من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

غُرابُ البَيْنِ زوجتي

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

لَمْ أكن أتفقُ مع صديقي كمال في وصفه للمرأة، وللزوجة بصفة خاصة، بغُرابُ البَيْنِ… كنت دائماً كثير الجدال معه حول هذا الموضوع، إلى أنْ أقنعتني زوجتي أنَّها بالفعل غراب بين.

بدأت قِصَّة خيبتي مع ابتداء الحرب على الإرهاب في بنغازي، فقد طلبتْ زوجتي منِّي أنْ أدعو شقيقي العائد إلى الوطن حديثاً، والذي أصرَّ على السُكنى في بنغازي لأسباب لا يعلمها سواه – أدعوه إلى أنْ يكون ضيفنا لا نازحاً عندنا، وذلك خوفاً عليه وعلى عائلته مِنْ هول الحرب.

لَمْ أمانع بالطبع، فقد وجدتها فرصة للقرب مِنْ أخي الَّذي حجزته عنِّي خمسة عشر عاماً قضاها في الغربة هرباً مِنَ الظلم… سنجلس معاً، ونتحدث، سيلعب أولادنا معاً، وتترافق زوجاتنا في كلِّ شيء، سيخبرني عَنْ عذابه وشوقه في الغربة، وأخبره عَنْ عذابنا وأشواقنا في الوطن، سننام معاً ونصحو معاً تماماً كما كُنَّا صغاراً.

رحَّب أخي بالفكرة و شكرني عليها، لكنَّه اعتذر بأنَّ ماله الوافر الَّذي جمعه في الخارج لا يزال في مصارف الخارج، وبالتَّالي فهو لن يكون قادراً على الإنفاق معي على الأسرتين.

بالتَّأكيد كلامه جرح كبريائي، فتربيتي وأخلاقي والبيئة الَّتي عشتُ فيها كُلّها عوامل تمنعني مِنْ أخذ شيء مِنْ أخي حتَّى ولو كانت لديه أموال الدنيا، وحتَّى لو كانت أمواله في متناول يده في الوطن فلن آخذ منه فلساً واحداً، كيف بعدها سنسمى عرباً ومسلمين أو ليبيين أبناء بادية و خلق؟.

قلتُ له معاتباً و مؤنباً:

– “الأخ أخ الحاجة يا أخي ، ورزقي هو رزقكَ”

فعانقني فرحاً وهو يقول:

– “باركَ الله فيكَ يا أخي، ولا حرمني الله منكَ”

أغلق الخط الَّذي كان مفتوحاً بيننا، على وعد بالرحيل إلينا في أقرب وقت.

بعد أيام. .كُنَّا قد تعودنا مع انقطاع الكهرباء أنْ نتناول عشاءنا بعد المغرب بقليل، وننام تحت ضغط التعب، بعد أنْ نفشل في الحصول على الدفء مِنْ كانون الفحم الَّذي أحيا مجده انقطاع الغاز والكهرباء. حَلَمَا دخلنا تحت الأغطية متجاورين، أنا وزوجتي وأولادي، نلتمس الدفء مِنْ قربنا لبعض وإذا بالباب الخارجي يُطرق بعنف. كانت الأمطار غزيرة في الخارج، والبرد شديد. خرجت بسرعة متدثراً (بعباءتي) الصُّوفية الثَّقيلة ، فتحتُ الباب، وإذا بأخي وأسرته عند الباب يرتجفون مِنَ البرد. حَاَلمَا ضمَّت جدران بيتي المتواضع أخي وأسرته، بادر بالقول مرتجفاً:

– “لقد قضينا سبع ساعات قبل أنْ يتمكن سائق الأجرة مِنْ معرفة العنوان”

استغربت أنْ ينسى أخي شوارع مدينته الَّتي لَمْ تتغير كثيراً مذ سفره للدِّراسة، والَّذي حوله إلى هجرة بعد أنْ ذاق الفرق بين موطنه والخارج… استغربت أنْ ينسى أزقَّة المدينة الَّتي شهدت مولده، وشقاوة الطُّفولة، ومشاكسات الشَّباب ، ثُمَّ زواجه فيما بعد… أنْ ينسى موقع بيتي بهذه السهولة، بيتي الَّذي كان ضيفه منذ شهرين تقريباً عندما أقمتُ على شرفه حفل غداء دعوت لها الأصدقاء والجيران والأقارب احتفالاً بعودته.

وكأنَّهُ قد قرأ أفكاري، قال معتذراً:

– “ازدحام غير معقول و برد وظلام وجوع ضارٍ أيضاً أربكني في العثور عليك”.

تباً للأفكار السود، فهي لا تفتأ تحاول الوقيعة بيني وبين أعزِّ النَّاس… لعنتُ الشيطان سراً واعتذرت جهراً:

– “لا عليك يا أخي، المهم أنَّكم وصلتم سالمين”

وكان يجب أنْ أنهض لأقوم بالواجب، ولأنِّي أعرف أنْ الثلَّاجة خاوية، خرجت على الفور لتدبير عشاء ووسيلة تدفئة، ولحسن حظِّي أنَّ بعض المحلات لَمْ تغلق أبوابها بعد، فاشتريت كمية وافرة مِنَ الدجاج المشوي والكباب والخبز وبعض الفاكهة والمشروبات، ثُمَّ عكفت على محلِّ أدوات منزلية واشتريت مدفأة تعمل بالكيروسين، فالكيروسين هو مادة الاشتعال الوحيدة المتوفرة، و لأنَّني لَمْ أكن أحمل ثمنها الباهظ المفاجئ معي فقد وعدت البائع الَّذي تفهم ظرفي أنْ أسدده صباحاً، ومضت الليلة في فرحٍ وانبساط .

صباحاً، سحبتُ بقية مرتبي الَّذي كنتُ أدخره تحت وسادتي وسدّدت ثمن المدفأة، ولأنَّي لَمْ أعد أملكُ المال لشراء لحم الضَّأن (الوطني) والخضروات والمشروبات للغداء والعشاء فقد سألتُ القصّاب والخضّار أنْ يسجلا كُلَّ شيء دَيناً على وعدٍ بالتسديد في أقرب فرصة. وبالطبع أصبحت تلك الزيارة يومية لكليهما، فقد أصبحنا عائلتين، هذا بالإضافة لزيارات مشابهة لمحلِّ مواد التنظيف.

ثُمَّ أضافت ابنتي وابني زيارات مشابهة وديون – على اسمي وعلى وعودي بالتسديد أيضاً – لمحلَّات ملابس النِّساء والشَّباب وأدوات التجميل والإكسسوار ومحلات الهواتف المحمولة وألعاب الفيديو ثُمَّ المفاجأة الكبرى محلات بيع الدراجات النَّارية، فقد رغب ابن أخي في شراء دراجة نارية، ولم أستطع أنْ أشتري أو بالأصح أستدين له واحدة ولم أكن قد فعلت ذلك لأجل ابني الَّذي ربما استغل وجود ابن عمه معه ليحقق عَنْ طريقه حلماً قديماً مُلحاَ. وهكذا أصبح لي دفتر حسابات في أغلب محلَّات المدينة.

الطَّامة الكبرى حدثت بعد شهر تقريباً، فقد سقطتْ زوجتي تصرخ مِنَ الألم في المطبخ، واكتشفنا فيما بعد أنَّها كانت تُعاني مِنْ غضروف في الظَّهر ولم تخبرني بأمره، المهم أنَّ الطبيب أمرها بالرَّاحة واعتزال الطبخ والكنس والترتيب، فاقترحت زوجة أخي أنْ أبحث عَنْ شغَّالة… وما أسهل الحصول على شغَّالة في زمن الانفتاح الَّذي جلبته فبراير، حصلت على شغَّالة فلبينية بطيئة الحركة والفهم بمساعدة صديق، اشترطتْ خمسمئة دينار أجرةً لها.

خمسمئة دينار هي ثلثي مرتبي، أنا الَّذي قضيت العمر أركض وراء شهادة جامعية، أنفقتُ في سبيلها طاقتي ووقتي وأغلب مال أبي دون أنْ يمكنني القدر – الَّذي أخذه سريعاً- مِنْ ردِّ بعض الجَّميل له، وأمكِّنه مِنْ زيارة بيت الله الَّذي مات وهو يتوق إليه… ليغفر الله لي، المهم أنْ تُحلَّ هذه المشكلة، ولا ينزعج أخي أو زوجته أو أحد أولاده خلال إقامتهم عندي.

أصبح الدائنون يطالبونني بمالهم بعد أنْ وصلت ديوني إلى أرقامٍ خيالية لَمْ أصدقها أنا نفسي، ولم يفعل ثمن سيارتي الَّتي بعتها حديثاً شيئاً، و لا ثمن مجوهرات زوجتي الَّتي جمعتها – والحقُّ يُقال – مِنْ عملها في التَّعليم صباحاً وخياطة الملابس النِّسائية في البيت مساءً، فبعد أنْ عاونتني بهاتيك الطَّريقتين في شراء منزل وتأثيثه، ثُمَّ شراء السَّيارة وتغطية كُلَّ ديوننا السَّابقة، أخذت تدخرُ المال، ثُمَّ تشتري بعض المصوغات الذهبية بين الحين والآخر، وكانت تقول:

– “مِنْ حقي أنْ أتزين، ثُمَّ لا يدري أحدٌ متى سيحتاج إلى المال؟ ، ستكون بمثابة كنزٍ ندخره”

وعلى الرغم مِنْ أنَّها قد فسَّرتْ تلك الحاجة الآن في عملية جراحية عاجلة لإزالة الغضروف في إحدى الدول المجاورة، إلا أنَّني أقنعتها بتأجيل هذه الفكرة، فلدينا ما هو أهم. ورغم ذلك لَمْ تُسدد كلُّ الدِّيون، والمرتَّبات بعيدة المنال، ففكرت في البيت. نبيعه ونؤجر بيتاً آخراً لبعض الوقت، وستُفرج في القريب العاجل، سنبني دولة، ونقترض قرضاً إسلامياً ونشتري أرضاً جديدة، ونبني عليها بيتنا القادم، المهم أنْ أسدد الدَّيْن، وأنفق المال المتبقي على ضيوفي.

بالطَّبع عارضتْ زوجتي وبكتْ، ثُمَّ اقترحتْ أنْ ينزلَ أخي وعائلته في إحدى المدارس الَّتي ينزل بها النَّازحون، سيتلقون هناكَ الرِّعاية اللَّازمة، ونعتمدُ نحن سياسة التقشف إلى أن تُفرج. أيُّ عارٍ ستجلبه عليَّ غُرابُ البَيْنِ هذه؟… بالطبع رفضتُ اقتراحها، فهددتْ بهجري إلى أهلها وطلب الطَّلاق بحجَّة أنَّها لا تريد التفريط في بيت بنيناه لبِنة لبِنة بِكدِّنا وعرقنا، غير أنَّني لَمْ أرضخ لتهديدها، صرخت في وجهها:

– “وليكن، فأنتِ صاحبة الفكرة بالأساس، أمَّا أنا فكلُّ ما يهمني أنْ لا أكون صغيراً أمام أخي وأهله، لن يحتاجوا لمال ولا لطعام أو مأوى وأنا موجود”.

نفَّذت تهديدها وأخذت أولادي ورحلت إلى بيت أهلها. علم أخي بالأمر، و ساءه ذلك جداً، وبدأ يبحث عَنْ حلٍّ لمشكلتي ومشكلته. بعد أيام دخل عليَّ أخي مهللاً:

– “بُشرى سارَّة يا أخي، بُشرى سارَّة”

تابع بعد أن بلع ريقه:

– “لقد أرسلوا لي حوالة بمبلغ ضخم مِنْ أموالي الَّتي بالخارج ، سأساعدك يا أخي، سأساعدك في حلِّ مشكلتك، وستسدد كُلَّ ديونك وتعود زوجتكَ، وأحلُّ أنا أيضاً مشكلتي.”

ابتسمتُ لذلك وعلا الدَّم إلى صفحة وجهي فرحاً وخجلاً، طأطأت رأسي إلى الأرض، فما زال التفكير في أخذ شيء مِنْ أخي يجعلني أشعر بالصغر والدناءة، فرددت لا إرادياً:

– “لا لا يا أخي…”

كنت على وشك أن أخبره أنَّني قادر على حلِّ مشكلتي بنفسي وبعون الله، المهم أنها فُرجتْ عليه هو، وسيشتري بيتاً يأويه هو وأسرته بعيداً عَنِ الحرب، غير أنَّه قاطعني بحزم:

– “سأشتري هذا البيت منكَ.”

لا أدري ساعتها: هل توقف الزَّمن؟ أم أنَّني أُصبتُ بالشلل؟ .إلا أنَّني سمعت صوت حشرجةٍ خرجت مِنْ حنجرتي هيَّ أقرب إلى النعيق منها إلى البكاء. أَلمْ أقل لكم أنَّ زوجتي غراب بين؟ أليست هي أول مَنْ نطق أو بالأحرى: نعق في هذه القصة؟.

مقالات ذات علاقة

في بيتنا

هدى القرقني

زينب

أحمد يوسف عقيلة

بـرتـقـالــي

عطية الأوجلي

اترك تعليق