سرد

هب السوق كله على صراخ امرأة

أختلي بنفسي فأجد الصمت والصراخ ومجلة العربي، أجد الألم واللذة وأفتح صندوق العجائب في داخلي أفاجأ بالمصباح قد سرقته الأيام ودحرجته على رصيف الأمس مصدراً صوتا مهترئاً.. أما الشاطر حسن فقد تاب على يد شرطة الأداب  بعد علقة معتبرة فقرر أن يهجر طرابلس.

أمسك بالقلم العاق أسيره في وجهة الأوراق السكرى بالرحيق، فيسير شريطة أن يقبض الثمن، وعندما يتسنى له ذلك تعباً ونصباُ وأعصاباُ ذابلة  وقلبا واجفاً، وقبل أن يجف عرقه يكون الكراء بجانبه وأبقى مفرغا حتى من أجمل ما أملك.

نطلق صوت المؤذن ملعلعا في سماء طرابلس يعلن الحاكم والدستور، ويوقظ الذاكرة التي اهترأت ويشهد أن لاإله إلا الله مرتين أو أربع،

تأتين مع الريح كأنك أنت

أو هي أخرى تشبهك

تحلقين ميدوزا في سمائي

فأشرع في اللون

أهز فأسي لأهوي على جذوع الذكريات

أشعل الجنون فيهما وأنتصب مدرارا كما عهدتني

نتلاقح كما الموعد الأول

أهبك اللإنتماء فتردين ببسمة هازئة

أهي أنت

أهي أنت

أم طية ورق تزور بريدي القفر

أهي أنت بكل ما في الأنت من أنت

أهي أخرى تتقلد صفات كانت لك

أم أن كلاكما مراوغ

أرميك بلهفتي فتخطئ المنطلق

وتسددين سهم لحظك

فيصرخ أبو فراس داخلي

تقودينه حيث لا أمل في الخلاص

ويرتع معك في لعبة جنونية تستعذبينها

فأبكيه بدمع في الحوادث غالٍِ

تغلقين فمه

تشع غلمة الفرس في عينيك

وتأخذين منه المنكبين

أهي أنت أم عاشقة

أهو أنا أم بدوي مثقل بالكرم

تجبرينه على القبلات

والمرارة في حلقه دهر

ومثلي يا سيدة المتوسط عصي الدمع

تعبثين بخصلات تترق

فوق جبينه كجناح أسطوري

تصوبين نحو القلب

جوعا مطامن وغلمة تستعر

بأسنانك الؤلؤية تفكين القيد

تكبين عليه فتنزعين ما تبقى من لحم اليدين

وتلثم شفتاك ما تقع عليه من قديد

وأظل في سجني ثابتأ نحوك

غير منتظر لإحسان غيداء

جاءت تسترق السمع لأهات شاعر

وكما البوح ندي وآسر

هو حضورك

وكما الابتسامة روح ترفرف

ذاك  قميصك وهو يداعب الجسد الغض

ويفتك بالبشرة البضة

كان السيف معلقا على الجدار

وصليل الحلي يفزّع الحمامة  التي ألفت

خجلت تلكم الحمامة من جرأتك

فأعارتك هروبها والمكان

وهبت لك خلوة بالسيد

فوقفت تتجردين قطعة قطعة

ورداء رداء

وحريرا

ومتعة متعة

حتى إذا اغتلمت النواظر

وتأهبت لرمي الصور من وراء أحداقها

زررت القميص

وتركت الهواء ملوثا بعبير جسدك النقمة

لففت ما كان مشاعا للحائط والقيد

وسترت النعماء بفضل الرداء

وأي فضل له وهو لايكاد يمسك منك سوى البعض

ولايستر منك غير البلوى والجحيم

فالفضل كل الفضل

لتلك اليد التي مارست الخفاء

واشتعلت أصابعها برقة تصافح التمني واللو

وتترك ما بعدها فوضى لما سيأتي

فهل اترك مثل هذا المشهد

كيف لمثله أن يخفيه القلب عن القلب

وكيف تستره العين عن انسانها

متوسطية العينين

افريقية اللون والبسمة

عربية الملامح  والشموخ

منذ التقينا

ومذ عرفتك لا يفارقك البهاء

ولولا وشم الألف التي أهداك عمرو بن العاص

لظننتك أنت لااحترت فيك

وضممت أخرى

هـبَّ السوق على صراخ امراة، كان ثلاثة من الجنود المدججين بالسلاح يجرونها من ضفائرها، أما المفوض فقد اقتاد الأطفال وراء حصانه الذي داخله الزهو.. كان الحصان جميلا ذا عينين واسعتين وسباسب ذهبية، دخل المفوض الحي فثار غباركثيف توجس الأهالي شراً كان يمتطيه وجبينه يطاول السماء، يختال بين جنوده الثلاث وكان من ورائهم القس بجلبابه الطويل ذي النقوش الحمراء المذهبة يتدلى صليب فضي فوق صدره كانت عيناه زائغتين وجبينه يقطر عرقا يزيده قيض الصيف حرارة.

جال المفوض بعينيه، اجتاز رحبة السوق إلى زقاق ضيق، ترجل الجنود أمام بيت صغير كنس فناءه جيدا.

نظر أحدهم إلى المفوض هزّ له رأسه وابتسم، استل الجنود سيوفهم واقتحموا البيت، سمعت صرخات امرأة وهي تستنكر دخولهم عليها،

للبيوت حرماتها.

لكن الجنود اجتازوها إلى صحن البيت قلبوه رأسا على عقب الطفلان الصغيران استجارا بأمهما حضنت المرأة الطفلين وهي تتمتم سرا وبكاؤهما يعلو، أمسك الجندي المرأة من يدها  دفع الطفلين إلى الحائط هبت إليهما جدتهما العجوز، جذب المرأة من يدها تملصت منه سقطت على الأرض تزايد بكاء الطفلين، سحبها الجندي من ثوبها تمزق الثوب كورقة في كتاب قديم، انكشف الجسد الأبيض اللامع، الذراع البض، انهمر الشعر الأسود ليلا يطبق على الجفون، العينان الزائغتان حمراوان والدموع تنهمر على الخدين التفاحين، سال لعاب الجندي، أنهضها برفق جذبت يدها من يده، اقتادها أمامه إلى عتبة الدار خرج وراءها الطفلان يبكيان:

– أماه.. أماه..

تبعها الجندي الثالث بعد أن دس شيئا في جيبه من محتويات البيت.

وقفت أمام المفوض (باريونويفو) وفي عينيها بريق غريب كانت تنظر في عينيه مباشرة ابتسم المفوض وهو يقول:

– هل كنت تظنين أنك ناجية من يد العدالة؟

حملقت المرأة في الواقف أمامها كان القس يتصبب عرقا فهو يعرف فضاضة المفوض ثم إنه يخشى الاصطدام مع المورسكيين ولكنها الأوامر ولا مجال للمخالفة:

– ألم يكن والداك نصرانيين؟، فكيف ترتدين عن دين آبائك وتتزوجين مسلم؟.. هل تضحكين على ذقوننا؟ ألم يتقبل أبواك التعميد ويتطهرا بالماء المقدس؟

كان القرار واضحا بمنع الزواج بين المسلمين والنصارى المسيحيين واعتبار ذلك هرطقة وكفرا، وأنه من تنصر من العرب أيضا لايتزوج من نصاري الإسبان، كان ذلك قرار القسيس (فرانسيسكو خمينيس) الذي أقنع الملكة بضرورة تنصير أهالي غرناطة وأنه لا مجال للتهاون مع الذين يمارسون هرطقاتهم سرا فوضع برنامجا للترغيب  حين فشل التنصير القسري فقد أعفى الغرناطيين من العقوبات التي فرضها على الذين لا يستعملون الحرير ثيابا بعد أن كان منع ذلك لغير المسيحيين وأنه أمر بتطبيق القانون القشتالي.

(لاس ستيه بارتيداس) الذي ينص على أن ميراث الرجل المسلم يؤول إلى أبناءه أو أقاربه من النصارى دون غيرهم، حتى وإن كان له أقارب مسلمون وكذلك رقيق المسلمين إذا تنصروا أصبحوا أحرارا والنساء المسلمات إذا تنصرن  أصبحن هن المالكات  ولايرجعن إلى أزواجهن بل يحضن الأطفال ويطلقن الزوج.

وحين فشل كل ذلك  تهاوي مجد (خمينيس) المنتظر من ازدهار الكنيسة القشتالية بتنصير العرب، صار السيف والمقامع هما وسيلتاه أمام بوابة محاكم التفتيش التي ترأسها صار التنكيل والمطاردة والقتل وسائل مقنعة جدا للدخول في دين المسيح  ،المسيح  الذي ترك الدنيا سائحا مبشرا بالعدالة  ،المسيح ذي القدمين الحافيتين  المنقذ من الظلام هذا المسيح صارفي غرناطة عام 1426 قبوا لا يلجأ إليه إلا من خاف الموت  أو التهجير عن الوطن والولد والزوجة.

أدركت المرأة أن المفوض لن يتركها تنجو بعد أن عادت إلى زوجها، زوجها الذي فر إلى الجبال ليحارب مع (محمد بن أمية) في البشرات.. خافت على الطفلين، كانت نظرات المفوض إليها تنذر بالشرر، توحدت وإياه في نظرة خاطفة إلى الطفلين، كانت النظرتان متضادتين نظرة أم خائفة ونظرة سفاح.

أمر جنوده باقتيادهم إلى السجن بينما العجوز المقعدة تدعوا الله أن ينتقم من الجبابرة ارتجف القس رسم علامة الصليب بينما (باريو نونيو) يخرج من الزقاق منتصرا وخلفه سبعة أرواح ثلاث منها كان مصيرها إما الموت وإما سوق النخاسة.

كانت السوق في تلك الساعة تعزف لحنها الشرائي المعتاد، باعة ينادون على بضائعهم، معروضات صفت جيدا، قوارير زجاجية ملونة، حلي، ملبوسات  جلابيب، غرناطية مطهمة، مشغولات يدوية، عطارون، دواب، فواكه  أطفال يتهارشون، نساء يفترشن الأرض يبعن بعض المخبوزات.

التف الرجال حول موكب المفوض وهو يخترق السوق والمرأة تستغيث كانت صرخاتها سكاكينا حادة تشك قلوب الأهالي ومنظر الطفلين الباكيين يقدد القلب حرك هذا المنظر القلوب المكلومة فتناثرت دموعهم، أثار مشاعر الكره لللأسبانيين وللملكة خصوصا  ازداد صراخ المرأة يشق عنان السماء كانت تستغيث بالنبي محمد، بالصحابة.. كان النبي العربي يرقد بعيدا هناك في شبه جزيرة:

– يا محمد

– يا محمد

– يا مسلمين

كان الإسلام غريبا في تلك اللحظة وكأنه لم يرفرف ثمانمئة عام في هذه السوق،هنا في الحمراء أما المسلمون المتحلقون حولها لا يستطيعون أن يستنقذوها من براثن المفوض بعد أن اجبروا على التعميد والذهاب إلى القداس كل يوم أحد.

ظلت المرأة تنادي حمية العرب المورسكيين  فلم يرد أحد.

في ذلك اليوم من عام 1499 كان صراخها يشق القلب وهي تنادي

يا معتصم

يا صلاح الدين

يا كسيلة

يا مسيلمة

يا حجاج

يا عبد الله السلال

ياأوبيك

يا مؤتمر القمة

يا مجلس التعاون خيم الصمت للحظات كانت أزقة البيازين هي من يجيب، الصمت الفاحش من يردد صيحات المرأة ، تمتمت جبال السيرانيفادا تعلق عصيانها وتشق تمردها.

تجمهر الأهالي والغضب ينز من وجوههم، حولهم المشهد الأليم إلى سفاحين تحلقوا حول المفوض وجنوده حمل الأهالي عصيهم وفؤوسهم وسكاكينهم وانقضوا على الجنود، كانت أول مرة يسمع فيها لاإله إلا الله محمد رسول الله منذ أمد بعيد في هذا الحي، خلصوا المرأة وطفليها من بين أيديهم قتلوا الجنود الثلاثة أما المفوض فإنهم أنزلوه عن جواده، صارت النساء يضربنه بأحذيتهن ثم أخذت إحداهن الطفلين وأمرتهما بأن يبولا فوق رأسه فك الطفلان سرواليهما بسرعة البرق.

ليندفع السائل النجس يروي لحية الطاغية  (باريونويفو)  أما القس فإنه هرب إلى بيت المرأة.. جرت النساء والأطفال وراءه يريدون قتله هو الأخر دخل القس البيت الذي دخله قبل ساعة، وجد العجوز المقعدة تبكي، نظر إليها نظرة راجفة، أدخلته تحت سريرها.

وحين أراد الأهالي قتله أخبرتهم بأنه في حمايتها وأنه قد استجار بها فأجارته، تركه الأهالي إكراما للمرأة العجوز ولمكرمة كان أجدادهم العرب يفتخرون بها في سالف مجدهم.

أيقن  الأهالي أن السلطات لن تسكت عن قتل المفوض وأنه لن تغرب شمس هذا اليوم حتى تدهمهم الخيل  (فما تفعله حماس يقع على رأس أبو عمار) وأن بيوتهم سوف تكبس ليلاً.

أسرع الأهالي إلى الكنيسة التي كانت مسجدا فيما سبق، تشاوروا فيما بينهم اختاروا سبعا من فقهائهم لقيادة الحي وإعطاء الأوامر.

جاء رأي الفقهاء بالإسراع بالتمترس خلف الأسوار واحتلال الأبراج والقصبة  حصنوا دفاعاتهم بعد أن قتلوا الحامية واستعدوا للدفاع عن شرفهم وشرف بناتهم وصل الخبر للكاردينال (دوتانديلا) الذي لم يصدق ما حدث:

– هل حقا قتل العرب المفوض؟

طأطأ الجندي رأسه، لكن الكاردينال استشاط غضبا وأمر أن ترسل مفرزة من الجند لكبس الحي أخبره الجندي بأن المورسكيين احتلوا القصبة والبرج وأنهم يملكون السلاح والدروع.. انفجر الكاردينال  غاضبا:

– ولكن من أين تحصلوا على السلاح؟ ألم نجردهم حتى من ملاعق الأكل ؟

رد الجندي وجلا:

– أكبر الظن أن إيران وراء عملية تسليحهم.

– إيران القحـ……، وراء كل مصيبة في هذا الكون.

جلس الكاردينال وأمر كاتبه أن يكتب رسالة للملكة يخبرها فيها أن ثورة في البيازين توشك أن تمتد إلى غرناطة كلها.

مقالات ذات علاقة

نصّ مفتوح

عمر عبدالدائم

مقطع من رواية “فرسان السعال”

وفاء البوعيسي

الحلاج.. كلمة في الذات

سعد الأريل

اترك تعليق