(مسرحية من فصلين)
الشخصيات:
• أبو البركات: المدير.
• جابر: أمين السر.
• الشبح.
الفصل الأول
بينما كان أبو البركات منشغلا بمطالعة بريده اليومي، وإذ بجابر يدخل مهرولا علـى غيـر عادتـه، بلا استئذان وبلا مقدمات وهـو يقـول:
– سيدي. . سيدي المدير.
– خيرا إن شاء الله.. ماذا حدث..؟
– رجل بلا رأس يا سيدي.
– رجل بلا رأس !!! يا للهول.. أين وجدته..؟
– في مكتبي.. مكتبي يا سيدي.
– يا للمصيبة.. يا للكارثة.. هل عرفت القاتل..؟ هل أبلغت الشرطة..؟
– لا يا سيدي.. إنه…
– يا إلهي.. ماذا تنتظر أيها الأحمق..؟
– مهلا سيدي.. إنه بلا رأس.. ولكنه يتكلم.
– بلا رأس.. ويكلم الناس!!!
– نعم.. نعم.
– كف عن هذا الهراء أيها الغبي.. هل تعتقد أن وقتي يتسع لهرائك السمج.. ونكاتك السخيفة..؟
– أقسم لك يا سيدي.. إنني جاد فيما أقول.
– يا للعجب..!!!
– وأكثر من ذلك.. أنه يمشى.. يمشى يا سيدي.!!!!
– يمـ.. يمـ.. يمشى..!!!
– نعم يا سيادة المدير.. هكذا.
– تعال إلى هنا.. أيها الأبله (يمسكه من أذنه) ألآن سأريك كيف يمشى الموتى.
– مهلا يا سيدي.. أقسم لك برأس جدتي العجوز إنني.
– دعني من رأس جدتك العجوز ومن عظامها البالية.. وقل لي يا صاحب هذا الرأس الغبي.. قل لي.. كيف تحادثت مع رجل بلا رأس..؟
– نعم سيدي.. أقسم لك إنني تحادثت معه.
– وهو ميت..؟
– لا يا سيدي.. وهو حي على ما أظن.
– يا إلهي يكاد يذهب بعقلي هذا الغبي.. أنت أيها ألأحمق.. تقول إنه بلا رأس ويكلم الناس.
– نعم سيدي.
– وتقول لا هو ميت.. ولا هو حي.
– نعم سيدي.
– كيف إذن.. كيف.. أيعقل هذا يا عديم العقل.
– لقد رأيته بعيني هاتين يا سيدي.
– بلا رأس.. ويتكلم!!! لا هو من الموتى ولا من الأحياء..!!!
– أعتقد أنه في منزلة بين المنزلتين.
– بين المنزلتين.. أيها اللعين..!!!
– نعم سيدي.. لا هو ميت فأقول لك إنه ميت.. ولا هو حي.
– ألم تقل أيها الأحمق.. إنه ليس بميت.. وإنه يتكلم.. فكيف إذن لا يكون حيا.
– الأمر في غاية البساطة سيدي.. لو كان حيا.. لكان له رأس.. مثل رأسك هذا.
– رأسك أنت أيها المجنون.. أتصل بك الجرأة على مقارنة رأسي الشريف.. برأس هذا الذي…
– لا تغضب سيدي.. إنه بلا رأس.
– بلا رأس.. يا عديم الإحساس.. ويتكلم مثل الناس.!!!
– سيدي.. سيدي.
– نعم.. ما الذي خطر ببالك..؟
– أعتقد يا سيدي.. أنه ميت.
– تعتقد أنه ميت.. لكنك تقول إنه يتكلم.. ويمشى أيضا.
– نعم.. نعم.. بلا رأس.. ويمشي ويتكلم مثل الناس.
– لا أنعم الله عليك.. بلا رأس ويتكلم.. ما هذا التناقض.. ما هذا التخريف.
– أعنى يا سيدي تارة يكون له رأس كبقية الناس.. وتارة أخرى أراه بلا رأس.
– أمتأكد أنت مما تقول..؟
– جدا.. أعتقد.. أعتقد.. يا سيدي…
– ماذا تعتقد.. هيا تكلم.
– أعتقد انه.. شبح.. نعم.. قد يكون شبحا.
– يا إلهي.. شبح.. إنني لا أطيق سماع هذا الاسم.
– لكن يا سيدي.. الشبح لا يظهر في وضح النهار.
– نعم هذا صحيح.
– ولا يزور أحدا في مكتبه.
– نعم هذا صحيح.
– ولا يطلب من أحد أن يمهد له الطريق.
– ماذا تعنى.. يا سكرتيري العزيز.
– أعنى يا سيدي.. أعنى لو كان شبحا.. لذهب إليك مباشرة.. دون مقدمات.. ودونما حاجة لخدمات سكرتير ضعيف مثلى.
– نعم هذا صحيح.
– الشبح يا سيدي.. قد يعترضك وأنت عائد بعد منتصف الليل إلى بيتك.. ويكمن لك في مكان ما ليقول لك.. ليقول لك: (بخ).
– لقد أفزعتني.. كف عن هذا الهراء.. أنت تعرف أنني أكره العفاريت وقصص العفاريت.
– نعم أعرف هذا.. ولكنك اليوم.. مدعو لمشاهدتها.
– ألا تكف عن هذا الهراء أيها الأحمق.. هل جننت يا رجل.
– كما تريد سيدي.. ولكنه في انتظارك على أية حال.
– أنا لا أشك مطلقا.. أنك قد جننت.. دعني أساعدك إن كان مسك شيء من الجنون.
– لا تغير الموضوع.. لنعد إلى الموضوع الأهم.. إلى الشبح.
– الشبح.. نعم.. نعم.. قلت إنه في انتظاري.. قل له يذهب إلى أقرب مقبرة من هنا وسيجد فيها ما يسره.
– مهلا سيدي المدير.. دعني أقول لك ماذا قال…
– ماذا قال..؟
– قال. . يا سيادة المدير.. قال…
– تكلم.. ماذا قال..؟
– قال إنه يريد مقابلتك.. لأمر هام.
– يريد مقابلتي..!!!
– اسمع أيها الأحمق.. أنا لا أقابل الموتى.
– أعرف هذا يا سيدي.. ولكنه يصر على ذلك.
– يا إلهي.. يكاد يذهب بعقلي هذا اللعين.
يطرق برأسه مفكرا.. يحدث نفسه: غريب.. هذا أمر غريب حقا.. أنا لا يساورني ثمة شك في أن هـذا السكرتير قد جـن.. نعم.. لقد جن ورب الكعبة.. يوجـه كلامه إلى السكرتيـر:
– اسمع أيها السكرتير.. لا تكثر من هذا الهراء.. أنت والى أن يعود إليك عقلك مطرود.. تحسس رأسك جيدا واغرب عن وجهي.
– سيدي.. سيدي.. أرجوك.
– لا تكثر معي الكلام.. هيا اغرب عن وجهي.. ولا تنسى أن تأخذ رأسك معك.
– حسنا.. أنا ذاهب الآن.. ولكن وقبل ذلك.. أقسم لك بأنني جاد فيما أقول.. ثم إن الشبح في انتظارك وقد تحتاج إلي.
– الشبح.. الشبح.. نعم.. نعم.. صدقت قد أحتاج إليك.
– ألا تذهب إليه لتراه بنفسك.. سأنتظرك هنا ريثما تعود.
– أنا لا أريد رؤيته.. دعه يذهب لرؤية الجحيم.
– ألم أقل لك إنه بلا رأس.
– ألا تكف لوجه الله عن هذا الهراء.
– أعنى يا سيدي.. لا يستطيع رؤية الجحيم.
– حسنا.. حسنا.. أنا لا أريد مقابلته.. قل له غير موجود.. قل له ذهب ولن يعود.. قل له أي شيء.. تصرف يا رجل.
– لا يا سيدي.. إلا هذا.. أستطيع أن أكذب على أي مخلوق آخر.. إلا هذا.
– يا إلهي أنا لم أعد أحتمل.. لقد أضاع هذا الغبي وقتي.. ويريد أيضا أن يضيع عقلي.. اسمع أجبني وباختصار شديد.. ألم تسأله عما يريد..؟
– سيدي.. أولا: أنا لم أسأله.. وثانيا: هذا أمر لا يخصني.. وثالثا: لماذا لا تسأله بنفسك.. ورابعا…
– توقف أيها الأحمق.. لأنني مديرك ولأنك سكرتيري الخاص.. أريدك أن تذهب إليه وتقول له: يقول لك أبو البركات هل من خدمة يمكننا أن نقدمها لك.
– لا يا سيدي.. لن أذهب إليه وحدي.. إنني أفضل أن أترك هذا العمل.. على أن أعود إلى ذلك المخلوق المخيف.
– حسنا كما تريد.. سنذهب إليه معا.. هذا أفضل من أن أواجه هذا المخلوق الغريب وحدي.
– لا يا سيدي.. إنه يريدك أنت.. أنت فقط.. ألم يقل إنه يريدك في أمر خاص.. يبدو أنه لا يريد أن يطلعني عليه.
– مهما يكن من أمر.. فإنني أفضل تكون معي.
– حسنا.. دعنا نذهب لمقابلته.
الفصل الثاني
يدخل المدير وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.. ومع كل خطوة يخطوها يتفحص بنظراته أرجاء المكتب.. بحثا عن الشبح.. ولكن دون جدوى:
– خزعبلات.. تخيلات.. أوهام.. أين هو – ينادي على جابر – يا جابر.. أدخل يا جابر.
يدخل جابر مهرولا يكاد يتعثر في خطاه.. وتصطك أسنانه من شدة الخوف.. ويقف بمحاذاة المدير.. خائفا مرتعدا:
– أين هو.. هل ترى شيئا غير الوهم والخيال.
– إنه هناك يا سيدي.
– ماذا تقول.. هناك.. أين.. أنا لا أرى شيئا.
– هناك على ذلك الكرسي سيدي.. أنظر جيدا.. إنه ينظر إلينا.. إنه يقف.
– جابر.. لا تخف تمالك نفسك.. ريثما نذهب إلى الطبيب.
يهب جابر مسرعا إلى المدير ويتشبث به وهـو يقـول:
– أنظر يا سيدي.. إنه يتجه إلينا مباشرة.. إنه يقترب.
– دعني أتحسس رأسك جيدا.. هل أنت مريض..؟
– لا.. أنا لست مريضا.. دعني أذهب بالله عليك.
يوجه كلامه إلى الشبح الذي وقف أمامه مباشرة:
– ماذا تريد منى.. أرجوك أتوسل إليك.
الشبح يخاطب جابر:
– هون عليك يا جابر.. لا تخف.. أنا لست شبحا.
– ماذا.. أنت لست شبحا..؟ وماذا تكون إن لم تكن شبحا..؟
– أكون شيئا آخر لا صلة له بالأشباح.
– وكيف أصدق ذلك وأراك تفقد رأسك في بعض الأحيان ويعود إليك في أحيان أخرى..؟ من أنت.. ومن أي مقبرة أتيت.. أخبرني بالله عليك من تكون..؟
– لا يهم من أكون.. فقط تمالك نفسك ولا تخف.. فأنا لست شبحا.. ولن أتسبب في إيذائك مطلقا.
– حسنا.. حسنا.. ولكن إذا لم تكن شبحا.. فلماذا.. لماذا لا يراك سيادة المدير.
– لا تتعجل ستعرف ذلك فيما بعد.
في الأثناء كان المدير يقف مستغربا.. ويضرب كفا بك تأسفا علـى سكرتيره الذي وصل به الحال إلى هذا الحد من الهذيان.. بينما يلتفت جابر إلى المدير وهو يقول:
– ألا ترى. . ألا تسمع.. يقول: إنه ليس شبحا.
يمسكه المدير من يده ويقول له:
– لا.. الأمر لم يعد يحتمل التأخير.. لا بد أن آخذك إلى الطبيب حالا.
يمسكه الشبح من يده الأخرى ويقول له:
– لا تذهب معه.. أنت لست مريضا يا جابر.. ولست في حاجة إلى طبيب.
– أرى إنه على حق.. نعم أنا مريض (يلتفت إلى المدير ويقول له) أرجوك خذني إلى الطبيب الآن.
يواصل الشبح كلامه فيقول:
– هون عليك يا أخي جابر.. فالأمر في غاية البساطة.
– أكاد أصاب بالجنون يا أخي الشبح.. أراك ولا يراك.. تتحدث إلي ولا تتحدث إليه.. من أنت قل لي من أنت.. أو دعني أذهب إلى أقرب عيادة نفسية. - لأنك رجل طيب وبسيط يا جابر.. ولأنني أحببتك من خلال عملك معنا.. فقد أتيت لأخبرك بحقيقة أبي البركات.. لقد طفح الكيل لا بد أن أخبر عنه ليعرفه الناس.. لم أعد أحتمله لم أعد أطيقه.. ولن أعود إليه أبدا.
– من أنت.. أتشتغل عنده.. ألديه موظفين من العالم السفلى.
– لا يا جابر الأمر ليس كما تظن.. فأنا من العالم العلوى مثلك تماما.. غير أنني لا أرغب في البقاء مع هذا الإنسان المريض.
– سيدي المدير.. ليس به مس.. ولم يشكو من مرض قط.. ولم أتذكر أنه زار الطبيب ولو لمرة واحدة في حياته.
– ربما لأنه لا يشعر بأنه مريض.. ألم تقرأ قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا).
– صدق الله العظيم.. أو تحفظ القرآن أيضا.. هل أنت شيخ الأشباح..؟
– أنا لست شيخ الأشباح.. أنا يا أخي جابر.. أنا…
– أنت إذن جني مسلم.. نعم أنا لا أ شك في ذلك.. سلطك أحد المشعوذين عليه.. قصد إيذائه.
– لا.. أنا لست جنيا.. ولا صلة لي بعالم الجن لا من قريب ولا بعيد.
– من أنت إذن.. أخبرني بالله عليك.. أتوسل إليك.
– أنا ضميره.. ضمير أبو البركات.. أو بالأحرى كنت ضميره.
– ضمير سيادة المدير!!! يا أهلا وسهلا.. يا أهلا وسهلا.. تشرفنا.
– جابر.. تمالك نفسك.. انتبه لما أقوله لك.
– نعم.. نعم.. قلت إنك: (مدير سيادة الضمير).. أقصد…
– نعم أنا ضمير سيادة المدير سابقا.
– أتعنى أنه الآن بلا ضمير.. يا للعجب.. يا للعجب.
– نعم.. بلا ضمير في كثير من الأحيان.. وبلا رأس في أحيان أخرى.
– غير معقول.. سيدي الحاج أبو البركات.. بلا ضمير وبلا رأس أيضا.
– أنا أدرى بمثالبه ومقالبه.. إنه لم يعد الحاج أبو البركات الذي عرفته من زمان.. إنه الآن أبو الوساطات والعمولات الكثيرات.. والحماقات التي لا يقترفها من له رأس يفكر به كبقية الناس.
وعلى نحو هستيري يقهقه جابر بأعلى صوته.. ويلتفت إلى أبي البركات ويخاطبه بسخرية لاذعة غير متوقعة وغير مألوفة:
– قليل بركات.. كتير وساطات.. واخذ عمولات كتيرات.. لازم أبلغ مخابرات حكومات.
أبو البركات يوجه كلامه إلى جابر متوسلا ومستجديا:
– اخفض صوتك يا جابر.. أرجوك لا تفضحني أمام الموظفين.. أكتم السر ولك ما تريد.
لم يمتثل جابر لتوسلاته وعروضه.. خرج من المكتب مسرعا.. يردد وبأعلى صوته:
– قليل بركات.. كتير وساطات.. واخذ عمولات كتيرات..
___________________
* حول الفساد المستشري في بلادنا.. كتبت هذه المسرحية عام 1984 أثناء عملي بمجلة الثقافة العربية غير أنها لم تنشر بها ونشرت فيما بعد ببعض المواقع الإلكترونية.