ما زلت أذكر ذلك اليوم وأنا أمشي في شوارع كازابلانكا بصحة صديقي المرحوم “خالد بن سلمه” حين انسلخ كعب الحذاء الذي انتعله. خرجنا مساء من معرض الكتاب وانعطفنا على اليمين وأخذنا الشارع الفاصل بين المعرض والجامع الكبير (أظن اسمه جامع الحسن الثاني)، مشينا مسافة حين وقع كعب الحذاء وضحك خالد وقال لي هذا هو حال مَن يترك المقولات ويتبع الكتب والكتابة. رفعتُ قدمي اليمنى التي صارت بلا كعب وأوقفنا تاكسي ليضعني عند أول محل أحذية، وهناك تركتُ القديم واشتريتُ هذه الماركة الجيدة التي صمدت حتى اليوم.
أخبرتُ خالد وقتها بأن الأحذية هي أيضاً لا تعلم الغيب ولا تدري بأي أرض تمشي ولا تدري بأي أرض تموت. إذ ماذا يا خالد لو أن رجلاً أوربياً سبقني واشتراه وذهب به ثم جئتُ أنا واشتريتُ حذاء آخر! عندها –على الأقل– سوف يمشي هذا الحذاء بأرض أخرى فيها أرصفة وعشب، وعندها سوف تنتعله قدم أخرى لا تركل العلب الفارغة ساعة تغضب.
ليس في هذا الحذاء الكثير اليوم، صرتُ مؤخراً أجد فردة منه وقعت خارج دولاب الأحذية ولا أعرف إن كان مَن في الداخل طردوه أو دحروه أم أنه ينتظرني، وكنتُ أمسحه بكفي وانتعله وأمضي به إلى الرملة.
ما عاد يصلح للخروج أمام الناس. تآكل وشحب لونه، وصرتُ أظهر به فقط في المساء للرملة. أخلعه على أطراف الغرد وأمضي حافي ثم أعود بعد المغيب أجده رابضاً ينتظرني في مكانه. أعرف أن منظره حتى داخل دولاب الأحذية بات غير مقبول، وأعرف أن طفلتي “نور” التي ما انفكت تسألني هل تضعه في البرميل؟ وكنتُ أجيبها أنه ما زال به عام آخر – أعرف أنها قد ترميه يوماً دون إذن مني. لكن لا أعرف لماذا يراودني شعور أن الأحذية ليست كالبنطلونات والقمصان وحتى ليست كساعات اليد التي نقتنيها.
الأحذية شيء آخر يقودنا ونمشي به وينعطف بنا على اليمين أو يمضي ولا ينعطف، أما البنطلونات والقمصان والساعات أشياء نقتنيها ولا نمشي بها ولا حتى تدري هذه البنطلونات إن كنا انعطفنا بها على اليمين أو على اليسار. مثل هذا الشعور تضخم أكثر مع حذاء كازابلانكا يوم صرتُ أشعر أن على مقدمة هذا الحذاء معقود أمل كبير حتى وإن تآكل اليوم وما عاد فيه الكثير.
بعد غياب دام طيلة شهر رمضان عدتُ قبل يومين أو ثلاثة للخروج –كما هي العادة– إلى الرملة صحبة كتاب في المساء.
كنتُ أعلم أن هذا الانقطاع سيكون له أثره، وأعلم أن القراءة ليس فقط عادة بل هي ايضاً لياقة كما الرياضة، وأعرف، ولم أفاجأ حين بدا واضحاً على جسدي الكسل وانعدام الرغبة في القراءة والهروب بعيداً عن صفحات الكتاب فلم أقرأ يومها سوى صفحتين ثم وضعتُ الكتاب جانباً وصرتُ أتتبع خنفسة جاءت وأخذت دورة كاملة حولي وذهبت. جاءت بعدها خنفسة أخرى أصغر حجماً وجاء طير يطارد أنثاه ووقفا على جدع نخلة تقوست وماتت منذ أكثر من عشر سنوات.
أنا طبعاً لا أعلم لماذا لا يقع النخيل بطوله كعمود كهرباء على الأرض ويموت، لماذا أكثره يتقوس ويفرش ضفائره على التراب ويموت؟ ولماذا يأتي الطير ويقف على هذا القوس؟. كنتُ أنوي أن أتعمق في تفكيري لماذا يفرش النخيل ضفائره على التراب قبيل الموت بأيام كما لو أنه نساء تندب؟ هههههه ضحكتُ بعدها بصمت أسخر من نفسي ومن هذا الهراء الذي لا معنى له!
صرفتُ الهراء عن بالي ولم أتحرك حتى لا يجفل الطير، وتسمرتُ تماماً في مكاني أنظر له ولم أحرك حتى أصبع قدمي حتى لا يشك في أمري، في حين طفقت الانثى تنظر أكثر وتعود وتنظر إلى ذكرها، قلتُ في نفسي، لحظتها، لا بد أنها تتساءل إن كان هذا الرجل حياً أم ميتاً؟ وقلتُ أيضاً أنها ستقول أن هذا الرجل، هو الآخر، ربما يكون مات كما النخيل هنا. أنا أعرف أنثى هذه الفصيلة من الطيور وحتى أحبها أكثر من كل طيور “سمنو” القرية الملقاة بالجنوب. هذا النوع من الطيور هنا يظهر أكثر في المساء ونسميه “التبير” وليس “التيبر” فالتيبر طير آخر لكن هذا له ذيل طويل يترك أحياناً أثراً خفيفاً خلفه ساعة يجري، وله صوت أيضاً طويل يرسله برتم ثابت لأخواته، لكن هذه الأنثى وذكرها استخدما أمامي لغة الإشارة وهما ينظران لي ويعودان ينظران لبعضهما، وربما الآن سيبكيان حين يظنان أنني متُّ من العطش كما النخلة التي يقفان فوق قوسها، وأغلب الظن أنهما سيلعنان فكرة النهر الصناعي الذي أخذ الماء وذهب به بعيداً عنهما وعن النخيل إلى حدائق ومحطات غسيل السيارات في طرابلس.
_______________________
الفصول الأربعة، العدد 120 – يناير 2019.