حاجبُ الجلسة مستاءٌ وتعبانٌ
ونعسان،
وكانتْ
قاعةُ المحكمةِ الباذخةِ الرَّهبة كالهيكل تبدو
تستلذّ النَّومَ من أَلْفَىْ سنهْ
رتَّبت نومتها السوداء وفق العصر.. كانتْ
ترقبُ الأَعصرَ في المرمر والشرطي والرَّهبة،
والخوف الذي يبدو مع كلِّ عواميدِ الرّخامْ
قاعة المحكمة الهيكل،
من أَلفىْ سنهْ
لم تشخْ بعد لأنَّ
المرمر المصقول والخوف الذي يبدو مع كلِّ عواميد الرُّخام الأّسودِ العملاق لا تعرف معنى الزَّمن الموقدِ للشَّيب وللحكمةِ في الذِّهنِ،
ولا معنى الزَّوالْ
ولذا لم يتبدًّلْ
وجهها المنحُوت في المرمر والأّحجارِ ،
فالأَحجار لا تعرف معنى الزَّمن الهدَّام والموقدِ
للشيب وللحكمة في الذِّهنِ ،
وكانْ
كلُّ ما فيها يشلّ الحسّ ، يستوقف في معصمك
الساعةََ والنَّبضَ
وكلَّ الكلماتْ
حينما يلفحك الخوفُ الذي يبدو مع لونِ
عواميد الرُّخامْ.
حاجب الجلسة مستاءٌ .. وتعبانٌ .. ونعسانٌ..
وكانـتْ
هيئة المحكمة العليا تجئُ الآن كالغيمة،
في أثوابها السوداء والشارات والميزان ،
و” العدلُ أساسُ الملكِ” .. كانتْ
هيئة المحكمة العليا، ومن أَلفىْ سنهْ
دائما تأْتى إلى القاعة في أثوابها السوداء
باسم العدْلِ ،
والحاجبُ مستاءٌ .. وتعبانٌ ،
وكانتْ
قاعة المحكمة الباذخة الرَهبة تبدُو
تَسْتَلذّ النَّوم ” باسم العدل ” من أكثرِ
مِنْ أَلفىْ سَنَهْ
:- محكمة ….
يزعقُ الحاجبُ كالملدوغ، فالقاضي وكلُّ المسْتَشارين.
أَتَوا كالغيمة السوداء من خلف الكواليس …….
ومن خلف عواميد الرّخامْ.
ثم ظلُّوا ،
برهةََ خلف المنصَّات، يشمُّون هواءَ القاعةِ الرَّاكدِ
من ألْفىْ سَنَهْ
بينما ظلَّ ملف النائب العام على طاولةِ المرْمرِ
مملوءَا.. وظلَّ النائبُ العام،
يُجيلُ البَصَرَ المأمور بالحقدِ …،
وبالتَّمثيل في القاعةِ ..
كانتْ
قاعة المحكمة الباذخة الرَّهبة كالهيكلِ ..
تبدو فارغة
ثم رنَّتْ
كلمات النائب العام على المرمر كالمعدنِ …
كانْ
ينتقى الألفاظ بالملقطِ والإِبرةِ كي يبدو ،
مع الشارات والأثوابِ …
و”العدلُ أساسُ الملك” ..
قال:
سيداتي .. سادتي ..
– غير أنَّ النائب العام نسى
في غمرة الإنشاء أن المحكمة
لم يكنْ فيها سوى القاضي … وبعض المستشارينَ،
البدينين ،
وشرطي ..
وحاجبْ ..
– أيها السادة – واستدرك – إِنَّا اليومْ
نفتح الجلسة باسم العدلِ
كي نكشف عن بعض وجوهِ المقتِ والإِجرامِ
في تهمةِ ترويجِ مريبة
وغريبة
حاكها بعضُ الدّعاةِ المدَرجين اليوم
في لائحةِ المتَّهمين
فَلْيُنادى
سيدي القاضي عن المتَّهم الأوَّل
والمدعو بأخناتونْ
– أُخناتونْ ..
يصرخ الحاجبُ ” أخناتون “
– ………….
– أَنت تعلمْ
أنَّك المتَّهم الأول في لائحةِ المتَّهمين اليومَ
بالتَّرْويج للفكر الغريبْ
حيث أنّكْ ..
لم تكنْ تحترم السُّلطة لمًّا
كنت فرعوْنا قويَّا
لم تكن تجعل من سلطتك القوّة سوطا
في يديك
بل على الضّدِّ تماما
كنت تَسْحقْ
تحت أقدام رقيق الأرضِ والسُّوقةِ
كُلَّ السلطاتْ
ثمَّ تفَّهت الذي كان عليه النُّاسُ في عصركَ،
أَوْحيتَ لهمْ ..
أو ربما حرَّضتهمْ
كي يروا في الشَّمسِ أشياء جديدهْ
ويثوروا
ضدَّ “أمون” وسفَّهت حديث الكهنة
عن ألوهيَّة فرعون، وقبَّلت كما يفعل
كل البشر المنحطِّ
أطفالك في الشارع، حتَّى
صارت السلطة في عهدك تستوحى من الجمهور
إقراراتها
ولذا، أَعطيت للسوقةِ والدَّهماء حرِّيتهم ،
في أن يروا الأَشياءَ ،
من مظهرها
وبنيت ” الكرنك” المشبوه كي تجمع أتباعك في اللَّيلِ ،
وضَلَّلْتَ ألوفَ النَّاسِ في فكرة أنّ
اللَّه واحدْ.
ضارباً بالسُّلطةِ القوَّةِ عرضَ الحائط الصلب الذي،
شيَّده الأَبطالُ من أَسلافك التّسعة في
أُسرتك الثامنة عشر،
وكنتْ
حاكماً مُبتذلاً للسلطاتْ
حيث قاومت حنينَ البَشَرِ المعروف للحربِ
وروّجت مع أتباعك الجوعى،
إلى عصر السَّلامْ
– المتَّهم الثاني،
دمدم القاضي الذي يغرق في كرسيّه الهزّاز .
– استدعوا لنا المتَّهم الثاني.
-“بوذا” .. صرخ الحاجبُ كالملدوغِ ، كان الحاجبُ
المستاءُ تعبانا ونعسانا .. وصاح:
“بوذا”
– …..
– تخجلُ المحكمةُ العليا بأن تنظر في أمر سليلْ
أعرق النَّاس ، وابنْ
حاكم من علية النَّاس عظيمْ
والذي قضَّى شباباً
زاهرَ الأيام في ظلِّ أبيه الحاكم الأّعلى،
ولكنْ
آوه ما أتعَسَ أن ينحرف الأبناءُ
عن آبائهم
عندما شَذ وصارْ
زاهداً في الصَّيتِ والأصل الذي يعلُو
على كلِّ مكانْ
كي يُرافقْ
أَحْقرَ النَّاسِ من الشذَّاذِ والدهماء .. حتَّى
أَدْمَنَ التِّرحالَ والحزنَ ..
وصامْ
مرَّةً ستِّينَ يوماً
مُسْتَهينا ،
زاهداً في الأصلِ والصِّيت .. لكي يكتب
في ظلِّ الشجَّرْ
شجر التّين الذي يجلبه الآن إلى القاعةِ
مغلولاً .. ومتْهُوماً بتزوير البشرْ
ونرى يا سيدي القاضي من المستمسكات ،
الدامغة
بعضَ منشوراته الهدَّامة الملقاةِ في
كلِّ الشَّوارع
من حكاياتٍ عن التَّنويرِ،
والتَّنويُر،
معناه بنصِّ الفقرة الأولى من القانونِ
تحريض على الثورةِ ،
والثَّورةُ عند السُّوقةِ العميانِ ،
معناها انهيار الأمنِ ،
فالسيِّد بوذا
أيها القاضي من الدَّاعين ضدّ الحربِ ،
يَلْتذُّ بتحريض الجماهير إلى أن ،
يركنوا للسلمِ ، والتُّهمة في هذا المجال
ثبتتْ ،
مثل ثبوت المرمرِ المصقولِ في القاعة،
والحاجِب ..
والشرطي
فبوذا متَّهمْ
حاجب الجلسة مستاءٌ
وتعبانٌ
ونعسانٌ
ولكنَّ طنين النائب العام استمر
طالباً منه حضور المتَّهمْ
“كونفوشيوس”
– كونفوشيوس .. كونفوشيوس
– …………
– أصفرٌ أنت من الصِّين أو الخوفِ فيا،
– كونفوشيُوسْ
أنت ممن عاصروا المتَّهم الثاني،
فماذا؟
ما الذي كنت تروِّجْهُ عن العدلِ وعن
حثِّك جمهور الرِّعاعْ
كي يغنُّوا
ضدَّ برقِ المجد من أجل السَّلامْ
ويعبُّوا المعرفة
والسلوك الحسن الخالي من الحقدِ وأنْ،
يَسْتَلهموا العزمَ من القوَّةِ،
في ظلِّ طباعٍ حسنهْ
أصفرٌ أنت،
من الصِّين أو الفقرِ ،
أو الخوفِ … ولكنْ
أنت في الحالين متهُومٌ بتحضير واستيراد
أفكارٍ غريبة
وتقاليد غريبة
ولدى المحكمة العليا الصلاحياتُ في أنْ،
تعدمكْ
– “زارادشت” … هتف القاضي إلى الحاجبِ
فليأتِ المسمَّى
“زارادشت”
صرخ الحاجبُ كالملدوغ “يأتي زارادشت”
– ………
– فارسي ..
– ربما عاصرت “كونفوشيُوس” “أو بوذا” ولكنَّك،
من أكثرهم ميلاً إلى تسطير منشوراتك الناريَّةِ،
الحمقاء ضدَّ الحربِ ،
والفقرِ ،
ففي قبضةِ هذى المحكمة
خمسة من كتب مستوردهْ
كنت قد سطَّرتها سراً، ولكنَّ رجال الأمنِ،
لمَّا فتّشوكْ
وجدوها خمسةًً
وأحدٌ يحكى عن القانون بالشِّعرِ الذي يمدحُ
في النُّورِ،
بهاهْ
وتفاصيل تخصُّ الطُّهر،
والرِّفقِ ،
بكلِّ الحيواناتِ .. وبشَّرت على أسطرِ إحداها
بأن النَّصر للخير على طول المدى
ثمَّ حرَّضت الجماهيرَ على استجلاء
سرَّ المعجزات الصافية
مثل نور النَّارِ والماء وطين الأرض يا ،
متَّهماً خرَّبَ أفكارَ البشرْ
بالمقالات عن السِّلمِ الذي يعنى فسادَ الجيشِ
والأمنَ وأشياءً كثيرة
حاجبُ المحكمةِ المستاء
تعبانٌ
ونعسانٌ ،
ولكنَّ صراخ النائب العام استمر
طالباً منه على الفور دخولْ
ذلك المتَّهم المدعو “موسى”
– موسى .. ليدخل السيّد المدعُّو موسى
– ………
– تهمةٌ بالقتل في البدءِ ، وتحريض عبيد النَّاسِ
للثورةِ في مصر ، وتنظيم هروبْ
لرقيق الأرضِ والسُوقةِ الدّهماء،
والمضطهَدين ..
وتتلْمذت على المتَّهمِ الأولِ والمدْعو ،
بأخناتونَ في البدءِ ،
وحالفتَ العبيدْ
حينما كنت تُسمَّى
قبل أن تَهْرُبْ إلى الهِكْسْوس في سيناء
” أُوُسرْكافْ “
ما الذي يعنيه في القانون اسمان لشخصٍ واحدٍ
” موسى ” و ” أُوسرْكافْ “
والذي يعْنيه ” موسى “
” شَجَرَ الماءِ ” فهل أنت الذي يطلع من بحرٍ بلا قاعٍ
ويمتدُّ إلى ما لا حدودْ
كي يراك الفقراءْ
قمراً يُخبرُ عن شمسِ الوجودْ
ويروْا في نوركَ الوضَّاء فرعونَ ذبابهْ
فإذن “موسى” هو الاسم الذي يعرفه الجوعى
ويُمليه على المعجمِ صوتُ الفقراءْ
مشعلي النيران في التَّاريخ يا موسى ،
وروَّجت لأَفكار الوصايا العشر في الألواحِ
كي تُعطى لشكل النَّاس مضمونا جديدْ
جعل المستضعَفين المسترقين يثورون ،
على أسيادهمْ
وينادون بأفكار الوصايا العشر للعدلِ وللخيرِ
فماذا؟
بعدُ يا موسى يكون الحكمُ في حقِّكَ
والقانون قد جرَّم أفعالك
من أوّلها .
حاجبُ المحكمة المستاء تعبانٌ
ومُنهكْ
غير أن النَّائب العام استمر
زاعقاً يطلب أن يأتي ” بداوود ” النبي
– داوودْ …
– …………
مرحباً بالسيِّد المدْعو بداوود ، وراعى الغنم ،
البكماءِ ..
يا منْ
صرت من راعى غنم
ملكاً أشهر من أشهر راعى
ثمَّ لم تحفلْ بتقليدِ الفروسيَّة في عصركَ ، لكنَّكَ
في غمرة أمجادكَ ،
قد صرت ملكْ
وتحدَّثت إلى النَّاس على غير سبيلِ ،
الملكيين بشِعرْ
عندما كنت تجيد العزف موسيقى ،
وشعرْ
وتحدَّثت إلى النَّاسِ بموسيقى وشعرْ
حيث سطَّرت مزاميرك في ديوانك المدعُو ،
الزَّبور
كي تُثَبِّتْ
من خلال الشِّعر ألواحَ الوصايا العشر ،
والممنوعة اليومَ وأمسْ
ثمَّ زَيَّنْتَ إلى النَّاس السلامْ ،
والعدالة
ولذا قد كنت من أكبر من ضلُّوا عن الجادّة
في أيامنا.
ثمَّ ران الصَّمتُ في القاعة ،
برهة
غير أن النَّائب العام الذي كان يُجيلُ ،
البصرَ المأمور بالحقدِ ،
وبالتَّمثيلِ ،
كانْ
يقلب الأوراق فوق المنضدة
ثم صاحْ :
إنني أطلب من حضرة قاضينا،
ومن هيئة هذى المحكمة
أن ينادى الحاجب الآن على المتَّهم السَّابعِ
والمدعو ” يسوعْ “
يصرخ الحاجب كالملدوغْ
“يا يسوعْ .. يا يسوعْ “
إلاّ أنّ النائب العام الذي استشعر من صرخة ،
ذاكَ الحاجب المنهكِ وحْشهْ
وطَّدَ العزم على لفت انتباه ،
الحاجب المذعورِ ،
قال:
– لا تنادى ” يا يسوع “
أنت لست الآن في القاعة يا حاجبنا الطَّيب
جان دارك
كي تناديه كما نادته ” يا يسوعْ ” ،
بل قل هكذا
“يدخل المتَّهم المدعو يسوعْ ..
– ” يدخل المتَّهم المدعو يسوعْ “
– يدخل المتَّهم المدعو يسوع …
– ………
– أنت تعلمْ
– أنَّك المتَّهم السابع في لائحةِ
المتَّهمينّ
ناصري ،
ليس في الأوراق ما يثبتُ أصلكْ
غير إحصاء أُغسطس
قيصر الرُّومان لمَّا سجَّلتك الوالدة
في سجلاَّت أورشليم
” عيسى بن يوسف النَّجار “
إلا أن النَّاس يدعونك ” ابن اللَّهِ “
يا عيسىَ وبعض النَّاس يدعونك باسم المعجزة
والمخلِّصْ
ولذا نبدأُ من حيث انتهينا
بالمخلِّصْ
ما الذي يقصده الناس بهذا القولِ ، ثُمَّ
ممَّن سوف تحميهم ، لكي تدعى مُخلِّص
أمِنَ الرُّومان ؟
حتماً ………
كلُّ شيء واضحُ مثل وضوح الصِّلةِ الوثقىَ
التي تربطك اليومَ ،
مع باقي رفاقك
كُتبٌ تدعوا إلى السِّلم كما تدعو إلى العدلِ وتحريضٌ
على الثورةِ
والثورةُ ،
إخلالٌ بأمنِ الدَّولةِ المتَّحدةْ
أترى أنَّك لمَّا
كنتَ في الهيكل تحتجُّ على بيع الحمامْ
لم تكنْ تعلم أنّ ” الملهم الأَكبر للدَّولةِ” قد جاءكَ
في شكل هويَّات عديدة
يتخفَّى بالظلامْ
مرَّةً في شكلِ خرَّاصٍ وعشَّارِ ومرَّهْ
يتخفَّى عنك في شكلِ مريدٍ يستنير
وانتهى الأمرُ بأن باعك في شكلِ يهوذا
حاجبُ الجلسةِ مستاءٌ
وتعبانٌ
ونعسانٌ ،وكانت
قاعةُ المحكمة الباذخة الرَّهبةِ تبدو
تَسْتلذَّ النّوم من ،
ألْفى سنهْ
رتَّبتْ نومتها السَّوداء وفق العصرِ
كانتْ
ترقب الأَعصرَ في المرمرِ والشرطي ،
والرَّهبةِ ،
والخوف الذي يبدو مع كلِّ عواميدِ
الرّخامْ
قاعة المحكمة الهيكل من أكثرِ من ،
ألفَىْ سنهْ
لم تشخْ بعدُ ،
لأنَّ المرمر المصقولْ
والأحجار والخوف الذي يبدو مَعَ ،
كلّْ عواميد الرُّخام الأسود العملاق
لا تعرف معنى الزَّمن الحي
ولا معنى الزَّوالْ .
*الجُّدِيِّدة – طرابلس – يونيو 1976