في قراءة القصائد ومتابعة الرموز والأساطير ضمنها. لديه مكتبة جيدة -بالمقارنة مع المكتبة الوحيدة البائسة في البلدة- مكونة من ألفي مجلد. جده من تكفل بتأسيسها.
“من الجيد أن يكون أحد الأوغاد قارئاً”. هكذا كان يقول معجباً فيما هو يحشو غليونه.
“بلا شك هذا جيد”. أخواله على عكس منه، كان يرون بأن المكتبة هدر للمال. ظل متماسكاً حتى ظهرتْ تلك الندبة، ذلك فأل سيء، فالتاريخ يعيد نفسه دوماً. لأي غرض، بأي شكل لا أحد يعرف. كل الكليشيهات خطرتْ في ذهنه. خلال إحدى المرات كان يحاول حرق تلك الندبة عندما ضبطه أحد أخواله، فأطلق عليه النبي المعتوه -وصف ابداعي ليس من شيم خاله كما قال- فيما بعد أدرك بأن ذلك الخال، بدأ يقرأ مجلداً عن قصة النبي موسى وفرعون. في حياة بركاى هامشي مي لكل فعل سبب، لابد أن يعرف السبب وراء كل فعل.
“لا بد بأن تجسيد النبوة -شرح بركاى هامشي مي آنذاك مستنتجاً- أهم مظهر من كل مظاهر الصحاري”.
كان ساخراً ذلك اليوم.
كنا على القار، بشيء من التردد أخذتْ العتمة تهبط، غامرة كل شيء، فأخذتْ أوراق الشجيرات ترتعش قلقة. حلق طير ضمن العتمة الممزقة بالكاد، حركة بعيدة، أصوات متتابعة لصفيق أجنحة مرتْ بالجوار فيما استمرتْ عشرات السيارات ترسل أضوائها عبر طريق السوق. ضيقتُ عيني، فبدتْ الأضواء كالسيوف الباردة تنساب باتجاهنا. لحظة صمت بدتْ مقدسة.
“أروي قصة – برر طلبه قائلاً – القصص، قلنا بأنها مهمة، أروي واحدة”.
“حسناً، شهاى كهل يعاني نوبات الخوف والاجفال، تنتابه لحظات غضب، أصبحتْ جزء من شخصيته عقب خروجه من أسر القوات التشادية. كان تم تكليفه ضمن حرس الحدود، فأصبح يتصرف بجموح كلما قبض على مهاجر تشادي، يقوم بربط يديه ورجليه وراء ظهره بالأسلاك الحديدية يتركه ملقى في العراء تحت الشمس المحرقة، عندها فحسب يكون بوسعه النوم دون أن يجفل بعد أن يغدو مزاجه طوال اليوم رائقاً”.
“قصة جيدة”. قال بركاى هامشي مي.
“سمعتها من أحدهم، كان يضحك، لأن شهاى تم القبض عليه في بنغازي على إنه تشادي”.
“أحكي واحدة أخرى”.
“اختفت احدى الفتيات، بحثوا عنها مطولاً عبر البلدة، عبثاً. تلاشت. في جهة أخرى لاحظ أحد الآباء بأن ابنه لم يعد يتناول طعامه في البيت. كان يخرج دوماً، فلحق به في احدى المرات، وجده متجهاً ناحية مزرعة شبه مهجورة، داخل كوخ مهدم، عندما دفع الأب الباب الخشبي عنوة، فوجد وراءه الفتاة مع ابنه المندهش بالكاد”.
“أروي قصة مشابهة للثانية”. طلب بركاى متحمساً.
“عاشقان التقيا خفية في مزرعة ما، عصراً. نسائم رائقة كانتْ تعبر مثل لمسات ربانية، خرير المياه بدا ملهماً، فيما أخذتْ أزواج العصافير تطارد بعضها، بدا منظراً جميلاً، أكلا معاً حبات العنب، قضما من الثمار الناضجة، ابتسما، ضحكا، غرقا في حديث رومانسي لطيف، بعث في جسديهما الفتيين استرخاء لذيذاً حتى استغرقا في النوم. عندما استيقظتْ الفتاة، سكنتْ العصافير، تصلبتْ الأشجار بوحشية، الأحراش بدتْ مرعبة فيما أسدلتْ العتمة مثل الغلالة على كل شيء، فأدركتْ الفتاة أي مصير رهيب ينتظرها عندما تشرق الشمس”.
“هل هي قصة حقيقية؟”. سأل بركاى هامشي مي.
“إنها قصة – قلتُ بهدوء – القصص دائماً حقيقية”. كنتُ مقتنعاً بهذا، في عينيه رأيتُ نظرة إعجاب، كنتُ فرحاً خفية.
“سأواصل اختبارك – قال وهو يهز رأسه – أروى قصة مشابهة للأولي، الأسير التشادي”.
“حسناً، جيد جداً – قلتُ متفهماً – يقال بأن ضابطاً معلماً داخل إحدى المعسكرات، بدأ في تذنيب – تعذيب – أحد الجنود، داخل الميدان العنيف. بعد ساعات من الجري، الوثب، الزحف في القاذورات وعلى الرمال المحرقة، الجري تحت الشمس الصحراء الحارقة، حمل الأثقال حتى بدأ الجندي المرهق يشتكي من الأعياء، أخذ يردد مؤكداً بأنه سيموت، الضابط لم يهتم بذلك، بل واصل – تذنيبه – تعذيبه حتى سقط ميتاً. قيل بأنه كان يعاني قصوراً في القلب”.
عندما انهيتُ حديثي كان أصبح جدي الملامح.
“أتعرف لا يمكنني التوقف – قال – أود سماع قصة تراثية منكْ”.
“أي تراث؟”.
“تراثنا”.
“تعرف بأنه لم يُكتب”.
“أعرف أيضاً بأنك تكتب”.
عندها رويتُ – مجمع القردة – كنتُ انتهيتُ منها قبل أسابيع.
كانوا بالقرب من القرية، يملئون المكان صخباً. الأشجار العالية يتقافزون من فوقها ليحطوا على أسقف المنازل. عاشوا هكذا على الأقل لجيلين، لم يتغير شيء فيهم، ترسخ الأمر على نحو مفرط، كأنهم وجدوا للقفز والصراخ. في ذلك الصباح سقطت عجوز مريضة. كانت تأن ليلاً، كانت تأن نهاراً. لم يكونوا يسمعونها جيداً، صراخهم أعلى من أنينها اليائس. قرد صغير من الجيل الجديد أشار لهم بخطورة الأمر: أنا لست مرتاحاً لهذه العجوز. كان هذا مستغرباً بالنسبة لهم: عجوز تأن، إنها مريضة، لما لا ترتاح أنت؟ ابتلع القرد الصغير صوته، شرع البقية في اللعب الصاخب. مر الوقت وازداد ألم العجوز، ضلت تنوح بصوت ينثر شعوراً مرعباً. إذ ذاك قال القرد الصغير: هذه العجوز ستقتلنا، لابد من فعل شيء. قالها للمجمع الصاخب، الذي سكن للحظة ثم قال أحدهم: إنه يخاف من عجوز توشك على الموت. وأضاف أخر: حتى إنها ليست حماته. قفز الثالث ليؤكد: حتى لو كانت حماته إنها على وشك الموت، بحسب ما أخبرونا فيما بعد بأن، القرد الصغير ترك أشجار القرية مبتعداً. هاجر بصمت. يُقال أن السلطان زار تلك القرية، أبدى إعجابه بحيوية القردة قبل أن يدخل على العجوز المريضة. كانت منهكة القوى، فاقدة الأعصاب.
متمددة هناك في الحر اللزج كمن تنتظر أمراً نهائياً. سألها السلطان كمن يسدي معروفاً أخيراً: أتريدين شيئاً؟! عندها رفعت رأسها قائلة: دواء. هز السلطان رأسه بيأس: دواء حسناً، دواء، ما هو دوائك؟. كان سؤالاً بلا أمل. لكن العجوز حاولت النهوض أكثر وقالت بعينين لامعتين: شحم القردة. كان أغرب دواء سمع به السلطان. قام من فوره ورفع عقيرته أمراً جنوده بإحضار شحم القردة. ذلك العصر شهد أكثر مذابح وحشية، كان الجنود يقتلون كل قرد ليجدوا أنه بلا شحم، يلقون جثته ليركضوا وراء قرد أخر، في نهاية اليوم كانت القردة مرت بأكثر الأيام وحشية، قتلاً وتشريداً. عاد الجنود بلا شحم، فالقرود لا تدخر شحوماً تحت جلودها. في الجهة الأخرى، بعيداً، كانت البقية الهاربة من القردة تقف أمام القرد الصغير المحدق فيهم،. لم يكن يجد كلمات تقال، لا مشاعر، فقط صمت طويل وعميق بلا صدى مفعم بالسكون والحيرة، مع ذلك قليل من الفرح الأبله، أخذ يجول في صدره، لصدق حدسه.
“أتدرك ما تحتويه هذه القصص من أسرار؟”. سألني.
“إنها قصص”.
“إنها صناديق للأسرار – قال بهدوء ملهم – أسرار تحتاج لفك شيفرتها تماماً كما فعل الإنكليز مع الشيفرة الألمانية خلال الحرب العالمية، قصص مثل هذه مهمة – أضاف معللاً حماسه – إنها بصمات تطلعنا على كثير من خفايا شخصياتنا، إيجادها خارج القصص ليستْ بالمهمة السهلة”.
لا يمكن نسيان ذلك اليوم، لا يمكن نسيان تلك اللحظة، أخذ يُحدق في عيني باتصال. أن أقول شيئاً ما – بدا كأنه كان ينتظر مني – أن أقول له شيئاً ما أو أن أقدم على تصرف معين، لم أتفوه بأية كلمة ولم أقدم على أي تصرف, واصلتُ التحديق بحيادية نحو العتمة، نحو السماء، نحو الأشجار القلقة، نحو حركة عشوائية ضمن العتمة، نحو الخيط المضيء للأضواء المنبعثة من المصابيح الأمامية للسيارات المصطفة ضمن زحمة السير على امتداد طريق السوق.
عندما أتذكر هذه التفاصيل، أُدرك بأنه أمر متكرر حدث دوماً وأخذ يحدث باتصال. في إحدى المرات – بعد فوزنا ضمن احدى المباريات المهمة – جاء شاب من فريق الكبار في السن، جلس بجانبي، هز رأسه متأسفاً بسبب ما يلاقيه ضمن فريقه من تعنت، وإنه لم يعد يقوى على احتمال أنصاف المواهب، يسببون المزيد من التيه، وهو بحاجة للموهوبين بالفطرة. بدأ بعدها يُثني على أسلوب لعبي، قدرتي المدهشة كما قال. قبل أن يُكمل حديثه، رفضتُ عرضه، فبدا مندهشاً، مطالباً بمعرفة الأسباب التي تدعوني للرفض، لم أعطه أي سبب، فقط رفضتُ بعناد. خلال تلك اللحظة البعيدة على القار، بالقرب من الصخرة المعتمة برفقة بركاى هامشي مي، عرفتُ بأنني أواجه نفس الموقف، إنني على وشك قبول دخول مشروع ما سيُعرض علي الانتساب إليه، كأن الاختبارات التي استمرت لأيام انتهتْ لشيء مهم. كنتُ بدأتُ أشعر – أخيراً – بأنني جزء أساسي من مشروع غامض. لطالما بحثتُ عن الغموض، بانتهاء الدوام المدرسي، أتجه نحو الأحياء السكنية برفقة أخوتي، بالرغم من إن أغلب ذكرياتي عن تلك السنين، أكون فيها لوحدي. كل شيء يبدو مختلفاً حاولتُ دوماً فهم تلك اللحظات – بعد هذه السنين – إذ كيف يمكن استعادة جميع عناصرها كما هي؟
“أتعتقد بأن ما نراه هو كل شيء؟”. لم أكن أعتقد، لكنني لم أعتقد بأنني فهمته جيداً.
“لا”. قلت بالرغم من ذلك.
“ماذا الذي تعتقد بأننا لا نراه جيداً؟”. سألني باهتمام مغلف.
“أشياء مختلفة”. أجبتُ دون أن أكون متأكداً بأنني فهمته جيداً، ربما كنتُ قلقاً من عدم قدرته على فهم ما كنت بصدد قوله.
“أود أن أعرف هذه الأشياء المختلفة”. قال فيما كان يشعل سيجارته. قلت كل شيء، كل ما أعرفه عن تلك الأشياء التي لا نراها جيداً، ما يجب علينا أن نراه جيداً.
بعد هذه السنوات أحاول تذكر ما قلته في تلك العصرية. أغمض عيني بين ممرات شبه المعتمة للمكتبة، كنتُ سجلتُ – بشكل متقطع – كل تلك الذكريات على الورق، عشوائياً، كل ما تذكرتْ، أشياء غامضة، ظللتْ أراها دوماً. طريق ترابي مغبر مليء بالصخور البنية الثقيلة -أخذتْ تختفي مع السنين- أعمدة خشبية للكهرباء، ممتدة باستقامة كأنها قامات لحراس غامضين، مجمدين هناك على مسافة أبعد قليلاً ضمن الساحة الشاسعة، حيث تصطف أعمدة حديدية منتصبة بهيبة، حاملة أسلاكاً غليظة مثل قنوات من عالم صناعي فاسد، بحيث تبدو أشبه بشبكة هائلة من خيوط تصنعها عناكب عملاقة، تدفع الطيور لتحليق من فوقها بمسافات بعيدة أشبه بأسراب ذباب، مرتعبة من تلك الشباك. مشاهد يومية ومتداخلة، متلاشية بالكاد. على قمة التل يظهر بجلال حيادي مبنى للأرصاد الجوية مثل دير جبلي مشرف على المساحة المكتظة بالأعمدة الحديدية، محاطاً بسياج حديدي يُخلف واقعاً كابوسياً بسبب القطط المعلقة من رقابها على السياج بأفواه فاغرة، العشرات منها مشنوقة متروكة ضمن لحظة رعب تبدو أبدية – على الأقل في ذهني – أحياناً أستيقظ مرتعباً من تحرك القطط الميتة ضمن الكوابيس، أكون واقفاً عند مكتب الأرصاد الجوية، أحدق في الاضاءات البرتقالية الكابية الممزوجة مع الفيض القمري البارد. البيوت الساكنة داخل لون أقرب إلى الظلمة تاركة الحكايات القديمة تمرق بحرية مطلقة. لا شيء حقيقي – آنذاك – الساعة للأبد تقارب العاشرة. دوماً يشرع الليل بالهبوط، لتهبط معه أشياء كثيرة. لا شيء يبقى في مكانه، حتى النجوم تقترب من البلدة في فضول مريب. تضيء حبيبات الرمال وعراجين التمر المتخيلة.
البلدة تغدو أمراً مختلفاً، فتاة أقلعت عن الحجاب، غرقت في مزيج عسلي لامع يسيل بلذة على جسدها. بعض الرجال المتجهين إلى المقاهي الليلية، يبدون في عجلة. فيما تأخذ القطط الثلاث وقتها في عبور الطريق الخالي، إنما ليس لوقت طويل، القطط في البلدة تعاني الأمرين، كالغزلان في قفص مليء بالفهود الجائعة. فالكلاب الشاردة تحيط بالبلدة. تهبط إلى ساحاتها من كل الجهات كجيش فاتح من كل الفصائل والألوان. كنتُ في الابتدائية حين رأيتُ بأم عيني في طريق العودة من المدرسة، قطيعاً كاملاً يهبط تلال الأرصاد الجوية، متجهة ناحية المطار. مشهد غريب وقفتُ لنصف ساعة أراقبه. كان هناك كلب بني ضخم في مقدمة القطيع. آنذاك فكرتُ بأن هذه الجموع المرعبة تكون في كل شارع من البلدة ليلاً، تطلق نباحها الحاقد في منام كل شخص من البلدة. غالباً ما تهاجم القطط الشاردة لنجدها مقطعة الأوصال اليوم التالي.
في إحدى الأصباح وجدنا قطاً يموء في أعلي عمود النور من الرعب. كان الأمر مضحكاً فعلاً ومحزناً في آن واحد: أن يخاف شيئاً ما لحد أن يصعد عموداً مغروساً وسط الطريق. استعدنا معاً تلك اللقطة الشهيرة للقط توم حين هاجمه الكلب. أدركنا بأن الرسوم الكارتونية بدورها تحمل حقائق عدة. الدليل كان أمامنا صباح ذلك اليوم، قط على العامود. الحياة اليومية للقطط كدح مريع، كل البلدة تعرف بالأمر، بل المراهقين يشاركون الكلاب في عدائهم الشديد للقطط. في بعض جولاتي، كنت أجد قططاً مربوطة بإحكام، بارتفاع منخفض على سياج الأرصاد الجوية، تموء بحزن وألم. كنا نتركها، لنعود النهار التالي، فنجدها مقطعة. لما كان يحدث ذلك؟ لأي سبب تُقتل القطط؟
فكرتُ في السبب فيما بعد مطولاً، أجسادنا كانت ترتعش ونحن نرى تلك الأجساد الصغيرة اللينة مخترقة، أفواهها مفتوحة في صرخة ألم ماتت هناك، في الفراغ. لا أحد سمعها لا أحد يسمعها، فقط الكلاب والصمت، في شبه اتفاق وتواطؤ. نمنحها القرابين، نتركها تنهش، تبقر بطونها بوحشية. نتأكد بأن لكل مخلوق روح واحدة حتى القطط. لا شيء كان يقف في طريقنا. لم نكن نبالي. نراقب القطط بصمت عبر كل الطرقات. كنتُ لا أتدخل في القتل، شيء ما يدفعني للمراقبة، أقف هناك، أقترب بلا تردد، راغباً في الرؤية. كانت تحاول الهرب، تركض بأقصى ما تستطيع، تصعد أي سور أمامها، لكن بلا فائدة، كل ما تود فعله، معروف لنا سلفاً. جميع الأسوار والبيوت تشارك في المطاردة المتكررة. في نهايتها تقع القطة داخل احدى الأكياس بأيدي الصبية، تَضرب بعنف قبل أن تجد نفسها مربوطة على سياج قدرها الأخير. محاولة خدش أي شخص يقترب منها، تقاتل بشراسة. بعض الصبية كانوا يُجرحون بشدة، لكنهم يضحكون بهستيرية، يضمدون جراحهم ببيوت العنكبوت، معتقدين بأنها توقف الدماء وتنظف الجروح. البعض منهم يغمسون أيديهم أو أرجلهم كما يغمرون رقابهم بالرمال النظيفة.
هناك حكاية تروى ولا أحد -في البلدة- يعرف بضبط زمن حدوثها. بطلها صائغ باكستاني. يقال بأنه طارد قـطة مشاكسة لمدة طويلة. يخلد لنوم، فتدخل مطبخه لتقلب كل شيء: الصحون والقدور، تفتح حتى ثلاجته. حاصرها في إحدى الصباحات، فرحاً بإيجاد عدوه الصغير، المتعب. أحكم اغلاق باب المطبخ من الداخل. كانتْ القطة المرتعبة تحاول الهرب. صباح اليوم التالي. عُثر على الباكستاني -بعد كسر باب المطبخ- ميتاً على رقبته تظهر أثار وحشية للذبح فيما انطلقت القطة هاربة تاركة أثار أقدامها مطبوعة بدماء الرجل. قيل -فيما بعد- بأن القطة لم تجد أمامها إلا أن تهاجمه من أجل النجاة، قفزت بمخالبها على رقبة الصائغ الباكستاني المسكين، فذبحته بشراسة.
في تلك الفترة رويتُ لصديقي عشرات القصص. لم أعد أتذكرها جيداً. أحياناً أكون نائماً عندما يشتعل رأسي بواحدة. أقوم فزعاً، أركض عبر الممرات المكتظة، بالكتب الخيالية، كالمحموم، المئات من الأفكار المتوهجة، ذات الصهيل القروسطي، تحاول دوماً أن تلهيني عن الاحتفاظ بتلك القصص، أغمض عيني، لا أتطلع إلى المجلدات المهملة الأطراف. لا أنظر إلى قصاصات الورق ولا إلى الصور المعلقة -أحب التطلع إليها كلما مررتُ بالبهو- أو الممرات البعيدة، اتجه مباشرة إلى طاولة عملي، أجلس على الكرسي البارد عارياً. أقبض على الجزء المتاح من الحلم غالباً ما يكون محاطاً بالضباب الكثيف، بكثير من الأفكار والألوان، أشرع في محاولات جنونية، من أجل طرحها، تجريديها من الأشياء الدخيلة، جعلها كما هي، كما يجب أن تكون، عارية من الألوان الزائدة، ممددة على الورق، تعبق حبراً بأجمل هيئة، إنها طبيعة الأشياء، الليل الهادئ، الجسد المنهك، الإحساس العميق بالاكتفاء، أقوم بعدها مغالباً الإنهاك، بحاجة ماسة إلى التمدد على سريري لنيل قسط من النوم.
ذات ليلة حلمتُ بواحدة، كنتُ نسيتها تماماً. في الحلم، كان الوقت عصراً، بدتْ الشمس كوجه طفلة لعوب، مختبئة خلف الغيوم. كانتْ التربة مروية جيداً، تبعث رائحة حلمية زكية. في البدء ظننتُ بأنه من الغريب أن أكون هناك بالقرب من محلات النجارة، لكني تذكرتُ بأننا كنا نقضي وقتاً طويلاً هناك -أثناء عودتا من المدرسة- من أجل جمع القطع الخشبية، المكعبات منها بعض القطع المثلثة الشكل لبناء مدننا الخيالية باستخدام تلك القطع نصنع امتدادات هائلة للمباني الحكومية، جراجات ضخمة، أسلحة متنوعة من الخشب، مع أعداد هائلة من سكان تلك المدن، كلهم من أعواد الثقاب نخلق اليوتوبيا الخاصة بنا مع سكان متساويين في كل شيء. دون علاقات جنسية، بلا أحلام ولا طموحات فردية. لا يأكلون ولا يشربون. لا يبالون حتى بالتنفس. أحياناً تنشأ بين البعض حوارات عادية أشبه باللقاءات في عالم النمل خارج المستعمرة. وقوف هادئ للحظات، بعدها يبتعد كل فرد لحاله، مع مقتنياته التي وجدها هكذا دون بذل أي مجهود، إنهم يعيشون مع ذلك خارج الزمن، بحسب أهواءنا وأمزجتنا. هذا الرخاء لا يدوم طويلاً، أحياناً تقع نزاعات بيننا نحن في الأعلى، حيث نقف بهدوء خارج عالم أعواد الثقاب، نحرك كل شيء بأصابعنا، مدركين بأننا نحن من نحيا كل تلك اللحظات العصيبة، نحن من يشعر بالمتعة القريبة من المتع الجنسية، إننا عندها نمارس السلطة المطلقة.
حين تتغير أمزجتنا نحو الأسوأ فإننا نخلق دولة الديستوبيا، نمنع التجول، نغلق الطرقات، نصنع الحدود الحديدية، نضرب أعواد الثقاب ببعضها، ضمن صراعات تؤدي إلى كسر بعضها، نحرق رؤوس أغلب الأعواد، أحياناً نحرق العود حتى نصفه، فيما نقوم بإختيار العيدان غير المحترقة، نكسوها بورق الجبن، نصنع لها أردية تلمع كأجنحة القصديرية، نخلق طبقات حاكمة، الأجيال الأكثر تطوراً، تماماً كما في مجتمعات النمل. نشيد لها قصوراً من التراب، مكتظة بالغرف الفارهة والمترامية، الممرات نجعلها طويلة مليئة بالتحف الخيالية والقاعات الضخمة يحتشد فيها شعب الأعواد بأرديتهم اللامعة، داخل تلك الغرف، نصنع أسرة كبيرة من الطين، نضع طاولات عملاقة مع كراسي فخمة، مكاتب ضخمة، حيث يتم اتخاذ قرارات بدء الحروب، شعوب تهاجم شعوباً أخرى، نحرك استراتيجيات تلك الحروب النابليونية بأصابعنا القذرة، نكسر صلابة مخلوقاتنا التعسة، عندها فقط كنا نشعر بالمتعة تغمرنا في موجة كثيفة كالحليب الدافئ.
“إننا داخل عالم مثل هذا”.
“نعم، نحن كذلك”.
“لا تؤمن بأننا أحرار ضمن هذا العالم”.
“لا أؤمن بهذا”.
“أنت خلقت واحداً، أليس كذلك؟”.
“يبدو لي ذلك”.
“عندما تسير في الطرقات بماذا تشعر؟”.
“في الطرقات دوماً أكون غاضباً، أستغرب أن أكون الغاضب الوحيد. في الحقيقة شعرتُ دوماً بالضعف حيال هذا الغضب. أشد بقوة على قبضتي، أحاول أن أتطلع بشرود إلى الفراغات. لمدة طويلة ظننتها مسألة متعلقة بالفتيات”.
“لم تكن كذلك؟”.
“لا”.
“بماذا كانتْ متعلقة؟”.
“بهذا العالم”.
“العالم الذي كنت تحركه بأصابعك! أعواد الثقاب!”.
“أعواد الثقاب كانتْ محاولة فهم. حين كبرتُ قليلاً، دخلتُ عالماً أكثر تعقيداً. أعتقد بأنني لم أفهم كل ذلك التعقيد بعد”.
“أكثر تعقيداً؟”.
“أتذكر صبايا كن في زيارة لوالدتي. كنتُ في العاشرة أو أصغر قليلاً. ادعين بأنهن يضربن والدتي، كن يثبتنها على الجدار، يتظاهرن بضربها. كنا نعلب آنذاك عندما سمعنا صراخات والدتنا، قمنا بمهاجمتهن فوراً، ما أتذكره جيداً، هو إنني بدأتُ أعض بأسناني على مؤخرة إحدى الصبايا. كان ذلك أغرب شيء في حياتي، لحظات استمرتْ طويلاً أو إنها أصبحتْ كذلك فيما بعد، زرعت أسناني اللا لبنية في كامل جسدها، بعدما أحكمتُ الإمساك بها بين ذراعي، كانتْ تملئ ذراعي بشكل كثيف مستقبلاً طفقتُ أحلم بها تصرخ بقفزات مبتهجة، كل ليلة. لم أفهم سبب ذلك، كانتْ ترتدي ساري أصفر اللون، ربما لهذا السبب أعشق ثمار المانجا. ما أعرفه أيضاً هو إنني بدأتُ أشعل المعارك في لعبة أعواد الثقاب، يومياً تنتهي اللعبة بمجزرة رهيبة حتى بعد أن كبرتْ، تلك اللعبة ما تزال في ذهني”.
“أهذا ما تعبره عالماً مختلفاً؟”.
“ألا تراه كذلك؟”.
“إنه كذلك”.
“أحياناً في هذه الحياة – قال بركاى هامشي مي – لا يمكنك مطلقاً، فهم كيفية نشوء هذه الأمور، إنها معقدة. أحياناً أخرى لا تريد الفهم لأسباب وجيهة، تظل معقدة، قد ينتابك شعور أكثر بالحرية، رغبة بالتجاهل. بالرغم من كل هذا، يأتي يوم لا ترغب فيه بأن تظل تلك التعقيدات متحكمة بسير حياتك، تكف عندها عن التجاهل، تبدأ تكتشف رغبتك الفعلية في فهم ما تركته خلفك، في اكتشاف ذاتك”.
صمت قليلاً، تطلع نحو الأفق.
كنا جالسين على القار، البلدة هاجعة أمامنا بفحش وإغراء. قبل هذا بساعات كنا خرجنا من إحدى الأعراس، بالمصادفة تلاقينا هناك، هذا ما أتذكره على كل حال، بالرغم من إنني أؤمن حالياً بأن المصادفات ليستْ ضمن عالم صديقي إلا إنني خلال تلك الفترة، دهشتُ لوجوده هناك، بالرغم من حداثة سنه -كما يبدو لي الآن- إلا إن شخصيته بدتْ دوماً أقرب إلى مدرس لماة التاريخ، أسلوبه في الحياة لم يكن غريباً علي آنذاك. معرفة مدرسي التاريخ ليستْ بالمسألة الصعبة، خصوصاً إن كان والدك مدرساً قديماً لمادة التاريخ، إنهم يحملون الصفات نفسها، أهم تلك الصفات عدم إيمانهم بأي مصادفات، ورغبتهم المحمومة في إيجاد تفاسير منطقية لكل حدث. بركاى أوضح تماماً ميله لإيجاد تلك التفاسير المنطقية. بالنسبة إليه أولاً وللآخرين بعد ذلك.
أخبرني -مرة- بأنه بالرغم من ذلك لا يؤمن بفكرة أن يعرف نفسه أولاً. كان يغامر بطرح بعض الآراء التي يتوصل إليها، إذ ذاك يعلن صراحة بأنه لا يؤمن بتلك الحكم التي نقشتْ على جدران المعابد اليونانية القديمة حكمة مثل: ابدأ بنفسك الأثيرة في عالم بلدتنا، لم يكن يؤمن بها. أولاً لأنها فكرة وهو لا يُقدس الأفكار، بالتالي لا يصدقها في البدء. ثانياً لأن ابدأ بنفسك تعني أصلح نفسك أولاً ومن بعد ذلك أصلح العالم، ولأن الإنسان قاصر وغير كامل جسدياً ونفسياً، فإن العبارة ليستْ سوى المبدأ الأول في الديكتاتوريات الحديثة، فهي تمنح القائد صفة معرفة كل شيء، وإلا فإنه لن يشرع بإصلاح المجتمع دون أن يناقض إيمانه. تأكد لي هذا عندما شاهدته يُدخن في الركن وحيداً، فيما الفتيات كن يستعدن لإطلاق كل شغفهن. آنذاك كنا صغاراً في السن، مسألة أن نجلس في حفل عرس، نراقب الفتيات يظهرن قدراتهن الجسدية ليستْ متاحة لكل صبي في سننا، بل حتى الشبان الكبار يتم طردهم، لذا عندما أخذن يستعدن للرقص، بدأ المشرف على بيت العرس بطرد الشبان. كان في حوالي الثلاثين، قوي البنية، بعينين محمرتين وغاضبتين، نعرفه ضمن الأحياء السكنية بقسوته حتى إننا كنا نسميه بالحجري، لم يجرؤ أحد على مخالفة أمره، عندما هممتُ بالوقوف، أمسك بركاى بيدي، أشار إلي لأواصل الجلوس، كان الحجري يركل طارداً بعض الشبان، بدا في أكثر حالاته غضباً، عندها تذكرتُ بأن إحدى صفاته. لا يمكن التفاهم معه بالمنطق. تطلعتُ نحو بركاى، فبدا هادئاً، هدوء لا يتناسب مع ما كنا مقدمين عليه. أردتُ أن أتحدث عن ما سيحدث، لكنني ابتلعتُ كلماتي، كان الحجري، أصبح أمامنا مباشرة، لم يعد الحديث يُجدي نفعاً، عندها انتظرتُ أن يُرسل رجله بركلة مهينة. فكرتُ في رد فعل مناسب، كنتُ أمتلك سلاحاً أبيض عند خصري، بالرغم من إن جدي عندما أهداني إياه ألقى علي محاضرة طويلة حول الالتزام بالرجولة، وإن السلاح ليس إلا لحماية الذات من الموت، الرجل يتعرض دوماً لتهديدات حقيقية. جدي رجل من عهد الإستعماري وهو مقاتل أهلي. آنذاك، كانتْ البلدة تعاني بعض المشكلات القبلية، بدا لي إن رد الفعل المناسب هي أن أرفع في وجهه، السلاح الأبيض اللامع حتى يرتدع. كنتُ تائهاً في خضم أفكاري الحذرة عندما بسط الحجري ظله وحجب عنا الضوء. كم كانتْ دهشتي عظيمة، عندما انحنى باحترام لا يتناسب مع تحجره، ملقياً تحية بدتْ لطيفة مع ابتسامة متواطئة لبركاى، التفت بعدها، مستعيداً عاصفة غضبه تجاه الآخرين ثم أخذ يبتعد سريعاً، لنجد أنفسنا وحيدين، أمام عشرات الفتيات اللائي كن يتطلعن نحونا. لو طُلب مني أن أضع قائمة بأفضل عشر لحظات في مسيرة حياتي، فإن هذه اللحظة ستكون ضمن الخمس الأوائل.
“أترى؟ -نبهني بهدوء- أنت محق، هناك أشياء مختلفة، لا ندركها”. ابتسامة النصر مرتسمة على وجهه. بدا أضخم مما كان من قبل. شعرتُ بالفرحة تغمرني. التفتُ بعدها فوقعتْ عيني على فتاة، كانتْ تنظر مباشرة نحوي، على وجهها ترتسم ترجمة حرفية لمشاعري، عندها انسابت الموسيقى الراقصة مع إيقاعات ناعمة أخذتْ تزاد وحشية، كانت تلك الفتاة وسط حلقة الرقص، الأخريات يضربن الدفوف، سبع فتيات نهضن معن، للرقص على تلك الإيقاعات المسموعة وأخرى مرئية وثالثة لا أحد يعرف مبعثها. لم أستطع تحويل عيني عن الفتاة التي ازدادت وحشية في الرقص مع الموسيقى التي غدتْ مجنونة تماماً، لوت خصرها عدة مرات بأناقة مسكرة، انثنت ملابسها، قدمتْ رجلاً، ورفعتْ يديها عالياً كأنها تغرق في بحر هائج، عندها عمدتْ إلى إلقاء وشاح الذي كان يحكم شعرها، فانهمر الشعر الغامر المصبوغ حتى ظهرها لتبدأ التماوج مع القميص المثني بشدة فأصبح واضحاً بأنني ما عدتُ قادراً على الالتقاط باللحظة، التي طالتْ حتى أرغمتْ الفتاة على إلقاء قميصها الفوقي فظهرتْ بلباسها الوردي الشفاف، العرق يكتسح كامل جسدها، لكنها بدتْ أعظم حرية من أي وقت مضى من أي فتاة رأيتها في حياتي. قبلها بأشهر كنتُ مغرماً بفتاة أخرى. في تلك اللحظة، أصبحتُ شخصاً مختلفاً بعشق مختلف.
“ما رأيك؟”.
خلال طريق العودة، سألني بركاى.
“بماذا؟”.
“بالفتاة التي رقصتْ”.
“عظيمة”.
“أتفكر فيها؟”.
لم أجب.
فأعاد السؤال.
“لا أهتم”.
قلتْ.
“يجب أن تفعل”.
هكذا قال.
بدا جدياً في تنبيهي كأننا لم نكن معاً نبتهج برؤية الفتيات الراقصات.
“لماذا يجب أن أفعل ذلك؟”. سألته بنبرة غاضبة، كنتُ مثاراً بعض الشيء. فخذا الفتاة، خصرها، كتفيها اللتين تعرتا أمامي، العرق الذي بلل بطنها الضامر وصدرها الرهيب مع التصاق ملابسها الداخلية بحمامتيها بتلك الجرأة، كانت كلها تهجم بإلحاح على مخيلتي، لتجعلني مهتاجاً مثل ثور جامح.
“لأنها قريبتك”.
هكذا قال.
فشعرتُ بدلو ماء بارد ينسكب على جسدي.
ضحك عالياً.
“هذا عالم مختلف”.
قال بركاى هامشي مي.
أشاح وجهه بعيداً عن التيار الهوائي، كور يديه حول سيجارته، أشعلها بعود ثقاب، فبدأ يغلي دخاناً مثل قطار سيبيري. عندما التفت نحوي ضيق عينيه، وهو يتطلع إلى اللهب المقاوم في العود، ثواني قليلة وأخمدتْ المقاومة، انطفأ اللهب، مخلفاً دخاناً نحيلاً سرعان ما تلاشى، وبقي عود الثقاب مسوداً من أثر اللهب. الدخان الكثيف أخذ أنبعث من منخريه ومن فمه، بعد أن كور شفتيه بإتقان ممثل مسرحي، لينبعث الدخان في حلقات مرتعشة تتلاشى فور تشكلها، بدتْ مكتملة وناضجة كحلم طفولي.
“أمزح معك، ليستْ قريبتك”. هكذا اعترف. بدأنا نتحرك، لم أتفوه بكلمة، فأضاف قائلاً: “كان من الممكن أن تكون كذلك، أعني فقط من الممكن أن يقع أحدنا في خطأ مميت كهذا، يُغرم بفتاة لا يعرف بأنها تكون قريبته، يولد عشق ما، ربما يكون قوياً، متمكناً من جماع قلبه، بعد ذلك بوووم، يعرف بأنها قريبته، تخيل أية سخرية رهيبة تنشأ عن ذلك”.
كنتُ أعاني إحساساً ملحاً بالذنب. لم أعرف مصدره. مرارة ثقيلة كانتْ تنساب ببطء لتعبر من خلال صدري للأسفل، مرارة ثقيلة، كأنني أقدمتُ على ذنب رهيب. بدت الملذات هراء، رفعتُ رأسي أكثر من مرة نحو السماء خلال سيرنا الليلي رفعتُ رأسي أكثر من عشرين مرة إلى السماء وتنشقتُ هواءً نقيناً، وفي ذهني شعرتُ بفراغ رهيب. كنتُ أزفر كثيراً.
“لأي سبب تزفر على هذا النحو؟”. سألني.
في البدء ظننتُ بأنني أمام إحدى أطواره الغريبة، عندما يتخذ شخصية مسرحية، ليشرع في النقد الرهيب للأوضاع، دوماً يتحول للسياسة، دوماً لديه رغبة في الحديث ضد تشكيل الدول الحديثة وإن الأخبار السياسية تحمل أسراراً غامضة يرغب في الكشف عنها ذات يوم. خلال تلك اللحظة كنتُ غاضباً من تصرفه غير المتوقع معي. زفراتي المتواصلة، جعلته يعيد التفكير حول المسألة -هذا ما ظنته فيما بعد- إنما بأسلوبه المسرحي المميز.
وقف وسط الطريق.
“أنت منزعج!”.
سألني فارداً يديه، كأنه يستقبل شخصية عظيمة.
“تعرف بأنك أزعجتني”.
هكذا قلتْ.
ضم كفيه معاً، شد عليهما بقوة.
“اسمعني. لا أحب أن أكون كما يريدني غيري أن أكون. تطلع فحسب، فتاة جميلة، قياسات إنثوية مثالية، ترقص لك أنت بالتحديد. الطبيعة، إنها الطبيعة. أنت كنت مثاراً ومثاراً بشدة. هي كانتْ ترقص لأجلك وحدك. يمكن ملاحظة هذا. كنت تحلم حتى بعد خروجنا. كنت تحلم مثل طفل بالعيد في اليوم التالي. هكذا كنت بضبط، بعدما أخبرتك بأنها قريبتك، بدوتُ كمن كاد يضاجع إحدى محارمه”.
اقترب مني خطوتين. أحسستُ بأنفاسه الحارة في وجهي. أمسك بكتفي.
“إنني أعرف نفسي – قال بصوت خافت – أظنني أعرفك أيضاً”.
لم أتكلم.
واصلتُ التطلع إليه.
“إذا عرف الإنسان ما يريد، فإنه -بالتأكيد- سيعرف نفسه. لن أفسر هذا على نحو مختلف، أتطلع للأحداث بأسلوبي الخاص.
عندما رأيتك للمرة الأولى تُطالع الكتب بعين والفتيات بالأخرى أدركتُ بأنك تمتلك طريقة خاصة بك. أنت لست مثل الآخرين، ولن تكون. إما في الأعلى أو في القاع الأخير. لماذا؟ أمر متعلق بشخصيتك!”.
لم يُفسر علاقة هذا بذاك، أذهلني تفسيره.
شد بيده على كتفي هزني بقوة، ابتعد عدة خطوات.
فرد كلتا يديه، مرة أخرى.
“لكنك مقيد”. هكذا قال بصوت عالي، بأسلوب مسرحي. “أنت مقيد. ومن واجبي أن أرخي عنك بعضاً من هذه القيود، للتحرك أولاً، لتعمل على تجاوزها بعد ذلك”.
أدركتُ – فيما بعد – بأنه كان يعتبر التقاليد كلها قيوداً رهيبة، كما عرفتُ بأنه ظل يعتبر كل ما ولدنا فيه قيوداً تُحكم حركتنا، تعيق تقدمنا، تجعلنا نسخاً مشابهة لأخطاء الأخرين، لا خصوصية فعلية لنا حتى في أخطاءنا، بالتالي لا خصوصية ضمن تاريخنا، كان مقتنعاً، بدون تلك الخصوصية اللعينة نحن بلا وجود.
عرفته صغيراً.
كان مثلا حياً على العزلة بيننا. محاطاً بالكتب والأحلام الغريبة. لم نفترق قط في صغرنا. كنا دائماً معا، أخبر الآخرين بنشوة بالغة بأنه صديقي. فهو مثل القادة العظام لديه رهبة مدهشة، مجرد جلوسك معه يمنحك إحساسا بأنك في حضرة شخص عظيم. حتى الكبار كانوا يحترمونه ويعاملونه بوقار كبير. لم يكن قط صغيراً إلا في مظهره.
أذكر بأنه قال لي في إحدى رحلاتنا الطويلة خلال الأحياء الداخلية، آنذاك كان يتبع نظاماً غريبا في المشي الدائم، نهاراً وليلا، قال لي: “لا أريد أن أشبه أي شخص، أريد أن أكون كما أرداني قدري أن أكونه”.
عندما أتذكر هذا أقول لنفسي: كيف لمراهق في الخامسة عشرة أن يفكر هكذا؟ في البلدة الصغيرة التي كنا فيها لم نكن نعرف سوى ما يجول حولنا من لعب وركض وراء الفتيات. بركاى كان صرخة في وجوهنا. إنه عدو البلدة كلها. عدو منطقتنا وأحلامنا، حتى أرواحنا الهشة.
هو لا ينكر شيئاً من هذا: “صديقي هو المسن الوحيد الذي تكرهونه”. كنا نعرف بأنه يكن وداً لمسن معتزل آتى من تجرهي يدعى أدم أنري، من نسل شيخ أنري. نعرف جيداً بأنه يرى كل أهل البلدة صغاراً لا يُعتمد عليهم، أهل البلدة لم يكونوا يرونه إلا كشخص غير مفهوم، يخشون غضبه الذي لم يروه قط. كان يحظى باحترام لا يمنحه لأحد. العزلة كانت قدره.
في ظلامه الفكري تكشف له على نحو راسخ بأنه في منطقة لا بد أن يتعثر في كل خطوة يخطوها. مسافات طويلة ملغومة بالحزن والألم، بلحظات سخيفة تماثل تلك التي رآها سابقاً تحدث للآخرين، تمنى دوماً بكل قلبه أن لا يكون مثلهم. لكن للقدر لعبة أخرى صغيرة معه في ذات الفكرة. لقد فعل كل ما تمنى ألا يفعله. كان يظن بأنه لن يكرر أمراً قام به غيره.
عندما اكتشف الجرح الصغير في الخنصر الأيسر. أخبره خاله بأن لوالده نفس الندبة. كنا معاً في تلك اللحظة. رأيتُ بأم عيني ذلك الألم الذي ظهر على وجهه. أخبرني فيما بعد بأن اكتشافه كان مفاجأة بالنسبة له، أن يشبه والده حتى في ندبة محتملة، قال بأنه قضى وقته في الابتعاد بتصرفاته عن والدته وأخواله. لم يحسب حساباً لوالده الشارد أن يؤثر فيه. كان والده هجر زوجته، ترك بركاى وهو صغير عند أخواله. والدته أصيبت بالجنون بعـد شهر من العـزلة القاسية. عمل بركاى عـلى نفسه مـنذ العاشرة كي لا يشـبه أحـداً مـن هـذه البـلدة تازر-الكفرة.
تحت وطأة هذا العمل المرهق يبدو بأنه نسى والده تماماً. الندبة كانت إنذارا مرعبا. إنه لم يكن يذكر متى أصيب بها. هل كان جرحاً حديثاً أم كان في إصبعه منذ الصغر؟ لم يكن يفهم الأمر مطلقاً. لأيام ظننته سيجن. لكنه عاد إلى التحدث عن الكتب الأدبية والفلسفية التي يمتلكها: حكمة الغرب، الشيخ والبحر. ذات مرة قرأ كتابا كاملاً من خمسمائة صفحة تقريباً، خلال ليلة واحدة، رواية: ذكريات من منزل الأموات.
كان يتحدث عن مشاعره المختلطة وعن حبه اللا متناهي للحرية في الفن الغربي وإن التقاليد الجامدة ليست سوى أوهام. كان يرسم لنفسه الشرك الاجتماعي منذ الطفولة. كنت أسابقه في أفكاره، أحيانا لا أفهمه أبدأ، أعجز عن مجاراته فأهز رأسي مستغرباً أي شيطان يسكن صديقي.
مرة أخذت إحدى أشعاره الطويلة إلى أستاذي الذي قراها على كرسيه بهدوء وإمعان، عندما انتهى منها قال بصوت غريب: هذه كتابة شيطان رجيم. كانت أشعاراً مدهشة، محررة تماماً. حاولت جاهداً فهمها. فيما بعد بدأت بفهم تلميحاته ورموزه، في كل لحظة أتذكر جملة منه أو كلمة أو حدثاً كاملا لنا معاً فابتسم من قلبي لأني فهمته أخيراً.
بعد ذلك بعشر سنين، أثناء دراستي في الأدب الإنجليزي كتبت قليلا من شروحاته عن نفسه. قابلته في بنغازي أوائل عام 2005 كان قد وصل لشركه التام، أصبح مثل الشيطان، نحيلاً، يبعث على التساؤل. أستاذي استدعني وسألني عن موضوعي القصير الذي كان ملخصاً في صفحتين لحكاية حدثت بيني وبين بركاى. قلت له إنها فكرة من أحد الأصدقاء، فطلب مني التعرف عليه، لم أكن استطيع أن أقدم له شيئاً، بركاى كان قد ترك ليبيا.
بسبب تلك الندبة دخل إلى الأدب الظلامي المريض، صار يتحدث بثقة عمياء عن التوقعات القدرية، التفاهات التي تأتي نتيجة خطأ أخلاقي أو عقد نفسية جراء فعل لا إنساني. الانحرافات الفكرية أصبحت لعبته المفضلة. رواية مثل الحرم لوليام فوكنر، الكثير من المرضى نفسياً والعجوز أنري المعروف بين التيدا بأنه اكبر منحل عرفته الصحراء، لطالما شعرتً بأن صديقي محاط بالإلحاد.
كانت شخصيته ضائعة بالأساس فحرمانه من الجو العائلي والكراهيات المنتشرة وسط عائلته بين أخواله وأعمام أخواله، الزعامات المتواجهة دائما في سيل لا ينتهي من المشادات الكلامية والتهم التي لا ترحم لأفراد من عائلته. هذه الأمور خلقت منه شخصاً يكره كل شيء له صلة بالبلدة أو أفكار البلدة، منها مرضه المدمر حيال التقاليد، إنه على كل حال شخصية متمزقة بين عالمين: أحلامه وكوابيسه.
ذلك التمزق أعرفه الآن جيداً. فمعرفتي به جعلتني أكتب هذه الصفحات. بعض الكلمات علقت في ذهني أكثر من سواها من كلمات بركاى مثل: “أشعر دوماً بكلماتهم تنسلخ عن جسدي وروحي”. آنذاك، كنا نتحدث عن بورخيس وأحلامه الغريبة. بالأخص حلمه المرعب حينما يجد نفسه في منزل من طابقين خالي من النوافذ والأبواب، مظلم حتى بالنسبة لشخص أعمى وبإحساس الرعب يتحسس الجدران كأنه يبتعد عن عدو يلاحقه من داخل إحدى الحجرات.
كنا في كورنيش بنغازي، ونحن على بعد ألف كم من أقوى سلطة لمراقبتنا، كنا قادرين على أن نسهر حتى الفجر مع أجمل فتيات في الحفلات السودانية الصاخبة. كنا قادرين حتى على تحقيق أفضل ليالينا الشبابية دون خوف من رقيب. لكن بركاى كان زاهداً كبيراً. “أشعر بأني مطارد على الدوام، ثمة قدر يلاحقني”. قال وهو يحدق إلى الأفق المغبر.
حكا لي حلمه مرة أخرى: كلاب شرسة تطارده عبر الأحياء، السماء تمطر في الصحراء بوسعه أن يشتم رائحة التراب المبتل، يركض بخوف ليصل إلى صحراء مبتلة الأرض، رائحة زكية وخوف. “هل تصدق أمراً ؟”. ظننته سيتحدث عن موضوع الأحلام حينما قال: “هل تعتقد بأن الله يخلق قدراً مشابها؟ كأني نسخة واحدة لكل الأخطاء البشرية”. كان سؤاله مباغتاُ، فقلت: “أتعني سوء الحظ؟”. لم يكن يعني سوء الحظ. لم يكن يعني أي شيء ضمن نطاق تفكيري. كان كعادته يحلق بعيداً في سموات خلقت لأشخاص معينين، فقط لأجلهم. إني أتصوره دوماً أقرب إلى المعذبين الذين أحبهم على الدوام: دوستويفسكي وكازانتزاكي.
شهاب من زمن مختلف إلى مكان أخر. شهاب يسقط مشتعلا. بالرغم من جهلي وعدم معرفتي التامة عما كان يحدث في داخله إلا إنني كنت صديقه الحقيقي الوحيد من البلدة. أحياناً كثيرة أشعر بأنه يعتبرني جزءاً منه، من شخصيته المعقدة.
في الحقيقة أنا أيضاً أشعر بأنه لدى نفس الإحساس تجاهه، فعندما ترك البلدة بعد سنوات غرقت في دوامات من الوحدة، كانت صداقاتي الأخرى تحت مستوى الجيد لم أكن قادراً على التفاهم مع الآخرين لذا بدأت أعي عزلتي الشخصية، بدأت أرى ما يربط بين الناس من روابط غير صحية، رأيت بوضوح تلك التفاهة التي يتحدث عنها بركاى.
قضيت أغلب وقتي على أمل اللقاء به مرة أخرى. لسنوات وأنا أبحث عن لحظة واحدة تجمعنا. لم أعد أستطيع البقاء دون التفكير فيه، الأسئلة والأحلام بدأت تتكاثر في ذهني، الرؤى عن المقدسات في المجتمعات المحكومة بإرث من الأفكار المدمرة، الناشئة نتيجة حياة جدباء قاسية مع انغلاق فكري محكم. صديقي بركاى لم يكن مجرد شخصية أخرى، إنه حالم حقيقي مصاب بالمرض القديم نفسه: المرض الذي يجعله مفعماً بالأفكار التحررية، الطموح في صدره لم يكن له حد. إحدى جمله القاطعة عندما قال لي بكل إيمان: “لم يعد ثمة مقدس على الأرض، كلنا سواء، ثمة إله خلقنا وتركنا هنا على الأرض، لم هناك أشخاص مقدسون؟ لا أحد مقدس”.
في تلك الأيام كان يمتلك تصورات حول ليبيا. أنا لا أفهمه، أقول: ما هي؟ يتحدث بحماس عن مكتبة يود إنشاءها، عن تشعب حقيقي في المستقبل لربط ليبيا ببعضها في الحقيقة بدل الوهم الذي نحن فيه. عن أفكار تجعل من الإنسان جزءاً كبيراً من حركة ثقافية تضع في أذهانهم بأنهم ليسوا محكومين من الاقتصاد أية لحظة أخرى. كان يخبرني بأن الجنون الاقتصادي طوال العصور دمر الإنسان من الداخل، في كل الحضارات القديمة قتل الاقتصاد روح الدين.
ضمن غمراته الحماسية الكثيرة، كان يُشير بأنه حتى الدين، بلا ثقافة حقيقية، لا يعني شيئاً، علينا أن نعرف كيف تتحرك الأفكار في أذهاننا، أن نفهم مدى الارتباط بين تلك الأفكار والشعوب الصحراوية. منحهم القدرة على الارتقاء بأنفسهم أخلاقياً. البحث عن التوافق. يحدثني أيضاً عن الفن وأساليبه الكثيرة. لم أكن أفهمه على الدوام. كانت أفكاراً ضبابية لا يفهمها سوى شخص مثل بركاى.
كنت قد قضيت وقتي في دراسة الأدب، الفلسفة والسياسية، في داخلي كنت أعد نفسي لشيء يزمع بركاى فعله، ظننته أمراً عظيماً. عنوانه تلك المكتبة التي لم أفهم معالمها ورمزيتها قط.
كنت متأكداً بأنها تعني شيئاً في لغة صديقي. تعمقت في الأمور الروحية عبر التاريخ، درست القصص الرمزية وإنشاء الحركات السرية واللغات المنقرضة التي تُستخدم كلغة تواصل بين الشركات العسكرية الخاصة بتدريب الجواسيس.
كنتُ على استعداد لمقابلة إبليس نفسه لتعلم أسلوب الحديث العالمي، في بعض المواقع ثمة مقالات مسربة عن تاريخ علم السرية، مواقع سيئة السمعة من طراز العالم المأخوذ والسياسي المجنون المنشورتين باللغة الإيطالية وبعض المواقع الأخرى التي تتحدث عن بعض الأفكار التي حاربتها الديانات القديمة مثل اللقاءات الغريبة في التاريخ بين الشيطان، الأحاديث والمحاضرات السرية عن الكاهنات وبذورهن في بعض الفلاسفة الكبار. مواقع أنشأها رجال عرفوا الحقيقة الجديدة والتي غالباً ما يصفها المؤرخون الجدد بالحقيقة البشعة كما يرد بوضوح ضمن الموقع الأمريكي “ظل المراوغ”.
دوماً شعرتُ بأن بركاى وضع قدمه عبر كل هذه البقاع. لماذا الحديث عن أساطير أوليمب والآلهة المنقرضة في الصحاري الليبية؟. لماذا دراساته اللاهثة حول الصورة الهوليوودية الجديدة؟ كنتُ متأكدا بأن بركاى يزمع فعل شيء ما بكل هذا التراث. كنت على استعداد له. “أنا الآن أؤمن بأنه لا أحد مقدس، بل أؤمن بأنه حتى الأفكار ليست مقدسة”.
قبل سنتين سمعت بأن أحدهم يُنشأ برعاية منظمة ما، جمعيات في أفريقيا. بدأ عمله في تشاد، النيجر، كاميرون، جنوب أفريقيا وفي بعض المدارس الفنية التي تُدرس تقنيات السينما والرقص. جمعيات تدعمها شركات تمارس مهماتها بسبع لغات لا تُكتب.
كان مصدري دكتوراً في التاريخ خرج لأحدى المؤتمرات إلى روسيا فقابل شخصاً هو دكتور لبناني هناك أخبره بأن ثمة ليبي يتزعم فروع جمعية سرية تُنشأ في أفريقيا يعتقد بأن لها جذوراً سياسية. في بعض مناطق الجنوب سمعت عن مشروع مكتبة كبيرة سرية تقام أثناء الاحتفالات.
أخبرني بأن المشاريع العالمية كثيرة في المنطقة طوال عشرين سنة القادمة. مشاريع عسكرية من الطراز الأول. قواعد عسكرية، مصانع للأسلحة، قوة أخرى غريبة لا شكل لها تنشئ معسكراتها الخاصة لمحاربة عدو لم يهبط بعد في المنطقة.
“أتعني أمريكا؟”.
سألته مأخوذاً.
“لا أعلم”. قال الدكتور ثم أضاف متفكراً بلهجته مصرية واضحة السخرية: “في روسيا ليس هناك شيء مفهوم إنهم لا يرون أبعد من منطقة الجليد”. الدكتور اللبناني لم يخبرن سوى بالعناوين.
أطلعني محموماً عن مخططات واسعة من دول مختلفة التوجه: أوروبية وأسيوية، جاء على ذكر الصين كذلك. ما فهمته بأن بعض شركات كبرى تحاول صنع منطقة جديدة لعملياتها العسكرية والتجارية. عندما سمعت هذا الحديث شعرت فعلا بأني أعمل في المكان الخاطئ. هل غير بركاى من أفكاره أم إنه ضمن من يعدون للمـلاقاة الشركـات-العدو؟.
لأول مرة شعرت بأنه غير مفهوم بالنسبة لي. لم أكن قادراً على تحديد جانبه. كيف تحدد جانب شخص لا يؤمن بالأمور المقدسة، بالأمور المطلقة. لا يمكنك أبداً، فأنا أعرف نفسي. الاتجاهات المحددة كذبة كبيرة. إن كان الأمر كذبة فلم أحاول أن أعرف مكان بركاى؟. ظننتُ لسنوات بأنني غير مؤمن بالمقدسات. أقف عاجزاً عن الفهم. رؤيتي غـير المحددة لم يجـري حولي من أسرار. أحاول وحيداً حل بعض الألغاز من مقابلاتي القديمة معه.
في بنغازي صيف 2005 كان يرسم خطوات حياته بعصبية شديدة، صحيح إنه أتهم بجريمة قتل لم يرتكبها، إنما تلك العصبية الغريبة كانت أمراً متأصلاً فيه.
كنت أراقبه بصمت وهو يتحدث عن بعض الكتابات القديمة، يتحدث عن الروايات بشكل غريب. فيها رموزاً لعالمه، بحسب رأيه تلك الروايات الكثيرة تروي طمـوحاً مثيراً حول عالم يُبنـى بهدوء، لا ينتهي الرجل فيه إلا بطلاً شبه شيطاني، كجائع روحي.
كان يستأجر غرفة دوستويفسكية واسعة مفروشة بفراش إيراني مميز، كان يفتخر بأنه يمتلك مثله، رغم إنه بدا قديما قليلا فإن فيه بعض الروعة للعين. الكتب الكثيرة، بعض الألبومات الغربية والأفلام الكلاسيكية من طراز: مكان في الشمس. الحديثة مثل عصابات نيويورك.
“ماذا تريد أن تفعل في حياتك؟”.
سألني بهدوء.
“أريد أن أجرب الكتابة بلغتين”.
قلت هذا لأني أردتُ إثارة إعجابه.
صمت دون كلمة.
آنذاك كان يتحدث عن الفن، الموسيقى وصناعة الأفلام، كان مؤمناً بدرجة كبيرة بأخلاقيات هوليوود، الصورة العظيمة التي ترسلها للعالم. الانبهار الشديد والرغبة العميقة في العيش ضمن عالم كامل للأسلوب الهوليوودي المثير.
لم يكن يبحث عن النجومية، بل صناعة النجوم. كان عائقه الوحيد هو إحساسه الثقيل بأن القدر رسم اتجاهاً معاكساً لما تمناه لنفسه. كان يريد حركة ثقافية عميقة في منطقة الصحراء. بحسب رأيه إنها منطقة اندحار الحضارات عبر التاريخ.
خلال لحظات صمته تلك لم أعرف مطلقاً ما فكر فيه. ربما عرف بأنه شخصياً موضوعي الأدبي الأهم – هو وأحلامه التي عشتها منذ الصغر – حتى إنني أظن بأن تفاصيل حكايته أحلاماً تخصني، كأنني لست سوى بركاى نفسه.
سمعت تلك الأخبار – حول المخططات السياسية – بعد خمسة عشر عاماً ونحن الآن في خضم سنوات حاسمة، العالم ينظر إلى منطقتنا، يبدو بإن الوضع ذاهب إلى الانفجار الكبير. جمعية أمريكية – ليبية مشتركة طلبتْ مني بحثاً عن الأوضاع في المنطقة.
أنهيت بحثي. سأسلمه بعد شهر إلى المؤتمر الذي سيجمع كبار الباحثين عن التاريخ الشفوي القديم، تاريخ شفوي للغات لا تُكتبْ. بالأمس تلقيت مكالمة من رئيسي المباشر سألني عن شخص يُعتقد أنه من بلدتي، قال بأن أسمه: فاضل خميسي.
“لا أعرف شخصاً بهذا الاسم”. هكذا قلتُ بهدوء تام. وضعتُ سماعة الهاتف وأنا أفكر في بركاى هامشي مي. ففي لغة “التيدا – التبو” بركاى اسم جاء من “البركة أو الفضل الإلهي” “هامشي مي” بمعني “ابن خميس” أي: “فاضل خميسي”. هل هو بركاى باسم مستعار؟ شعرتُ بشيء من السعادة، فقد أحسست بأنني اقتربت منه.