من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
قصة

الركض وراء فتاة تخرج من حفل ثقافي

من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه

 

كنتُ في سنتي الجامعية الأولى، حين ألفتُ قصيدة رثاء عن شخص من وحي خيالي لم يولد واقعياً بعد. كنتُ أفتقد دوماً عالماً مختلفاً. كانتْ قصيدة رثاء بالغة الحزن والصدق. في إحدى المرات رأيتُ تجمعات طلابية في بقع متفرقة من ممرات الجامعة. كانوا يطالعون ما ظننتُ بأنها بيانات سياسية معلقة على جدران كل الممرات. وقفتُ أمام واحدة من تلك التجمعات الطلابية بسبب الفضول محاولاً قراءة ما تم تعليقه هناك. دهشتُ حينما وجدتُ قصيدتي معلقة ومذيلة باسم شخص غيري. معروضة في رثاء شخص مختلف قيل بأنه مات ذلك الأسبوع. لم أكن أعرفه. حينما واجهتُ “مختلس“ القصيدة. تحدث بصدق عن شعور داخلي انتابه جعله متيقناً بأنه هو من كتبها. لأنها بالفعل تمثل كل ما أراد قوله، وإنها قصيدته الروحية. أسقط ما ظننتُ بأنها قطرة باردة في عيني. أرجوك، فقط تجاوز هذا. قال بهدوء حقيقي. يومها تجاوزتُ المسألة ولم أعد إليها أبداً.

“أحياناً تضطر لسرقة حياة الآخرين. تنتعل الأحذية مثلما يفعلون. تضع عطراً مشابهاً. تضحك بأسلوب مختلف عنك. تمشي مقلداً مشية قوية أو آسرة مقتبسة من شخص آخر. إنه الفن يمكنك دوماً الأخذ دون توقف. بالرغم من هذا، بالرغم من إتقانك أو قدرتك على استعمال الجيد لما اقتبستْ في النهاية تظل مجرد اقتباس. ليس جزء منك. يحدث أن يعيش أناس حيوات أناس آخرين. يقودهم هذا إلى الجنون، التفاهة أو الإنتحار بشنق أنفسهم. لا يمكن فهم هذه الأمور بسهولة. إنها شائكة وعصية على الفهم. أعتقد بأن ما حدث هو من هذا النوع من المعضلات الأخلاقية. الإدراك بدأ من الذات. في الغالب لا يكون كذلك. يُدرك الإنسان ما خارج الذات. ينعكس هذا على الذات بعد ذلك. إذلال حقيقي. فالغراب الذي دفن الآخر، جعل الإنسان يُدرك مأساته الشخصية فأغرقه في دوامة التيه والندم. من دون الفن الحقيقي، ينتهي إلى تعليق نفسه في السقيفة بعيداً عن أعين أحباءه. هذا ما حدث. هذا ما أعتقد وأؤمن به“.

تفوهتُ بهذه الحماقات الخطابية خلال حوار تلفيزيوني. مرتْ عدة أشهر على الأسبوع المجنون. سيل من المقالات اليومية والأعمدة مع كمية من البذاءات والحسد وظهور الأعداء من كل قمامة تُدعى صحيفة، بحيث سُمح لأكثر الأوغاد لؤماً بالكتابة ما يُريد عني. تماسكتُ أمام تلك الهجمة الإعلامية لمدة أسبوع. خاضتْ الرواية جولة رهيبة من التشهير، وبدأ العشرات يقارنون بين الأساليب في رواياتي السابقة بأسلوبي في الرواية الأخيرة. لديهم قناعة شيطانية بأن الأسلوب في الأخيرة مختلف تماماً، وإنه لا مجال للمقارنة. يمكن لتلميذ في المرحلة الإبتدائية أن يعرف بوجد الاختلاف الواضح. لا يُمكن أن أكون أنا كاتب النص.

“نحن الآن أمام معضلة حقيقية“. قال المحاور التلفيزيوني بلهجته اللبنانية المطعمة بكلمات خليجية هي تأثير سنوات من العيش داخل ناطحات السحب في دبي. غرابة بعيدة المدى بحيث لا يُعرف فعلياً ما الذي يمكن العمل حياله. كنتُ قطعتُ شوطاً في ترويض ذلك داخلياً وبشكل خيالي صرف. عرفتُ سؤاله التالي بذات الصيغة.

“أنت تتحدث عن فتاة في العموم وإن هذه الفتاة تعمد إلى إغراء العشرات من المثقفين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تعتبرها مختلفة. مسألة سياسية لن نختلف حول ذلك بالمرة، لكننا قراء بلا توجه سياسي وأنت في النص لم تمنحنا توجهاً سياسياً للنظر إلى فتاة تكشف عن أجزاء من جسدها ضمن النص، كما إنك لا تمنحنا تفسيراً اجتماعياً واضحاً يمكننا أن نعتبره تفسيراً معقولاً على غرار ما نجد ضمن أطفال منتصف الليل، لعبة المعالج والمريضة. كل ما هناك فتاة لا تظهر إلا بأجزاء عارية من جسدها في العلن كأنها غلى خشبة مسرح. أتعتقد بأن هذا شيء يمكن أن يحدث؟“.

“حدوث هذا ليس بمعجزة – قلت بحذق وتهكم – خلف ما نعتبره عادياً يكمن دوماً حدث سياسي بالغ الوضوح. إننا نختار ما نختاره بحسب توجه سياسي، بما في ذلك ما نعشق. لا أنكر وجود شواذ. أعتبر الشواذ الناتجة دليلاً على صحة ما أقول. أننا نضطهدهم فور معرفتهم وما يخبأون باعتبارهم المهدد الفعلي لكل ما نعتبره مهماً في حياتنا“.

“هل ينطبق هذا على عالم الأدب؟“. سألني.

“بالتأكيد، عالم الأدب والواقع، واحد“. قلتُ.

“إنه عالم معقد، فيه الكثير من الفخاخ، أنت مثلاً تمتلك كتاباً يقال بأنه من أفكار شاب انهى حياته بسبب فقدانه لكتابه“. قال المحاور وتطلع نحوي مبتسماً. ابتسامة خبيثة. لم أرد أن أعلن معركتي مبكراً.

“عالم معقد جداً، ما يحتاجه المرء هو أسلوب حقيقي، بايجاده للأسلوب يختفي الخوف، بالرغم من كل ما قيل فإنني أعتقد بأن الزمن كفيل بتأكيد ما هو حقيقي. فمثلاً التواريخ لا تكذب، ففي يوم انتحار الشاب لم أكن التقيتُ به كما إنني لم ألتق بوالده، بالتالي ليس من المعقول إنني أخذتُ أفكاره فيما هو انتحر قبل معرفتي به شخصياً“.

هكذا قلتُ وتراجعتُ على الكرسي الجلدي. استرخاء. رفعتُ كوباً من الماء وشربته ثم ابتسمتُ للكاميرا. سمعتُ بأنهم سيحضرون برشلونية في منتصف الثلاثينيات قارئة للغة الجسد من أجل توضيح بعض من تصرفاتي خلال اللقاء التلفيزيوني. دائماً تفاسير موجهة ضد شخصيتي.

“لدينا مصادر تؤكد بأنك التقيت به شخصياً قبل انتحاره بمدة وإنكما تحدثتما حول الأدب والنصوص، وإنه تحدث عن اعجابه بأسلوبك الأدبي وبالتالي أخذ يشرح لك عن طموحاته في مجال الأدب وإنه سطر عدة قصص وبصدد تأليف رواية. ردد البعض بأنها تحمل نفس تفاصيل روايتك الفتاة والتي نشرتها بعد حصولك على مسوداته“.

أعلن المحاور بأنه تحدث إلى ضيف كان مدعواً لإحدى الحفلات الخاصة وإنه ضمن تلك الحفلة تحدث مع شاب في منتصف العشرينات، لم يكن معروفاً لدى ضيوف في الحفل. ظن الجميع بأنني أنا من دعوته بسبب حماسي للحديث معه. هذا جزء من صفاتي. لا أحب أن أقضي اللقاءات الأدبية بالحديث عن الكتب، لذا أجلب معي شخصيات من المدينة لا علاقة لهم بالأدب، لنتحدث عن أشياء أخرى دوماً. خلال حديث الضيف المزعوم مع الشاب، أدرك بأنه كان على وشك تقديم نصه الروائي الأول لأحد أفضل الروائيين الكبار في عصرنا. كنتُ المقصود بهذه الصيغة الفخمة من الكلمات. الغرور صفة أمتلكتها دوماً وهي محفز حقيقي بالنسبة لي. أثناء حديث المحاور لمعتْ في ذهني صورة شاب ضئيل، متوتر ضمن بهرة الضوء، لمعتْ صورة غامضة أكثر بياضاً من صفحة خالية. صوت غامض، حديث متشابك عن المستقبل وتوجيه العقول باستخدام تقنيات متعلقة بمواقع التواصل الاجتماعي. في جانب ما من تفكيري أدركتُ بأنني في قلب مؤامرة وفخ حقيقي من قبل شاب ناقم. هذا ما شعرتُ به حينما كان المحاور يستعرض فهمه الرهيب للقضية التي شكلها بخيوط دقيقة حولي. حول عنقي. إنني في الفخ. ذبابة في شباك عنكبوت جائع. حفل وثني بالغ الوحشية، ولم يتوجب علي الاستسلام. رفعتُ كوب الماء وشربتُ منه بهدوء بالغ ولم أتعرق ولم أبتسم إلا قليلاً كما يجب، مستمعاً بانتباه إلى كل كلمة. لن أكون مثل مايكل زوكيربيرج في لقاءاته الأولى، سأكون مثل مايكل زوكيربيرج في لقاءاته الأخيرة كأنني أقرأ مباشرة من سيناريو مكتوب باتقان روائي لاتيني. هذا ما قررت الإتجاه نحوه منذ البداية. هذا ما واصلتُ الإتجاه نحوه حتى تلك اللحظة. ما سأعمل على مواصلة الإتجاه نحوه حتى النهاية.

لم أتذكرها مجدداً حتى تلك اللحظة التي بدأ خلالها المحاور يتحدث بإسهاب عن تفاصيل لقائي بالشاب المتحمس خلال الحفل. حاولتُ مراراً تذكر ما حدث في ذلك الحفل الصاخب. الشاب النحيل المغمور بالضوء. لم أقدر على استعادة ملامح وجهه جيداً. لكنني توصلتُ خلال البرنامج إلى جزء من ذلك اليوم البعيد. كتبتُ قصتي الأولى قبل عشرين سنة. كانتْ تتحدث عن كاتب استعراضي يفقد ذاكرته مع كل رواية يكتبها. مفارقة. أظنني نسيتُ. حدث أن سافرتُ إلى بلجيكا، لمدة شهرين كما أعلنتُ رسمياً من أجل إنجاز جزء من سيرتي الذاتية التي تتناول ما حدت معي خلال مدة عشرين سنة الأولى من حياتي. آنذاك كنتُ في الثامنة والثلاثين. تعرفتُ على كاتبة فرنسية-بلجيكية خلال لقاء في فرنسا بعد نجاح روايتي الفتاة عند ترجمتها للفرنسية. تعاهدنا على لقاء خاص. عطلة خاصة. السبب الحقيقي وراء السفر إلى أوروبا. كانتْ في الخامسة والعشرين، لديها رواية ناجحة وتحلم بأمجاد اميلي نوتومب. مجنونة ولطيفة. لذيذة مثل قطعة سكر. دافئة مثل نبيذ اسباني. قضيتُ معها أسبوعاً باخوسياً عندما تذكرتُ خلال إحدى الليالي الدافئة، ورأيتُ وجه الشاب، شاحباً ومريضاً يتطلع في عيني ببذاءة، يقترب مني بوجهه الشبيه بوجه النمس، مسبباً الإزعاج كمن كان يأكل اللحم نيئاً. كنتُ التقيت به خارج المبنى، ربما كنتُ ثملاً قليلاً، رفعتُ له يداً فيما أخذتُ أدخن ما تبقى من سيجارتي قبل الصعود للحفل. سألته عن الطقس البارد. قدمتُ له سيجارة. تحدثنا باستغراق عن أسعار الذهب وأفضل أسلوب للإيقاع ببائعات العاديات. أحببتُ إحداهن ذات مرة. قال. كل صباح اشتري منها قلامة أظافر، فعلتُ هذا لمدة شهر، لابد بأنه لن يحتاج لقلامة أخرى في حياته. مع مرور الوقت توطدتْ معرفتنا بشكل رائع وسلس. أدركتُ بأنها لذيذة في الابتسام. الضحك. الرفقة. الحديث. الاستماع. السمر. العناق والمضاجعة. قال إنهن يُطلقن صراخاً عالياً ومجنوناً، كالحيوانات البرية. تالياً تحدثنا عن ميكانيكي غريب يعرف أعطال المحركات باستخدام سماعة الطبيب. يستمع إلي صوت المحرك لدقيقة يُحدد بعدها العطب. الميكانيكي أكثر رحمة من الطبيب. هكذا قال ساخراً كما تذكرتُ في بلجيكا. يا إلهي، يا ربي. قفزتُ ملقياً بإميليا من فوقي حتى سقطتْ على الأرضية الخشبية الباردة. “ما بك؟“. صرختْ. فأخبرتها بكل شيء. استغرقنا بعدها بالضحك. كنتُ أرتجف من البرد حتى العظام. رويتُ لها سبب هلعي.

قبل سنوات خلال حفل صغير التقيتُ بشاب متحمس، بدا سطحياً جداً. أخبرني بأنه يحتاج لمعرفة السر الخفي وراء الكتابة الناجحة، عندها بسبب الثمالة أخبرته بأن الكتابة الناجحة تتغذى على العواطف الفاشلة وعلى الموت الحقيقي. تحدثنا طوال ساعتين، خرجنا بعدها نتجول في برودة الشتاء عبر طرقات المدينة. شربنا المزيد داخل السيارة. أمام البحر المعتم أحسسنا معاً بشيء من البرودة القارصة ولم نكن مرتاحين. اقترحتُ عليه الذهاب معي إلى شقتي. كنتُ وحيداً في تلك الفترة ولا أزال. داخل الشقة فتحنا زجاجة جديدة. جلستُ على الكنبة فيما أخذ هو يبدي اعجابه بأثاث الشقة، بالكتب وأسلوب تنظيمي لكل شيء. جلس على طاولتي. طبع قليلاً بإستخدام آلتي الكتابة. لم أكن استخدمها إلا كمظهر شكلي. أثناء تموضعي لأخذ بعض من البروتريهات الصحفية، لأبدو أشبه بالطراز القديم. أحياناً أجلس خلف آلة كاتبة قديمة أحدق في عدسة الكاميرا بوحشية وإغراء. وهو فعل يحب الجمهور رؤيته دوماً. أذكر بأنه أخرج بعضاً من مسوداتي. أخبرته بأنني أمتلك قرابة ستين فكرة لقصة قصيرة أصيلة ولإبداع المزيد من القصص القصيرة، لن أحتاج إلا لمزيد من الوقت. عندها لمح بأنه يحلم بأن يكون كاتباً، فتفاصيل حياته تحوي بعض القيمة التي تدفعه ليكون كاتباً. كنتُ مترنحاً بشدة وشعرتُ بأنني أود الحديث والبوح أكثر من ذلك. أخبرته عن رغبتي بكتابة سيرتي الذاتية، ففي عائلتنا يموت الرجال مبكراً، والدي مات عندما بلغ الثانية والأربعين. يُقال بأن جدي لم يُكمل الثلاثين. أنجب عدداً لا بأس به من الأبناء الذكور فيما أعمامي الخمسة سقطوا قتلى تباعاً، على أعتاب الأربعين. عمر الزهور. إننا ننتهي مبكراً. أحتاج لكتابة مذكراتي. أريته بعض الصفحات التي أنجزتها. لم يهتم بها. زادني عدم اهتمامه ارتياحاً، ففتحتُ قلبي كأنني أمام كاتب سيرتي الذاتية.

“هذا غريب“. هل قالتْ اميليا هذا؟.

كنتُ بدأتُ أعيد حياكة الماضي، لمعرفة ما حدث.

“كان هذا منذ زمن بعيد، لم أعتقد بأنني سأواجه مثل هذا الموقف السخيف“. قلتُ متطلعاً بعيداً عن الكاميراً نحو جمهور متخيل. أسلوب أدته روجينا. المسألة دوماً متعلقة بالفن، ولابد بأنها ترسختْ في أذهان الجمهور. براءة الفن. أعشق روجينا. تعلمتُ تقديم مثل هذا الأداء خلال اللقاءات الصحفية أو أثناء جلسات التصوير من أجل ترويج كتاب ما أو في الصور التي ترفق بالحوارات الطويلة أو أثناء إعادة نشر بعض من قصصي القصيرة. أصبحتُ فناناً.

“أنت تتذكر إذن لقاءك به“. سألني.

“نعم“.

“كنت متأكداً بأنك لم تلتق به“. لم أنفي هذا، فأضاف متسائلاً “ألا تعتقد بأن هذا يؤكد اتهامات الأب لك بسرقة نصوص ابنه؟ فأنت تناقض نفسك“.

“بالرغم مما قد يبدو هذا بالنسبة لك أو لغيرك، فإنني لا أرى أي تناقض. حدث هذا اللقاء قبل سنوات. كنتُ عندها في حالة خاصة – تقصد كنت ثملاً. قاطعني موضحاً – بضبط. كنتُ ثملاً للغاية ولا بد بأنني شربتُ ثلاث زجاجات بأسرها وهي مسألة لا أخفيها، إنني هكذا. بالتالي ما يحدث يكون في عالم سرمدي. بلا نسيان وبلا تذكر. عندما تحدثت عن لقائي بالشاب خلال الاحتفال أعدت إلى ذهني تلك الأحداث المنسية من الماضي، أنرت جانباً مظلماً من ذاكرتي الخاصة. نعم. نعم. التقيتُ به. أخبرني برغبته بدخول عالم الكتابة. قدمتُ له بحب النصائح الشائعة. أريته بعضاً من نصوصي ومسوداتي. وجدتها فيما بعد ضمن الحقيبة التي جلبها أبيه. لا أعرف كيف بطريقة ما وصل إليها“.

“ما هو تفسيرك لهذا؟“. لم يكن لي تفسير سوى سرقة نموذجية.

“شاب بارع، لديه خصائص فنية، استطاع أن يخدع السطحيين من القراء وإيهامهم بأنني سرقتُ منه نصوصاً، ربما هذا هو هدفه الأسمى، لا أعرف سبب هذا الانتقام، إنه شخص تدميري. أثبت ذلك بعملية انتحاره. كان يمكن أن يغدو شيئاً ما. فهمه جيد لبعض المواضيع التي نشرتها. عندما أعيد تفاصيل تلك الليلة فإنني أعتقد بأنني قابلتُ أديباً ظل قارئاً ولم يكتب“.

“تعترف بأن لديه قدرات أدبية“. سألني.

“استوعب أفكاري الأدبية، هذا ما أقوله“.

“فقط؟“.

“هذا ما لاحظته“. كنتُ لاحظتُ أمراً آخر لم أتحدث عنه. فمن بين القصص التي نشرها توجد قصة غريبة بعض الشيء. لم تكن من مسوداتي. ولم تكن من تفاصيل التي وضعتها بين قصاصات يومياتي، بل كانت من تفاصيل الخفية في حياتي. لم أكتبها ابداً على الورق بمثابة مسودات. بالرغم من إنها كانتْ الثيمة الأساسية التي بنيتُ عليها روايتي الفتاة. كنتُ أنجزتها فيما بعد، مباشرة من الذاكرة. خلال جلسة واحدة. عقب مقتل الشاب. وهو ما دفعني للتفكير حول نظريات المؤامرة. قصته القصيرة تتحدث عن فتاة غريبة ظل يُراقبها عبر صفحات التواصل، تؤدي عرضاً جنسياً ليلياً أمام معالم معمارية معروفة في بنغازي. قدرتُ بأنه أنهى كتابة قصته القصيرة خلال الفترة التي كنتُ فيها أنهي روايتي الفتاة. أعتقد هذا، اعتقتُ هذا. لا يمكنني التأكد من أي شيء. ظللتُ أعيد رواية قصتي في كل مكان. تحدثتُ مجدداً أمام المحاورين مدافعاً عن نصي فيما ظل الأب يُدافع عن نص ابنه، مؤكداً بأنني خنتُ الأدب. لم أعد متأكداً من شيء إلا إن نصي ظل يواصل النجاح، كتبته في جلسة واحدة، وتوجب علي دوماً أن أعيد التفكير حول ملابسات كتابته. أنجزتُ سيرتي الذاتية الأولى، ضمنتُ فصلاً عن رواية الفتاة. كتبتُ بأنني عشتُ تجربة انسانية عظيمة. حين نُشرتْ السيرة الأدبية، كان النقاش لا يزال متواصلاً. خرجتُ من البيت بعد وقت طويل من السجن الإختياري.

أثناء حفل ثقافي، رأيتها تخرج من القاعة. لحقتُ بها متجاهلاً شخصاً ما كان يتحدث إلي. عبرتُ التجمعات مصطدماً بالأكتاف. تجاوزتُ سيدات ورجال ببذلات أنيقة. مثقفين شبان تتدلى من على أكتافهم حقائب كبيرة. يتهامسون ويضحكون. شعرتُ بأنني أعبر المانش سباحة. عند الباب في الخارج وصلتُ إليها منهكاً. التفتتْ نحوي. بدتْ في منتصف العشرينات. السمة المدرسية في كل ملمح من ملامحها الشابة. كانتْ تبتسم بصفاء ملهم. لو سمحتِ، أود الحديث معك قليلاً. قلتْ. كنت ألهث بلا تعب. يسعدني هذا. قالتْ. عدنا إلى الداخل، اتخذنا زاوية مضيئة بين الجموع، كانتْ أقصر مني قليلاً. لدقائق أخذتُ أتحدث عن انطباعاتي حول اللقاءات الثقافية. أخبرتها بأنها لم تخبرن باسمها وأرادتُ فقط الابتعاد وهي مسألة ستسبب لي الأرق مستقبلاً، لأنها بمثابة قصة غير منتهية. فسألتني عن طبيعة القصص غير المنتهية. أخبرتها بأنها تلك لحظات التي نجبن فيها عن المواصلة أو نهتم بأشياء أكثر أهمية في نظرنا، لا أحد يعرف. ابتسمتْ. أعتقد بأنك محق. أشياء أكثر أهمية. قالتْ.  هل عشتِ مثل هذه المشاعر، اللا نهاية؟!. سألتها. لستُ كاتبة حقيقية حتى لو عشتُ مثلها فإنني لا أمنحها إطاراً محدداً. قالتْ بغموض. بالقرب منا كنبة كان يجلس عليها شابان. قاما مبتسمين. تركا لنا المكان. طلبتُ منها أن نجلس بدل من الوقوف متذرعاً بأن حديثنا سيطول. وافقتْ. جلسنا. وضعتْ حقيبتها على الأرض. لاحظتُ جلستها المشابهة لتلك المنشورة عبر صفحتها المتخيلة. تنهدتْ بعمق. ظلتْ غامضة حتى في جلستها كنتُ مسحوراً للغاية. أردتُ فقط أن أوضح مدى غرابة ذهابكِ بلا معرفة. قلتُ. ظلتْ تبتسم بلا إجابة. سألتها إن كانتْ قرأتْ روايتي، فأجابتْ بأنها لم تكمل القراءة إلا نحو مئة وخمسين صفحة. النهايات مخيبة دائماً. كانتْ سعيدة بمعرفة وجودي في الحفل. لأنها جلبتْ نسختها من الكتاب بالمصادفة، كانتْ تتحدث بهدوء بالغ. هل هي مكتئبة أم مجرد أسلوب حديث خاص بها؟! كانتْ تُحرك يديها مع أصابعها النحيلة التي تأخذ برسم خيالات ضوئية في الهواء، دوائر، وجوه أشخاص، تفاصيل يومية متناثرة. تفاصيل غريبة بعض الشيء. قالتْ خلال حديثها عن الكتاب. كيف ذلك؟. سألتها. في روايتك تتحدث عن شخصية تعمد إلى إلقاء ملابسها فيما يشبه رقصة وثنية، إنها تصور أجزاء من جسدها لتنشرها في الفيسبوك. لا أحد يعرفها. حسابها مثل شخصيتها مسألة سرية. لم تتواصل مع أحد سواء في التعليقات أو في الرسائل. مع ذلك ينجح الكاتب بطريقة ما في رسم صورة عنها، ويبحث عنها من خلال شوارع المدينة، هذا غريب بعض الشيء، جنوني. كل فتاة يعشقها ينسبها لتلك التي عرفها عبر التواصل. هكذا حتى اعتقد بأنه عثر عليها أخيراً خلال حفل توقيع كتابه الذي هو مجرد وصف سريري لذكرياته مع العشرات من الفتيات اللائي أصبحن امتداداً لها. أتعتقدين بأنها نهاية خيالية؟”. سألتها باهتمام شديد. إنها نهاية هادئة بعض الشيء، ليستْ مثيرة. قالتْ وهي تطلع مباشرة في عيني.

“مثل الحقيقة؟”.

“مثل الحقيقة، تماماً”. قالتْ

“هل كان ليعجبك إن جعلتُ النهاية مشابهة لما نحن فيه الآن؟ أركض وراءك ومن ثم نجلس معاً على كنبة لنتحدث عن شيء مختلف، بدل الحديث عن الصور العارية على الإنترنت وهو موضوع اهتمامنا الفعلي، اهتمامنا الأدبي”.

“أعتقد بأنها ستكون نهاية معقولة”. عقبتْ بلا اهتمام حقيقي، إنما كان في تعقيبها ونبرتها حقيقة ساخرة للغاية، أحسستُ بها في كل حركة من حركات أصابعها النحيلة كما يمكن ملاحظتها ضمن أسلوب تحريكها لساقها. لم تكن تتحدث إلا بدافع السخرية الهائلة. أسعدني هذا للغاية. شعرتُ بأنني وصلتُ أخيراً لحقيقة نصي الأدبي. نهايتي الخاصة بي. روايتي لم تكن انتهتْ بعد. إنها غاية وجودي ككاتب.

أنت تعيش لأجل الواقع. تحريفه. قالتْ. ربما كل كاتب جاد يسعى لهذا الهدف الغريب. لا يمكن احتمال شيء من الواقع من دون منحه جانباً سحرياً، بالفن، بالأدب، أو بالأوهام. عشتُ ضمن كل صفحة من صفحات التي قرأتها من كتابك. الروائي كتب عن شخصية التقاها عبر الفيسبوك. ليس من أجل امتاع الجمهور بقدر ما هو رغبة في إخضاع الواقع المتخيل. محاولة إخراج المفترس من داخل الكهف. لو كنتُ مكانك لجعلتُ الفتاة تقترب من الكاتب. تجلس معه ويتحدثان عن أشياء أخرى. إنني أتفق معك حول هذا. ذروة الفن. شيء يبعث على الترنح.

عندما قالتْ هذا لم يكن أمامي إلا الاعترف. إنها رائعة. ابتسمتْ. مسحوراً بكل شيء فيها قاومتُ رغبة ملحة في سؤالها عن حقيقتها. لكنني حورتُ المسألة على نحو بدا لي عقلانياً، يليق بكاتب مغرور.

“لنفترض بأنكِ كاتبة، ماذا كنتِ ستفعلين؟”.

“نص يكتب نفسه. المسألة لم تتجاوز كونها مخطط غير منتهي لرواية في طور الإنجاز مثل التي أنجزتها مؤخراً. الصراع لأجل البقاء. طابع سياسي. محاولة الخروج من الإطار المرسوم. مواجهة قوى غامضة مترصدة. احساس دائم بوجود مؤامرة سياسية من نوع ما. لا يُكمن التوقف. الحركة دائمة. تأجج المشاعر. ماذا يُريد القارئ؟ كيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟”.

“كيف؟!”. تساءلتُ باهتمام. هدأ المكان في انتظار الإجابة.

“بإستعادة السيطرة على التفاصيل. بالرغم من كل شيء فإنه ليس سوى عالم من دمى، تسعى دوماً للتحرر من القيود التي تستشعرها. لا بد من شد الخيوط بين الفينة والأخرى، لتذكيرها بالسيد الحقيقي. أسلوب ساراماغو. تحدث عن هذا في مكان ما. هكذا تتضح المسائل. الشخصية تنسى أحياناً، الكاتب ينسى أحياناً. عُقد الذنب. محاولات منح الإرادة الحرة. استخدام زهرة النرد عدة مرات لتحديد المصائر. العوام الموازية. كاتب من الشرق يكتب عن كاتب من الغرب. في العالم الموازي كاتب من الغرب يكتب عن كاتب من الشرق. أنا وأنت. أنا كاتبة وأنت شخصية كاتب تحاول أن تبحث عن شخصية قررتُ جعلها تشبهني. إنني أعاني القيود، أود التحرر، كذلك أنت”.

قالتْ هذا بلا توتر ظاهري، بجدية مطلقة السلطة. تطلعتُ بصمتْ لشفتيها. كانتْ مزحة مضحكة بعض الشيء. ضحكتُ لقرابة الدقيقة فيما ظلتْ هي هادئة، تواصل النظر باتجاهي بتلك الحيادية المدهشة. عندها أدركتُ ما قالته.

“هذا مضحك. أنا شخصية كاتب. ماذا انتِ كاتبة؟ روائية؟ ألم أكتب عنكِ؟ أنت ترقصين من خلال الكاميرا تصورين نفسكِ، أجزاء منك، عارية”. قلتُ بتوتر الحقيقة.

“أنا جعلتك تكتب هذا، أنت كاتب ضمن روايتي التي أكتبها، أنت لا تعرف الكثير، هناك سرقة وقعتْ. مجتمع بلا أخلاقيات. ذنب قائم. أنت لا تعرف ما يحدث. أنا أعرف. أنت شخصية ضمن شخصيات روايتي ونحن لسنا ضمن حفل، بل في غرفة صغيرة في بيتنا، غرفتي التي استخدمها للكتابة”.

ضحكتُ مقللأ من خطورة حديثها فيما التزمتْ هي الصمت التام. اتخذتْ ملامح متحجرة بلا عواطف. عم الهدوء. هبطتْ العتمة. رفعتُ بصري. كنتُ ضمن غرفة صغيرة شبه معتمة. أتطلع بوجل من حولي دون ملاحظة أي شيء. كنتُ وحيداً للغاية. شعرتُ بالبرد في عظامي. ألم ممض. شعور غامض. وحدة عميقة. مشابهة لآلام الضروس. لأتأكد من وجودي حضنتُ ذاتي بقوة. ذراعي اليمنى بين فخذي الأيمن وكتفي، تلتف أعلى ساقي اليمنى باتجاه ظهري من الأسفل فيما تمركزت يدي اليسرى باحثة عن الدفء باتجاه صدري ونحو الأسفل. بقيتُ على تلك الوضعية أطول فترة ممكنة حتى كادتْ عضلات ظهري تتمزق. أرخيتُ جسدي قليلاً فصرتُ تائهاً ضمن دفء مشاعري الخاصة. عتمة كثيفة تدفقتْ فوق العتمة الناشئة من إغماض العينين. اعادة السيطرة على الشخصيات. شد الخيوط الخفية وتذكيرها بصاحب الكلمة العليا، بالسيد.

وجدتُ نفسي جالساً بصمت حقيقي. مقهى صغير ودافئ. حيث أكتب قصصي ومقالاتي القصيرة، فأنا بلا مكتب. مقهى شامي. التقيتُ بأب متحمس. ابنه الوحيد شنق نفسه. حدث هذا قبل أشهر. كان غاضباً تائهاً. كنتُ التقيتُ به في تلك الفترة العصيبة من حياته. مرتْ ستة اشهر. تبدل مزاجه. بمعطف جلدي. جلباب أبيض. ساعة ذهبية اللون. خواتم فضية لامعة. نظارة طبية بإطار عظمي أسود. ثروة من المال. جلسنا على ذات الطاولة. ابتسامة الباهتة. بدا أقل حزناً وما يزال ضائعاً ضمن تصوراته الشخصية. بلا شك يحاول فهم أشياء مختلفة لا يُمكن فهمها بسهولة. آنذاك وضع أمامي حقيبة مكتظة بالأوراق. تركها ابني. قال. شرح قليلاً عن الأسلوب الذي اتبعه في وضع حد لحياته. كان القمر مشرقاً. شاعري ومحزن. كتب عدة قصص. كان يعمل على رواية. أسلوب لاقى الثناء من بعض النقاد. لماذا فعل هذا؟ لم يكن تعيساً، كان مفعماً بالطموح. المقهى لم يكن يعمل به إلا مصريون. كنا نحتسي من قهوة أخذتْ تبرد. موسيقى هادئة كانتْ تنساب من مكان ما. البرد في الخارج وحركة السيارات. رواد قلائل. ليس مقهى شعبي. بعض ذوي البزات مستغرقين في أفكارهم الشخصية. ما الذي يجعل منه شامياً؟ الاستماع إلى فيروز مثلاً. تقول الأسطورة بأن بعض السوريين جعلوا منه ملتقى ليلي. حيث يتبادلون أخبار الوطن. نهارات شاقة في البناء. ليالي طويلة في الحديث عن التهديم الساري في بلدهم. جميعهم هاجروا. لسنتين وضعوا بصمتهم وهاجروا. البصمة البشرية. بدا الأب مصمماً. أريد تحقيق أمنية أبني. قال. لفعل ذلك فهو بحاجة لمساعدة روائي. أنت خياري الوحيد. قال. السبب بديهي. كنتُ متوفراً مثل الخبزة اليابسة. هذا لا يعني بأنني مشاع. فقط يعني إنني متوفر دوماً. يمكن الوصول إلى بسهولة. لم استطع يوماً التصرف ككاتب. لأنني لم أقابل كاتباً في حياتي. ارتبك أحياناً عندما يسألني أحد ما. أنت كاتب؟ أتجاوز عن النبرة، فأجيب بغمغمات تدفعهم للإستغراب من عدم إجادتي الحديث بطلاقة. أنا لا أتحدث بطلاقة. تطلع الأب في عيني مباشرة. أحسستُ ببرودة تلك الإبتسامة. كان مهتماً بنتاجك الأدبي. قال الأب. لا أحب كلمة نتاج. لكنني لا أقول شيئاً، كالعادة. قدم لي تلك الحقيبة المكتظة بالمسودات والقصاصات. المئات من القصاصات والصور الوثائقية بالأبيض والأسود. أرشيف شخصي لجانب المنسي من تاريخ المدينة. داخل شقتي – فيما بعد – بدأتُ بالفرز جيداً لكل محتويات حقيبة. كنتُ منهكاً من الداخل. كانتْ ليلة هادئة. احتفلتُ فيها مع رفاق من عالم الأدب حتى العاشرة ليلاً بدأنا بعدها ندخن بصمتْ على الشرفة المقابلة للشارع. أخذنا نتطلع معاً إلى الطرقات المكتظة بالسيارات والمارة. كنا ثلاثة. شاعران وأنا. وجدنا الضوء الهادئ المنساب بألق الذهب، بارداً كالروح. رفعنا أنخاباً عالية غطستْ في الضوء الخافت لنجوم متخيلة. بعد أشهر طويلة ومرهقة نجحتُ في إتمام روايتي. أعلنتُ بأنني أرسلتُها وتلقيتُ موافقة من دار النشر وإنني أفقر الناس في هذه المدينة وروحي عامرة بالإيمان. ضحك الرفيقان بثمالة وتحدثا عن الغرائب في نصوصي. تحدثتُ بإسهاب عن نصوصهما المجنونة والباحثة عن زمن وثني قديم. داخل غرفة مكتظة بالكتب والخشب. جلستُ على الكرسي. رفعتُ الحقيبة الجلدية ووضعتها على المكتب أمامي وبدأت بفتحها وأفراغ ما بها على الطاولة. كراسات مثل التي يستخدمها طلاب الإبتدائية. قصاصات من يوميات مرقمة مع خربشات بقلم الرصاص. لا بد بأنه ظل يتبع وصية أحد الفراعنة لا تلقي بأية ورقة في القمامة. العشرات من الصور القديمة المنسوخة من الحوليات والكتب الأجنبية. أوراق عليها كتابات بخط غير واضح. كانتْ الأوراق أمامي في تلك الليلة، قلبتها باهتمام أخذ يتصاعد مع الوقت، كانتْ تتضمن أفكاراً مألوفة بالنسبة لي جداً، سرعان ما أدركتُ بأنها أفكاري، ظننتُ بأنني حملتُ قصاصاتي، لولا أدراكي بأنني ختمتها داخل صندوق قبل أسبوع وأودعتها الخزانة. طاولتي كانتْ فارغة إلا من نص أدبي قصير عن تجربة ذاتية خلال إحدى الرحلات. انحنيتُ. وضعتُ رأسي على الطاولة. ظللتُ على هذا النحو لساعة كاملة. بطريقة ما استطاع شاب لا أعرفه الوصول إلى بعض قصصي ويومياتي التي لم أنشرها. أوضحتُ هذه المسألة ضمن مقالاتي ومذكراتي والتي نشرتُها عبر مدونتي أولاً وفي عشرات الصحف وخلال اللقاءات الصحفية لأقنع عدداً من الصحفيين الغاضبين. كنتُ واضحاً في إجابتي دوماً ولشدة وضوحي روج البعض بأنني كتبتُ رواية أخرى أكبر حجماً وإنني جعلتُ من نفسي شخصية مستوحدة في مواجهة العالم الواقعي. هذا الأفتراض أضحكني حتى الإغماء خلال ليالي الأنس. كم كان مؤسفاً إنني فقدتُ أصدقاء جيدين بسبب هذا الضحك والاستهزاء في وجه كل من يفتح هذا الموضوع. كنتُ أشعر بالرغبة في البكاء تنتابني من الأعماق إلا إنني أرغب أيضاً في الانتقام من الأغبياء الذي أحاطوا بي لفترة ليستْ بقصيرة من الزمن بحيث أضعتُ كثيراً من الوقت عليهم. كان يمكن أن يكون مهماً بالنسبة لي خلال مسيرتي الأدبية التي كانتْ بدأتها للتو، آنذاك. لن يدركوا ذلك أبداً ولن يعتبروا أن شيئاً مهماً حدث. هذا ما قلته خلال لقاء صحفي. عقلي يُردده خلال ساعات الملل.

“مضى وقت طويل“. قال الأب وهو يرتشف من فنجان القهوة. بدا صلباً وشجاعاً للغاية.

“مكتظ جداً، مضى ببطء“. قلتُ وأنا أتطلع في ملامحه المحايدة.

“هل نجحت في ترتيب الأوراق؟“. سألني بابتسامته الباهتة، فظهر لي بأنه فقد شجاعته، وحان وقت المواجهة.

“هناك مشكلة!“. أوضحتُ وأنا أواصل النظر في عينيه.

“مشكلة؟! – تساءل بخفوت وهو يضع فنجان قهوته فهززتُ رأسي بإيجاب – ما هي؟“.

“الأوراق التي تركها ابنك“. قلتُ بشيء من الغضب الدفاعي. أخذ الأب يتطلع نحوي باندهاش فأشحتُ بوجهي باتجاه البوفيه. النادل كان ينظر إلينا. أخبرته بأن النصوص التي نشرها هي نصوصي التي لم أقم بنشرها أبدا. الأوراق التي تركها ليستْ إلا مسودات لمئات من القصص التي كنتُ أزمع كتابتها ومن ضمنها أجزاء من مذكراتي الشخصية وبعض القصاصات من يومياتي أعاد كتابتها بخط يده. قلتُ هذا وعدتُ أتطلع باتصال في عيني الأب لأتفحص وقع ما قلته. بدا متبلداً لأبعد حد كأنه لم يسمعني جيداً. أعدتُ عليه ما قلتْ وأردتُ أن أشرح له ما حدث بشكل أوضح تماماً مثلما فهمته.

داخل غرفتي جلستُ على الكرسي. حملتُ الحقيبة الجلدية ووضعتها على مكتبي وبدأت بفرزها وأفراغ ما بها. بسبب الشرب، كنتُ مترنحاً للغاية. يحدث أحياناً أن أنجز فصولاً كاملة وأنا على هذه الحال، تفادياً للشعور الدائم بالفشل والحزن الروحي. الكأبة. الأسباب كثيرة. لم أضاجع فتاة منذ سنة تقريباً كنتُ أشعر بأنني مستهلك من الداخل. تنتابني الوساوس. الرغبة في حدث جسدي عنيف. روحي في حالة ممتازة وجسدي ينتهي بي إلى الجنون. كنتُ واعياً لقراري. واعياً جداً كنت. عايشتُ تقلبات إنسان لم يضاجع أي فتاة في حياته إلا في مخيلته. تجارب معتمدة على الأحلام والأفلام وهامش مضحك من خلاصات جمعتها عن قصص الآخرين. كنتُ واعياً لدرجة إنني أصبتُ بالأوهام بهدوء بالغ الشاعرية ولم يعد أمامي إلا الجنون. قبل أن يحدث أي شيء من ذلك بشكل كامل كنتُ انهيتُ كتابي. دوماً كانتْ لدي مشاكلي الخاصة. لم أتوقف يوماً عن محاربة هذه المشاكل. هل هذه سلسلة اعترافات أم خبث شرق أوسطي لتملص من أحكام؟ أستيقظ صباحاً. حين لا أكون ملتزماً بكتابة شيء، وهو أمر لا يعني أنني أحظى باحترام الموظفين، فالكتابة لا تعني للآخرين إلا إنني أمتلك وقتاً كافياً لأضيعه على اللا شيء. إنني أتحدث من حيث إنني ضمن مجتمع حقيقي، لا يمتلك سبباً ليولد من أجله أي كاتب. قم غداً وأقتل جميع الكُتاب خنقاً لن تجد أي تغيير في أي بقعة من هذا المجتمع القائم على اللا خيال. إنني أغالي هنا بلا شك. نحن جميعاً، قال أحد الرفاق، لدينا كتاب واحد، لدينا هذا اليقين الكافي، لن نحتاج لأي كتاب آخر مهما بدا مهماً أو إدعى إنه كذلك. فكرتُ في اللاجدوى المتعلقة بترتيب نصوص كاتب مغمور غير معروف، فضل أن ينهي حياته مبكراً. لم يتغير شيء في الوجود ولن يتغير. أعتقد بأن هذا هو السبب الذي يدعو الأب لمحاولة نشر كتاب ابنه. رغبته المجنونة في تغير شيء. من هذه الناحية كنتُ على يقين بأن مسعاه غير أصيل وبلا أي معنى. الكُتاب عادة هم مظهر مستقبلي. هناك أشخاص يفتخرون بأجدادهم الذين كتبوا نصوصاً قبل ستين سنة. سواء أسهموا في تأسيس صحيفة أو العمل ضمن وزارة ثقافية أو داراً خاصة للنشر. مدعاة للإفتخار سببه سياسي. عدا هذا الكاتب لا شيء. لم أرد أن أخبر الأب بأن مسعاه بلا معنى حقيقي، فمن الأفضل له أن يحتفظ بقصاصات ابنه، بدلاً من العمل على جمعها ضمن كتاب قد يُستخدم ضد تاريخ الابن بالذات، ولأنه ابنه الوحيد، فلا أمل في أبناء أخ أو أخت أو أحفاد ليتمكنوا من خلاله حيازة مناصب سياسية. صداع يتوجب التخلص منه. كانتْ الأوراق أمامي في تلك الليلة، قلبتها باهتمام أخذ يتصاعد مع الوقت، كانتْ تتضمن أفكاراً مألوفة بالنسبة لي جداً، سرعان ما أدركتُ بأنها أفكاري، ظننتُ بأنني حملتُ قصاصاتي، لولا أدراكي بأنني ختمتها داخل صندوق قبل أسبوع وأودعتها الخزانة. طاولتي كانتْ فارغة إلا من نص أدبي قصير عن تجربة ذاتية خلال إحدى الرحلات. انحنيتُ. وضعتُ رأسي على الطاولة. ظللتُ على هذا النحو لساعة كاملة. بطريقة ما استطاع شاب لا أعرفه الوصول إلى بعض قصصي ويومياتي التي لم أنشرها. كنتُ أعلنتُ عن سرقة أدبية غامضة في ذلك المقهى الشامي.

“أنت تتهم ابني بالسرقة“. تمتم الأب. هززتُ رأسي بالإيجاب، كنتُ قاسياً.

“ماذا تعتقد بأنني أفكر في هذه اللحظة؟“. سألني بهدوء تام.

“لا أدري، لكنه ليس بالأمر السهل“. قلتُ شاعراً بأنني لا أزال خارج وعيي.

“أيها الكاتب، أنت الشخص المفضل بالنسبة إليه“. قال وهو يضم يديه كمن يشرع في صلاة كنسية.

“لا أمتلك تفاسير كثيرة لما حدث، لدي تصورات“.

“تعتقد بأن تصوراتك تهمني، أنت تسرق ابني“. قال بصوت غاضب، مرتفع وكان الأمر باعثاً على غضب مماثل. شعرتُ بأنني انتهيتُ أخيراً من مرحلة لأدخل مرحلة أخرى، وتوجب علي أن أكون منتبها. حافظتُ على هدوئي، لأجل هذه اللحظة سافرتُ لأشهر. كونتُ جميع حججي المنطقية. شكلتُ عالماً حقيقياً من الحجج. لم يخطئوا. سطرتُ رواية كاملة بلا ورق، ربما الأفضل في كل حياتي المهنية. وهو ما واجهني به أحد أبرع المحاورين في عالم الأدب. كنتُ درستُ شخصيته بالذات، باعتباره أسوأ ما قد أتعرض له. الخيال أفضل منحة إنسانية، وهو مجالي. خلال اللقاء كنتُ متضايقاً بسبب الإضاءة الشديدة. جلستُ داخل كثير من الإستديوهات خلال جولات الحديث عن رواياتي السابقة. تعرضتُ لمختلف أنواع ألإضاءات. كانتْ تلك أسوأها على الإطلاق. أحسستُ كأن شمساً تُشرق فوق جبيني. لم تكن بريئة بالمرة. كان يتوجب علي أن لا أتعرض للتعرق حتى لا يعتبروا بأنني أصارع داخليا ًأو إنني أفقد السيطرة على أعصابي وضعتُ تخطيطاً كاملاً بشبكة معقدة من التصورات الخيالية لأجل تحطيم أي مواجهة قد أتعرض لها مستقبلاً. شعرتُ في كل لحظة بكل ما يمكن أن يقع. بمرور الوقت، هنأتُ نفسي على كل ما فعلتْ. كيف يمكن لإنسان أن يُبعد عن نفسه تهم سرقة نصوص الآخرين؟ في حالتي لم يكن صاحب النص المفترض حياً، هناك والده.

“لن أسكت أبداً، أنت تعرف هذا“. هذا ما قاله بضبط، بنبرة شبه يائسة.

“أعرف، ولن تكون أباً حقيقياً إن سكتْ“. قلتْ بجدية بالغة.

“لماذا تفعل هذا بابني؟“. سأل.

“لن أكون كاتباً حقيقياً إن تنازلتُ عن نصوصي“. أوضحتُ كما ينبغي.

“ماذا يعني هذا؟“. تساءل.

“لن أتنازل عن نصوصي حتى من أجل فتى ميت“. كنتُ قاسياً لسبب لا أفهمه.

“لكنك تعرف بأنها ليستْ نصوصك“. قال وهو يدق بيده على الطاولة.

“ما أعرفه جيداً هو إن كل فكرة ضمن تلك القصاصات هي من أفكاري الشخصية. وضعتها خلال فترة مرهقة من حياتي. بعضها امتداد لنصوص نشرتها بالفعل، بالتالي هي ملكي بلا جدال. بوسعك اللجوء إلى أي شخص يفهم هذا. إنني مندهش فعلاً حتى النصوص التي نشرها ابنك هي ملكي. بوسعي إثبات هذا بسهولة وسأفعل ذلك في أقرب فرصة. لا يمكنني التساهل حيال هذا. لأنها نصوص تُشكل مشروع أدبي متكامل في رواية ضخمة. أعلمك بأنني أنهيتها وستكون في الأسواق خلال شهرين على الأكثر. رواية تؤكد بأنني لم أتساهل مع سرقة أدبية قام بها ابنك. تمنيتُ أن يكون معنا. لأفهم كيفية فعله لهذا. قضيتُ وقتاً طويلاً حتى فهمتُ ما حدث بضبط“.

“ماذا فهمتْ؟“. سألني.

“أفضل أن أحتفظ بهذا لنفسي“. قلت.

“ما هو موضوع روايتك؟“. سألني.

“لن أخبرك حالياً، في النهاية ستعرف كل شيء“. قلت.

“أنت لا تترك لي مجالاً، وإنني أحادثك أخلاقياً“. هكذا قال. عندها قام معتدلاً، تطلع طويلاً نحو النادل الذي مر بالقرب منا. فاحتْ رائحة النعناع بقوة. تطلع في وجهي ورايتُ إنساناً محطماً حتى النهاية. عيناه زائغتان. كتل العرق منبثقة على وجهه. عرق ضخم متصلب ظهر بنتوء وسط جبينه. رفع أصبعاً في وجهي. كنتُ جهزتُ نفسي لأي رد فعل ولم أكن أدع نفسي للانفعال أو الغضب. لكنه لم يتكلم، لم يفصح عن أي شيء. تطلع في وجهي بإمعان التفت بعدها وغادر. جالساً في المقهى لوحدي. استعدتُ ما حدث. مرة. مرتين وثلاث في كل مرة وجدتُ نفسي واضحاً أشد الوضوح. لم أتكلم أكثر مما ينبغي. سأتكلم بيني وبين نفسي من الآن وصاعداً حتى أنتهي من هذه القذارة. سأتحدث حتى بعد نهايته وسأكتب بوضوح شاعري ضمن مذكراتي لأواصل التحدث حتى بعد وفاتي.

أثناء حفل ثقافي اقتربتْ مني قارئة تريد توقيعاً على نسختها من رواية “الفتاة”. لم تخبرن باسمها. تحدثتُ في الرواية عن تأثير فتاة استعراضية بكاتب مغمور بإستخدام حيل فنية متحررة ضمن مجتمع محافظ محكوم بالشك والإيمان. وقعتُ على الكتاب متفاجئاً، إهداء بلا اسم “إلى قارئتي المجهولة” وما إن نظرتُ إليها وأنا أمد النسخة الموقعة من الكتاب حتى لمعتْ عينيها ببريق عرفته جيداً، سرعان ما لاحظتُ الغمازتين في وجنتيها. ظللتُ أتطلع إليها وهي تغادر دون أن أكون متأكداً من شكوكي السرية. القميص بالتربعيات الملونة، سروال جينيز الضيق. اللمسة المدرسية التي بدتْ واضحة جداً لكنها محسومة ضمن مؤخرة باهرة تبرز بأناقة. بدتْ أمازونية منتصرة مثل أغلب بطلات تورنتينو. بدتْ بأنها عرفتني بسبب تلك النصوص، ربما ستعرفني مجدداً بسبب هذا النص، لتدرك مدى تأثيرها فعلياً في تفكيري. بالرغم من التيه ضمن الرغبات وجدتُ نفسي أضحك بصوت مرتفع كأنني سياسي وجد حلاً لمعضلة أرقته طويلاً! لم أكن أبحث عن المجانين عبر مواقع التواصل، إلا إنني كنتُ أتابع فتاة تُسمي نفسها بأماني. في ذهني رسمتُ لها صورة تقريبية، إنها في آواخر العشرينيات، متوسطة القامة والوزن، ذات بشرة حنطية تصورتُ بأنها تحب ارتداء القمصان المخططة وذات التربيعات الملونة. شيء من المدرسية متأصلة فيها. سراويل جينيز الضيقة من الأسفل تعبر بها عن توقها الجنسي، لحد ما إنها مجنونة بوسعها أن تسألني في وجهي إن كنتُ استهبل عندما أدعي عدم الفهم. لا أعرف لماذا أقول هذا! الإنسان لا يستيقظ من ذكرياته المحزنة أبداً. غالباً ما تكون قاعدة لبقية حياته. يقيس بها تصرفاته المستقبلية. لكن بالرغم من هذا فإن بوسعها أن تُظهر تصرفات حميمية للغاية، ربما تبكي علناً مثل أي طفل بسبب عشق ما طارئ أو فكرة غامضة في رأسها. قد تتساءلون ما الغريب في هذا، فأغلب فتياتنا عاطفيات يهمن ويتبدلن بسهولة تبدل الأيام. هناك قول ليس شائعاً يُحذر من جعل النساء حاكمات لأنهن سيقتلن رجلاً كلما اهتزتْ خصلات أصداغهن. هذا قول همجي غريب مثل أغلب أقوالنا. ولقد ندمتُ فور تفكيري على هذا النحو، لأنني لا أفكر هكذا عادة. دائماً ما كنتُ أبحث عن زاوية جيدة مضيئة. إنني نموذجي حيال هذه الأشياء ومحدد الآراء أيما قد يعني هذا. دعكم من حديث الذكريات مؤقتاً ولنعد للحديث عن أماني، فهي على غرار أطفال منتصف الليل، تعمل بالتوالي على تصوير أجزاء من جسدها ونشر الصور بشكل منهجي. جزء كل فترة متعمدة التشويق والإغراء غدتْ كأنها فترات بلا زمن. لا يعني هذا بأنها ذات نزعة إباحية حمقاء أو إنها عاهرة. لنقل بأنها تمتلك روحاً فنية. فنانة من عالم الطفو. مؤخراً أدركتُ جيداً بأنها قد تُمثل وسيلة إعلامية تؤسس لنفسها مكانة لغاية سياسية مبررة بلا شك. كان هذا مدعاة للإحباط. قبل ذلك كنتُ اعتبرتها نافذة صغيرة تخص مركزاً للأبحاث المتخصصة باهتمامات الشعب خلال ثورة الاتصالات والفوضى الخلاقة. وفي إحدى الليالي حلمتُ بأنها كانتْ مجرد شاب متلاعب يشعر بالملل أو إنها مجرد برنامج حاسوبي ذاتي العمل يستخدم البيانات المتطرفة مع صور المثيرة للجميلات من أجل توجيه الرأي العام. كانتْ دوماً تقودني لأفكار سياسية مغلفة بهالة فنية براقة مثل ورق السوليفان تغطي حلوى فردوسية، ربما كانتْ تدرك هذا وبوحي من الإدراك نفسه بدأت تُغري بشكل واعي جمهوراً خفياً، ممثلة على مسرح ليلي داخل حانة منزوية، تلقي تباعاً بقطع من ملابسها، أشبه بتلك العروض التي كانت تؤدى ضمن المعارض الباريسية خلال العشرينيات، دوماً كنتُ مسحوراً بتلك الحقبة الجميلة، مؤخرات ذات ريش هائل ناصع البياض. الأفخاذ العارية اللامعة. ألعاب الإغراء ورقصات الليلية. تيقنتْ من هذا حين نشرتْ في إحدى المرات عظم ترقوتها مع جزء باهر من عنقها الأهيف كالغزالة. كنتُ عندها أعاني من موجة اكتئاب حادة، فور رؤيتي لتلك الصور تتلاشى أحاسيس الإكتئاب. شعرتْ بدفء ذراعي صاحبة العنق تحيطان بي. ولأنني كاتب مكافح أبدعتُ في تلك الليلة أفضل أشعاري. استلقيتُ للوراء راضياً حتى أهضم تلك التخمة العاطفية. وفي اليوم التالي كتبتْ منشوراً عن حزب ديني. كانتْ ضده تماماً. هالني جداً إنني أكره هذا الحزب الوضيع. أعني لماذا يوجد حزب مثله؟ اللعنة عليهم! وفي يوم آخر نشرتْ صورة لعقب رجلها الأيمن مصقولاً وناعماً كان بمثل استدارة قاع مزهرية خزفية تكاد تورق عشقاً. ربلتي ساقيها كثمرتي إجاصة. هل يقضم منهما أحد؟ هكذا تعلمتُ الكراهية السياسية! خرجتُ من فردوس سلامي، ظللتُ لأسابيع لا أتفحص الأجزاء المكشوفة فحسب، بل أبحثُ عن أي دليل لوجود شيء آخر قد يظهر خطئاً ضمن الصورة. أحاول ذهنياً ربط الصور ببعضها من أجل التوصل لصورة كاملة. ملاحظات ثلاثية تزداد تعقيداً كلما واصلتُ في هذا الاستغراق تأخذ كراهيتي للأحزاب الدينية بالإزدياد، دون أي سبب مقنع، فهي على كل حال تسعى لتجريدي من فردوسي الأخير. كنتُ بدأتُ أرى لمساتها في كل مكان. حساب باسم مستعار على مواقع التواصل، حدث سياسي ولم تعد تستخم أساليب إغراء تقليدية، بل أصبحتْ مع السنين قادرة على الإغراء باستخدام الكلمات السياسية ذات التوجهات الإقليمية. عندما نشرتْ صورة ضبابية لعينيها العسليتين بتلك الحمرة المنبعثة من إنعاكس إضاءة الكاميرا على الألوان المحيطة، رأيتُ بوضوح المصير النهائي لوجودي. كنتُ بدأتُ أنشر خلاصات عن الكتب السياسية التي إنهي قرأتها. لم أكن أهتم كثيراً بغير هذا، إذ ليس لدي حسب علمي أي ميول جنسية منحرفة. لا أهوى التلصص ولا تثيرني رقصات التعري إلا بقدر ما تفعل بأي رجل غيري، بالرغم من ذلك وجدتني أنتظر بشغف الصورة التالية متصوراً بأن الحياة تسير على نحو رائع وغامض. العلم الحديث انتهج في مسيرته نفس الأسلوب. أقنعتُ نفسي. اكتشافات صغيرة شكلتْ فيما بعد الصورة النهائية. جزء من المسألة بالنسبة لي مثلتْ تحدياً علمياً. لا يمكنني إدعاء غير هذا. الوصمة البشرية المتمثلة في تمازج الفن بالسياسية بالرغبات الجنسية. التوق الهائل لجسد كامل بهبات لا نهائية، دمية تظل ممتعة حتى ليظن المرء بأنه لن يصل أبداً للسأم. فقدان السيطرة على مجريات العملية شبه الجنسية بسبب من ضعف الشخصية. هل هذا حديث خرافة؟ أعرف شخصاً بدأ يحادثني عبر الفيس بوك ليلة دخلته. ماذا تفعل؟ سألته. أظن بأنه يتوجب عليك أن تنشغل بشيء مختلف تماماً. ماذا قال؟ تود أن تعرف، حسناً، رد بضحكة من سلسلة هاءات ممدودة ولم يُجب. الوصمة البشرية. كنتُ واعياً بها فيما أخذتُ أجمع تلك الصور المتعلقة بالوجه. العينان بحمرتهما المضللة. قمتُ بتنقيتهما في ذهني. الوجنتان. الغمازتان رائعتان. الشفتان بدتا منتفختين وناضجتين مثل الفراولة الجاهزة للقضم. فوجدتُ في ذهني صورة نمطية لفتاة يمكن أن تكون موجودة في كل مكان. لذا أهملتُ المسألة تماماً ثم حدث ما حدث بعد أشهر عديدة. رأيتها تخرج من القاعة المشتعلة بالرغبات.

مقالات ذات علاقة

قصة قرصة

عبدالرحمن جماعة

النمل

المشرف العام

إنها مجرد ورقة.. (Un pezzo di carta)*

المشرف العام

اترك تعليق