هناء فرج المزلوعي
قلقلت مفاتيح والدي في قفل باب بيتنا المتهالك، نتج عن ذلك تجلي الهدوء الذي أحتضن زوايا بيتنا، تراقصنا وأخوتي طرباً لـقدوم والدي كمن يحتفل بعودة الجنودً سالمين غانمين من الحرب…
يحمل على كتفه اليمني قطع من الحطب لكي يسد جوع مدفئتنا محاولاً التفاوض معها في أن تقينا من قرصات برد الشتاء التي تلسع جُلودنا الرطِبة.
يحمل بيده الأخرى كيساً من البرتقال الأحمر، بينما تجلس أمي على أرضية المطبخ، تعلوا أصوات أساورها الذهبية وهي ترتطم بحواف الإناء الخشبي لتُخبر والدي بأننا سنحظى بوجبة غداء الجمعة الدسم…
يوم الجمعة احتفال أسبوعي بالنسبة لنا، نحظى فيه باجتماع عائلي صغير حول مدفأة منزلنا، التي لا تأتي بحجم ذرة أمام دفئ تجمع أسرتي كل يوم، نتناول البرتقال الأحمر الذي يزورنا كل جمعة فقط، خمسة أشخاص نتقاسم ثلاث برتقالات حمراء أسبوعياً…
أبي وأمي كل منهما يأخذ برتقالة كاملة، بينما نتقاسم أنا وأخي وأختي البرتقالة الثالثة بالتساوي، برجاً لك وبرجاً لي هكذا حتى نتساوى في الأبراج، يبتسم والدي لهذه الاتفاقية التي تدور بيننا دون أي خلاف، كل جمعة و بمجرد أن نتبادل النظرات بابتسامات خافته نكاد أن نُخبيها خلف أصابعنا النحيفة يتم اختيار الموزع لـ أبراج البرتقال دون أن يتفوه أحدنا بكلمة، مثل البهلواني يراقص والدي البرتقالة الثالثة بـ يديه الضخمتين ليكتشف بنفسة من خلال همساتنا وضحكاتنا من هو القائد في هذه المرة، ثلاث أرباع البرتقالة لم تكن كافية لسد جفاف ريقي، لطالما تمنيت أن أحظى بـبرتقالة كاملة ولو لمرة واحدة في حياتي، لطالما أردت الكثير من أبراج البرتقال، حين كان يأتي الدور عليّ أحاول التلاعب في عملية التقسيم لكي أحظي بعدد أكبر من الأبراج، كنت أظن أن هذه الخطة لن ينتبه إليها أحد، أنجح مرة وأخفق مرتان، أبرر فعلتي حين يقرص والدي أذني بقوة لأتحجج بأنني لم أنتبه لذلك، بينما أكون أنا في أكثر الأوقات تركيزاً، في المقابل أتحصل على حصتي كاملة حين يكون التقسيم على أخوتي احتراما منهم لأنني أكبرهم، كان أخي الأصغر يضع حصته من تلك الأبراج الحمراء في جيبه، ويقوم بحفظها بعد الانتهاء من اجتماعنا الاسبوعي في حافظة صغيرة تحت سريره الصغير المحاذي لنافذة الغرفة، عندما أسأله لماذا تفعل ذلك، فيقول لي ألم تلاحظ بأن والدي يحضر لنا البرتقال جمعة يكون حلوً مثل السكر، وجمعة يكون مشابهه لطعم الليمون الحامض، حفظ حصتي جمعتنا تمكنني من أن أحظى بطعمتين مختلفتين للبرتقال وهكذا تكون متعتي أكبر، بينما أختي الوسطى تضعه في حافظة صغيرة تحتفظ بها لمدة ثلاث جمعات متتالية، والجمعة الرابعة تصنع لنا قالبً من الكيك وتزينه بمربي البرتقال اللذيذة،
بينما أكتفى أنا بمسح أصابعي من قطرات عصير البرتقال بعدما أن قمت بابتلاع الأبراج مثلما يبتلع القرش الأسماك الصغيرة، لقد أصبحت أمتلك كنزاً من أبراج البرتقال، فـباستطاعتي تناول برج برتقالة يومياً بعد أن أستولي على حصص أخوتي اللي خبئوها وبدون علم منهم.
مرت السنين ولم أعد أسمع قلقلة مفاتيح والدي بعد رحيله، كبُرنا وشاخت المدفأة، أصبحت تغلغل مخالب البرد في أحشائنا، فـقرصات البرد لم تعد مناسبة لعمرنا، فقد ماتت المدفئة جوعاً بعد رحيل والدي، ولكنني أصبحت أحلم كثيراً بالبرتقال، وتلك الأبراج التي كنت أسرقها، لم أحظى بليلة مريحة، حلمت مرةً أن برتقالة كبيرة سقطت على رأسي حتى تهشمت عظامي، حلمت أيضاً بأن الأبراج أصبحت ذو حوافً حاد تجري خلفي بأرجلها الثلاثة تريد قطع جسدي إلى إجزاء صغيرة، مرة أخرى كنت أجلس مع أبني وهو يشاهد موكلي في التلفاز وإذا به يقذفنا باللوحة الخشبية الطائرة التي يحملها في يده وما هي إلا برج برتقال أراد قطع رأسي حتى احتضنت أبني وبدأت بالصراخ، بينما يصرخ أبني مفزوعاً منادياً بأعلى صوت لـ أمه..
لقد كثرت الأحلام وأصبح الرقم ثلاثة يطاردني أينما ذهبت، بدأت بتعطل جميع ساعاتي عند الساعة الثالثة تماماً، وطاولة المطعم ورقم غرفتي في الفندق، طابق عملي، موديل سيارتي، أرقام هواتفي، عنوان منزلي، تزوجت الثالثة في أخوتها، ورزقني الله بثلاث أولاد رغم محاولات الكثيرة بإنجاب ابننا الرابع لكي أكسر أنف الرقم ثلاثة ولكن دون جدوى، كل هذه الأشياء وُلُدت من رحم الرقم ثلاثة ورغماً عن أنفي..
لقد تنبئ والدي بمستقبلنا، فقد أصبحت أختي تمتلك أفضل مصنع لصناعة كيكة البرتقال، وأصبح أخي مديراً لشركة استيراد وتصدير.
بينما أصبحت أنا، أحد المسؤولين الفاسدين في البلاد..