• وتعود بعد مرور أزمنة اختفاء ويظهر لها وجود تحمل اسم مرسى بنغازي.. مرفأ يتوسط البلاد.. تنشط فيه حركة التجارة ويستقطب سكناه الوافدين من مختلف الأرجاء.. وأولياء وزوايا وأضرحة وطرق صوفية… وقبائل مهاجرة من الغرب تتبعها قبائل تستوطن وتتدافع.. لها ذكر وحركة وجود وحضور.. وأحياء للمدينة تنشأ ويطلق عليها أسماء المرابطين الأسياد.. مدينة مطوقة بمياه البحر والبحيرات الضحلة (السبخ).. وقبل النشأة الحديثة للمدينة (بنغازي) قيل بتسمية لموقعها بكوية الملح… بحيراتها تنتج الملح وتنقل القوافل والمراكب نتاجها الوفير منه إلى إفريقية وأوربا (مدينة قـُــدّ قلبها من ملح).
• ولبنغازي… في نشأتها الحديثة مع التاريخ إرتباط.. يتزامن مع بروز دولة الخلافة الإسلامية العثمانية في بداية القرن السادس عشرة ممثلة للقوة الإسلامية التي استطاعت أن تحتل موقعا معتبرا في مواجهة الإمبراطوريات الأوربية الكبرى آنذاك، وقد امتد نفوذها إلى الشمال الإفريقي مصر 1517م… والجزائر 1518م. وقامت باستخلاص (طرابلس الغرب) من حكم فرسان القديس يوحنا 1551م) وضمها إلى ممتلكـــاتها… وتُـعرّف مرحلة التبعية العثمانية التاريخية (إيالة طرابلس ومتصرفية بنغازي) بثلاثة عهود: العهد العثماني الأول (1551م-1711م) (حكم الأسرة القرمانلية (1711م-1835م).. (العهد العثماني الثاني (1835-1911). وقد استمر الحكم العثماني للبلاد (طرابلس وبرقة).. متواصلا إلى سنة 1911 حيث كانت نهايته بالإحتلال الآيطالي. [ح 1]
الباشا وجمع المكوس…
• واتخذ القاص من الوجود العثماني في البلاد مجالا لبعض حكاياته… قصص قصيرة بدون عنوان. وجاء في مقدمة الحكاية الثالثة: (كانت كوية الملح بيوتا صغيرة تحت أقدام الباب العالي.. زمن القوافل وأكوام الصوف.. وأزيار القديد وجرار الماء)،… وهذا (الباشا – متصرف بنغازي) المنشغل مع رئيس الحسابات بمراجعة سجل (الضرائب) التي جمعها( المكاس) من الأهالي… وتقول الرواية بمرض الباشا (أصيب بتبلد في دماغه).. وتخبرنا عن الانشغال الذي طرأ في مختلف أنحاء المتصرفية بحثا عن الدواء الذي لم يتوفر وجوده بها… وتم (الإبراق) إلى الولاية (إيالة طرابلس).. التي سارعت بالاستجابة وإرسال الدواء في (مركب عثمانية حلت بميناء بنغازي).. وبعد أن تماثل المتصرف للشفاء استعاد إنشغاله بمتابعة تحصيل المكوس.
رشيد باشا – متصرف بنغازي…
• ويسجل التاريخ المدون للعهد العثماني الثاني في البلاد ويخبرنا عن الوالي التركي رشيد باشا (1882-1885) الذي تميز عهده بالاصلاح الإداري والإنجاز العمراني وإقامة العدل ونشر الأمن في المتصرفية. [ح 2]
• وها هو الكاتب يختصه بقصة ويقدمه.. (كان الحاج رشيد باشا حاكما عسكريا لمتصرفية بنغازي برتبة فريق حازما ومتدينا.. يكره الإهمال وفساد الإدارة..)، ويأخذ في عرض العديد من إنجازاته ومآثره إلى أن يقول (إنتقل الحاج رشيد إلى جوار ربه ودفن في مسجد أبي قلاز حسب وصيته… وجاء في بقية الحكاية (بعد وفاة الحاج رشيد وتولي طاهر باشا كان ثمة إمرأة عجوز من دراويش بنغازي تجلس قبالة القصر التركي وهي تردد إنت يا باشا جيت جديد إجعنك تاخذ سو رشيد [ح 2].
• غير أننا ما نلبث أن تطالعنا قصة أخرى بغير ما يذكر للحاج رشيد من مآثر.. وينسب إليه أنه عمل على معاقبة مختارو المحلات الذين رفضوا تسديد المكوس السنوية وأمر بإحضارهم غير أنهم رفضوا الحضوروالتفاوض وقاموا بالاحتماء بضريح سيدي مؤمن مما (جعل الغضب يصعد إلى رأس الحاج رشيد.. وأمر باقتحام الضريح وإحضار المشقين بالقوة…) وتضيف الحكاية بأن الضابط المكلف بهذا العمل.. قام مع مجموعة من الأفراد بكسر باب الضريح وأخرج المشقين وأقتادهم ونالوا عقابهم.. ومن جراء هذا الاعتداء لحق المرض المفاجئ بالحاج رشيد مما أدى إلى وفاته (أما ضابط الشرطة الذي إقتحم ضريح سيدي مؤمن فقد أصيب بمرض جعله يمشي ورأسه محني إلى جانبه).
العهد القرامللي وما حدث لقبيلة الجوازي…
• ويتوسط ما يـُعرّف بالعهد القرمانللي في التاريخ الليبي (1711-1835) عهدي الحكم العثماني للبلاد الأول والثاني.. الذي استقلت فيه الأسرة القرمانللية بالحكم في ولاية طرابلس الغرب الملحق بها إقليم برقة الذي كانت مدينة بنغازي حاضرته.. و(تعج) سني هذا العهد بمتنوع الأحداث المتلاحقة من مظاهر التنافس والصراع الدامي على الحكم بين أفراد العائلة وانعكاسات هذا الصراع على المكونات الإجتماعية في البلاد المتمثلة في القبائل.. والزج بها في الوقوف أو المساندة لطرف مقابل الآخر… ودفعها إلى الاقتتال وخوض الحروب التي قد تستغرق سنوات ولا تنتهي إلا بتهجير القبائل المغلوبة وتركها لأراضيها. ويتوقف المتابع لتلك الأحداث عند ما تعرضت له قبيلة الجوازي من الغدر وما لحق بهم من التقتيل والملاحقة والنهب ومختلف صنوف الاعتداء.
• ويأتي الكاتب على ذكر هذا الحدث ويتخذ منه موضوعا لأحدى قصصه.. (وأضمر أحمد باشا في نفسه أمرا… إن قبيلة الجوازي التي ساندت أخيه أحمد ستنال جزاءها.. وجه أحمد باشا دعوة إلى شيوخ قبيلة الجوازي لإقامة حفل كبير.. في الموعد وصل خمسة وأربعون شيخا منهم.. رحب بمقدمهم.. قدم لهم القهوة.. إننقض عليهم الحراس وقتلوهم.. وداهمت مجموعة من الجند خيام القبيلة في ضواحي المدينة قتلوا النساء والشيوخ والأطفال وأستولى جنود أحمد باشا على الأمتعة والأموال والبقر والأغنام). [ح 3]
• ومذكرات يومية يعود تاريخها إلى النصف الأول من العهد العثماني الثاني كتبت باللغة العامية الدارجة المتداولة عند العامة من أهل بنغازي في ذلك الحين، تناولت جوانب متعددة من مظاهر الحياة السائدة في المدينة.. مشوقة في سردها.. موفقة في تصويرها للحدث.. مجسدة لمشاهد من الواقع المثير للمتابعة والتدبر والاهتمام نلتقي بها في المقالة التالية.
بنغازي، الجمعة 12 مايو 2017
_________________________________
حاشية (1) إحتلال العثمانيين لطرابلس…
إحتل الأسبان طرابلس سنة 1510 – وفي سنة 1530 قاموا بتسليمها إلى فرسان القديس يوحنا المنظمة الدينية الكاثوليكية المقيمة في مالطا… وكانت المقاومة الطرابلسية الوطنية لذلك الاحتلال قد إتخذت من تاجوراء قاعدةا لها. وقام أهل تاجوراء بإرسال وفد إلى دار الخلافة (الأستانة) (طالبا من السلطان العثماني نجدتهم وبأن السلطان استجاب لهذا النداء فأرسل معهم مرد أغا واليا على البلاد).. وفي سنة 1551 استطاع الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا ودرغوت بك الاستيلاء على المدينة وأصدرالسلطان فرمانا بتولية مراد أغا واليا على إيالة طرابلس وفي سنة 1556 استخلفه دارغوت باشا أنظر (التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من أخبار – محمد خليل بن غلبون، ص 93. الطاهر الزاوي، ص 386).
الحاشية (2) الوالي رشيد باشا…
وصف دي أوغستيني في كتابه (سكان برقة).. الوالي رشيد باشا بقوله “إنه إشتهر بالقدرة والحزم وحسن التصرف والعدل مع قوة الشخصية وإليه يرجع الفضل في إتمام ما كان خليل باشا قد بدأه من تنظيم إداري للمدينة والإقليم وإقامة العديد من الأعمال العمرانية.. (وقد جيء به للمرة الثانية 1889-1893) ليعيد إلى المتصرفية أمنها واستقرارها الذي إضطرب بسبب سوء إدرة خليفته فقام بتسيير حملات عسكرية للقضاء على تمرد بعض القبائل وشرع في بناء معسكر للجيش (قصر البركة) كما قام بإعادة بناء مسجد أبي قلاز الذي يعرف بجامع عصمان وبه قبره. (بنغازي عبر التاريخ – محمد بازامة ص 289-290).
حاشية (3) الجوازي…
محمد بك إبن يوسف باشا القرمانللي.. الذي تم تعيينه عاملا على بنغازي ودرنة خرج عن طاعة أبيه تؤازره قبيلة الجوازي معلنا عن تمرده.. فسير يوسف باشا ضده حملة لإخضاعه بقيادة إبنه أحمد باشا 11 فبراير 1817. وعندما علم محمد بك بمقدم الحملة أخذ في الانسحاب شرقا نحو مصر ولاحقه أخوه أحمد لكنه لم يضفر به.. فرجع إلى درنة ثم إلى بنغازي وقد بيت في الخفاء الانقضاض على قبيلة الجوازي التي آزرت محمد بك في تمرده.. مظهرا الصفح عنهم.. موجها الدعوة لشيوخهم لحضور حفلة تسليم (البرانس الحمراء).. وقبل الجوازي الدعوة وقدموا بعائلاتهم إلى مدينة بنغازي وفي يوم 5 سبتمبر 1817 تعرض رؤساهم إلى القتل غدرا… (ثم خرج الجند لنهب خيام القبيلة وأستولوا على كل ما وقعت أيديهم عليه، ومن بقي منهم حيا هاجر إلى مصر فرارا من الملاحقة). (إنهيار حكم الأسرة القرمانلية، ص 212- 213) وانظر ترجمة كاملة لرسائل الطبيب الإيطالي ديلا شيلا المرافق لحملة أحمد القرمانلي التي تناول فيها أحداث تلك الحملة وما ورد فيها عن المجزرة التي تعرض لها شيوخ ورهائن قبيلة الجوازي وما لحق بأفرادها الذين أقاموا بمضاربهم خارج المدينة (بنغازي عبر التاريخ، ص 270-271).
نشر بموقع ليبيا المستقبل