وحيداً في هذا الامتداد الرخو كقطرة على سطح لا نهائي من الإسفنج الجاف .. تغوص قدماه في ليونة الكتيب المنتفخ كأثداء امرأة ضبابية .. تتوجع الطبقة الرقيقة تحت حذائه الطويل العنق .. يشتعل الدم في شرايينه تحت سطوة اللهب، فتظهر الرؤى القديمة سراباً يحمل مفاتيح الصحراء . لم يكن يتصور هذا الاتساع الهائل، ولا هذه المساحات المقوضة من الفراغ والعزلة والصمت .. سماء شاهقة ليس كما في قريته .. بعيدة جداً هنا … مضرجة بآخر قطرة من الزرقة .. صافية كسطح عملاق من الثلج … عند الأفق تبدو ملتحمة بالأرض، تعانق الرمل كصحن كوني مقلوب، تتكور الفقاعة حوله … تنبجس طحلباً لزجاً يسكب السم في أعماقه . يسأله الرمل عن حكايا الزمن القديم .. عن الأمراء المخصيين ودماء الحلاج، وأشياء أخرى ماتت في الذاكرة من زمن المماليك ودولة الغلمان .. عندما يستلقي على ظهره لا يرى إلا الامتداد الأزرق يحيط به في سكون رهيب كان هو المركز لهذه الدائرة المكورة .. لا شيء غيره .. وحده يملك هذه المساحات المفخخة .. نقطة على حافة القحط والجفاف البدائي، يتحرك كالسوس في خشبة ميتة .. صمت وعطش وزرقة مخيفة .. لا شيء غير الرمل .. امتداد أصفر وبني ضارب للحمرة .. الألوان الغسقية تنسج هذا البساط، وتتداخل لتكون منظراً وحشياً لم تألفه نفسه .. يتكرر اللون مع كل خطوة يخطوها .. يسيح عبر هذه اللوحة الكونية كقطرة تتلاشى في عمق اللون .. تتشربها مسام اللوح العطشي … تعبث بها شعيرات خشنة … إنها الريح في هذا العراء الأجرد .. إنه زفير المقصلة حول عنقه .. هو النسيان الأبدي .. الوحدة المدمرة .. الصمت يحفر ذاكرته الملطخة بنسغ البراعم وغبار البارود، وشهقات الزهر، يغوص في مسارب الريح والفضاءات العذراء، وحكايا قابلة للاشتعال .
تنتقل خطواته ثقيلة بطيئة، تخترق بكارة الرمل … تختلط الأفكار داخل جمجمته المشحونة بالحصى والحبيبات الملونة والجفاف .. بابتهالات الجسد المتدثر بالخطيئة ودم الولادة الأولى .. منذ أن ترك آخر بقعة تعجّ بالحياة أصبح يستكشف ذاته .. أمسك بشعاع نفسه المتعبة في طين جسده .. في عمق البئر النتنة التي يحملها بين أضلاعه .. اكتشف أنّ الرمل ينتشي بحباته العصية، وأنه يتقن سحر التغلغل في فوضى الجسد، اتساع الضوء يخيفه … يجعله يشعر بضرورة وضع يده على فتحتي عينيه، يقلل من تسرب الرمل إليهما .. الألوان تتجرد في عينيه، صارخة على كتف الفرشاة كامرأة من ضوء تتعرى للفراشات .. إنها ألوان التكوين القديمة.. ألوان البداية الأولى التي زينت ثوب الرمل .. إنها السر الأعظم لهذا الجزء المبعد .. رسم عليها الزمن متاهات قاتلة .. شراكاً تمتد داخل الإنسان .. تسكن دمه وتختبئ لتصطاد غزالة فرَحِه .. قشعريرة تجتاحه إلى حد الإغماء .. إلى حد اختلاط أفكاره وانسياحها عبر هذا الحطام .. تستيقظ في داخله الدماء المسفوحة على حافة النصل، يكتب مرثية الجسد .. على رأسه عبرت دمعة إلى غرف القلب .. سقطت الشهب في الأعماق فاحترق العشب الأخضر في البقعة المستباحة .. أشلاء مذعورة تنتفض من سكونها، الدماء تيبست على شفاه الجرح . تنتظر ينبوعاً كي تغتسل من جفافها، كامرأة جاءها الطلق والمدية بين العنق والأثداء .. بين الرحم والحبل السري .. بين بسمة الزهر وبكاء طفل ساعة الميلاد .. تتفتق أودية النار عن الشظايا البشرية، تحمل هاجس هزيمتها وهذيان الموت .. أفق القيامة المضرج بالأنين والمستحلب الساخن معلق بين كيمياء الوطن وبخار المدن المستباحة .. تختزنه الذاكرة المشوشة .. يعود الصمت عالماً خصباً بالوحدة القاسية كحافة لوح زجاجي .. كطلقة غادرة تشتت رفيقه .. قطع الدم الجاف تتكون في حلقه … يحاول أن يبصقها .. لكنها أصبحت جزءاً من لحم فمه … حلقه يمتلئ عفناً .. أعضاءً من جسد رفيقه المسجّى .. إعصاراً حامياً .. دوداً يلتهم داخله . طعماً غريباً مازال عالقاً بلسانه، كالأنشوطة .. أيام ثمانية لم تغادره تلك الرائحة من اللحم المتفحم .. طعم الفجيعة يطارده .. يرحل في برزخ ذاكرته المحمومة .. ريح عاتية تزرعه مع الحصى في نعومة هذا البساط المخيف، الذي لم تطأه قدم غيره . لا شيء غير التفكك وانثيال الأشياء من رأسه كنزيف أبدي … وحيداً يقضم خبز المتاهة … الريح تمنحه كفناً من البراعم البرية والشوك المسنن حتى يدخله ساعة القطاف .. لعلها أزفت فقد خيّل إليه أن جسده تحول إلى صخرة تتدحرج في هوة سحيقة .. هل دمه صار خارطة لفوضى العبث ؟ أخذ يصرخ .. يعلو صراخه إلى الأفق… هل هو صوت امرأة تغني مواويل العشق لفارسها المصلوب ؟ .. هل صوته تعويذة للفجر الغائب في زمن الردة ؟ نسي أنّ له صوتاً كطيران القبرة على حقول القمح … الصوت الوحيد الذي كان يتفرد في أذنيه هو طقوس الرمل تحت حذائه … الطين ينشد للنصل المتجرد في الأعماق .. للزهر الذي أعطى نسغه ببراءة .. للكف المخضب بنجيع السهول وأهداب الأقحوان .. لكنه في اليوم الثامن اكتشف أنه ملّ لعبة الصراخ، فوضع حصوات تحت لسانه واستسلم لصمت الرمل ..