بقلم وعدسة: زياد جيوسي
لا تزال عمّان ترتدي حلة الصيف، ولا يزال الأردن الجميل يتزين بالثقافة والفنون والإبداع، فمن مهرجان “الإبداع الطفولي” إلى أمسيات شعرية وأدبية شبه يومية، وصولاً للمعارض الفنية التشكيلية سواء المعارض الجماعية أو الشخصية، بحيث أن برنامج المتابع يضيق عن إمكانية الحضور لكل هذه الفعاليات، ومن طرفي أحاول جهدي متابعة وحضور ما يمكنني متابعته من هذه الفعاليات، ورغم كل متابعتي أكتشف أن الكثير من هذه الفعاليات قد فاتني، إما لأني لم أعلم بها، أو لتضارب المواعيد، أو لظروف اجتماعية تفرض نفسها عليّ أثناء تواجدي هذه الفترة في عمّان.
جبل “اللويبدة” يرتبط بذاكرتي بكل ما هو جميل منذ مرحلة الشباب المبكر، وحين وجهت لي الفنانة التشكيلية الشابة “أسيل عزايزة” الدعوة لحضور معرض النهضة التشكيلي في “جاليري إطلالة اللويبدة”، اعتذرت عن حضور الافتتاح لانشغال لا مجال للاعتذار عنه، فشددت الرحال في اليوم الثالث بعد أن أخذت العنوان، فزرت رابطة الفنانين التشكيليين التي كانت تستعد للانتخابات ولم أكن قد زرتها منذ سنوات طويلة، ومنها إلى “جاليري اللويبدة” الذي أزوره لأول مرة، فترك المكان أثراً ايجابياً من لحظات دخولي إليه وجمال الاستقبال من الفنانة “أسيل” وابتسامتها المشرقة، وكون الوقت ظهراً واليوم هو الأخير كان الحضور محدوداً ما أتاح لي التجوال وتأمل اللوحات بهدوء بدون منغصات أو أصوات تعيدني من التحليق للواقع.
ردهات الجاليري الثلاث إضافة إلى الساحة الخارجية الجميلة حفلت باللوحات التي كانت منسقة بذوق فني جميل، فلم يكن هناك ازدحام بتعليق اللوحات، وكانت جميعها تقريباً على مستوى نظر المتلقي، ما يتيح الفرصة للتأمل والتذوق للفن بدون تعب، وإن كان عدد المشاركين كبيراً فقد بلغ سبعة وخمسين فناناً مشاركاً، واللوحات غطت المدارس التشكيلية كلها تقريباً، والأسماء المشاركة أيضاً كانت بين حضور لفنانين كبار، وصولاً لقامات فنية أصبح لها حضور في ساحة الفن التشكيلي، مروراً بفنانين لا يزالون في بدايات الطريق الصعب والشاق للفن التشكيلي.
ليس من السهل الحديث عن كل اللوحات، وإن كان عدد كبير منها يستحق الحديث عنه، فلو أردت تناول كل لوحة على حدة فهذا يعني أني سأحتاج لشهور من الكتابة، ولذا عادة أفضل أن أكتب قراءات نقدية متخصصة ومحايدة عن معارض شخصية، فالكتابة عن المعارض الجماعية لا تمنح كل فنان حقه بالحديث عن أعماله وإبداعاته، ولذا سأترك المجال لقلمي أن يكتب عن بعض اللوحات التي تركت في روحي ما أسميه دوماً “لحظة الدهشة”، والتي كنت أراها لأول مرة، مع اعتذاري عن عدم الحديث عن كل اللوحات وبخاصة اللوحات التي سبق وأن شاهدتها وأشرت إليها بالحديث في مقالات عن معارض سابقة، وفعلياً تألق عدد كبير من الفنانين والفنانات في المعرض وبغالبية اللوحات المعروضة، ولعل اللوحة الأولى التي أثارت في روحي “لحظة الدهشة” لوحة للفنانة آمنة “نزهة الخطيب” منذ بدء جولتي بين اللوحات، وحين أنهيت الجولة كنت أعود وأقف أمام اللوحة من جديد، وبعدها اخترت زاوية جلست بها لأرقب منها اللوحة بصمت مع فنجان القهوة، فقد شعرت باللوحة تروي الكثير، شعرت بها تنظر لي أينما تحركت وتهمس بصمت، واللوحة عبارة عن وجه لامرأة غارقة بصمتها وملامح الحزن تلف ملامح وجهها وعينيها اللامعتين الواسعتين تنطقان بألم صامت، تلف رأسها وكتفيها بمنديل لا يظهر إلا أطراف الشعر، ملامح جميلة لكنها صارمة، حاجبان كثان وأنف مستدق وذقن بارزة قليلاً تعلوها شفتان مكتنزتان، لكن كل هذه الملامح بجماليتها تروي حكاية ألم، حتى أني سألت عن الفنانة أكثر من فنان وفنانة، فقد تمنيت أن أرى أعمال أخرى لها، وحين عرفتني عليها الفنانة أسيل بعد عدة أيام في انتخابات رابطة الفنانين التشكيليين، أفصحت لها عن رغبتي ووعدتني؛ ولا أعرف إن كانت ستنفذ الوعد أم لا، واللوحة الثانية التي شدتني أيضا لوحة للفنان “محمد عزيزية”، وهو فنان متمكن ومتميز بأعماله، واللوحة تمثل امرأتين تدقان على طبل يشابه الطبول الإفريقية وخلفهما لوحة فنية، والملامح والوقفة تثير في ذهن المتأمل الكثير من التساؤلات وبخاصة أن المرأة التي في المقدمة تخفي عيناً لها وتبقى الأخرى في رمزية غامضة، وقد تمكن الفنان من ممازجة الألوان بطريقة تثير السؤال والحزن في آن واحد.
لوحة أخرى للفنانة “ميرفت هليل” وهي فنانة تحترف رسم لوحاتها بالألوان الشمعية (الباستيل الناعم) بحرفية متميزة، ولوحاتها بالأصل صور فوتوغرافية تعيد تشكيلها باللون وتسكب فيها روحها الفنية، وحين وقفت بصمت متأملاً لوحتها شعرت باللوحة تهمس لي: “أنا من رافقتك منذ ألف عام مضت وكتبت لها”، فأحسست أني أهمس للعينين في اللوحة وأرد على همساتها: “شرف لحروفي ونزفي الليلي أن يترافق معك”، فأنا أشعر أن طيفي الذي أخاطبه تجسد فيها وسكنها فهمست له: “تفاصيلي الصّغيرة هي أنا، أزهار أبعثرها، فأنا لا أكتب بالقلم، أكتب بريشة اقتنصتها من دُرّاجة برّيّة، أغمسها بألمي، بروحي، فتنطلق ريشتي الأثيرة كما اعتادت الدُرّاجة البرّيّة عندما تكون في غابة صنوبر أو سُهب مترامية، فترسم”، واللوحة لوجه لا تظهر منه إلا عينان ساحرتان بجمالهما، هامستان بحكايات الجمال والفرح، وباقي الوجه يلتف حوله شال ملون ومزركش بألوان البرتقالي والأحمر والأصفر والأزرق والأبيض، فأعطى انعكاساً متميزاً من جمال على العينين وما ظهر حولهما من نقاء للوجه والحاجبين كما سيفين.
الفنان الشاب “عصمت العمد” تألق في لوحة تجريدية للطبيعة، أبدع فيها، وكانت ألوانها متميزة بتدرجها وبدون أي نشاز فيها، تبدأ بمشاهد صخرية تأخذ نصف اللوحة من الأسفل لتصعد للجبال فالسماء بتدرج لوني مثير، حتى الوصول للسماء الداكنة بالغيوم في الأفق، ولوحظ أن الفنان استخدم الأسلوب الحلزوني المتدرج كما دوامة تبدأ من بؤرة اللوحة وتتحرك كداومة نحو الأطراف، وقد أتقن الفنان الإسقاط الضوئي وتبايناته في اللوحة، فكان يمينها بالنسبة للمشاهد أكثر إضاءة وألقاً من يسارها، لِأَنتقل إلى لوحة أخرى للفنانة الشابة “إيمان الطرمان”، والتي تصور فيها طفلاً ملقى بالماء على وجهه، أعاد لذاكرتي الطفل “إيلان” الذي غرق وانتشرت صورته بكثافة، ولكن الفنانة هنا استخدمت الرمزية بقوة في اللوحة، فكانت ألوان ملابس الطفل تعبر عن الفرح، إضافة لانعكاسات لونية بالماء تحمل فرحاً، فتمازج ألوان حرة للأصفر والبرتقالي والأخضر، وكأن الفنانة ترمز بألوانها كيف أن تصاريف الحياة تحيل الفرح الطفولي إلى ألم لا ينسى ويترك أثره. وفي حوار حول اللوحة مع الفنانة قالت: “إن اللوحة مرسومة قبل غرق الطفل إيلان”. فقلت لها: “إن كذلك فهذا استشراف فني للمستقبل”.
الفنان “جهاد الحايك” أبدع بلوحة مازج فيها بيوتات القرية التراثية البسيطة مع جمال الطبيعة والربيع، بتدرج لوني بدءاً بالربيع الفرح مروراً بالبيوتات التراثية بلونها البني التقليدي، ثم التلال الخضراء فالجبال الصخرية وصولا لزرقة السماء، بتمازج لوني رائع مع أوراق أغصان شجر تبدأ بها اللوحة من الأعلى بدون ظهور الأشجار، بأسلوب جعل بؤرة الرؤيا تنتقل بين أعلى اللوحة وأسفلها للانطلاق برؤية متدرجة حتى نهايتها، بينما أبدعت الفنانة والشاعرة “ردينة آسيا” بلوحة تعبيرية ظهرت فيها أربعة وجوه لطفلات تغطي جوانب اللوحة الأربعة، على يمين المشاهد كانت الطفلتان بشعر ناعم منسدل وعلى يسار المشاهد طفلتان محجبتان، وثلاث منها لم تظهر فيها العيون بينما الرابعة ذات الشعر المنسدل ظهرت على وجهها عين واحدة والأخرى اختفت تحت الشعر، وفي وسط اللوحة من تحت ثلثها الأعلى وبين وجوه الطفلتين بالأعلى يميناً ويساراً كانت هناك مجموعة من وجوه الطفلات وكأنهن كومة فوق بعضهن بعيون مفتوحة، فكانت اللوحة معبرة عن حالتين من التعامل مع الأطفال الإناث في مجتمعاتنا والحيرة البريئة والسؤال في عيونهن أمام الغد.
الفنان “علي أبو عنان” أبدع في لوحة من ثلاثة وجوه نسائية تعبر عن صرخة قوية على ثلاث مراحل. مرحلتان تظهر الوجوه تتجه نحو السماء بصرخات الألم، وفي الأخيرة صرخة مواجهة وغضب، فالمرأة تواجه من تصرخ أمامه، وبالتأكيد كانت رمزية عالية تشير إلى أن لحظة الغضب والتفجر آتية، وكانت لوحة متميزة بلونها وأسلوبها ودقة الرسم التشريحي فيها وفي المعنى الرمزي أيضاً. بينما الفنانة الشابة “منار العرموطي” (جاناريتا) كما تسمي نفسها، وهي شابة صغيرة في الربيع الثالث والعشرين من عمرها، وتمتلك الموهبة وتعمل على أن تطورها بالدراسة، قدّمت لوحة لجواد تفيض من عينيه نظرات الحزن والألم، حتى قلت لنفسي: “إنه جواد متألم، وبالتأكيد أنه فقد فارسه”. وقد أجادت الفنانة اللوحة بالأسود والأبيض، فالخيل تختلف عن باقي الحيوانات ولها مزايا تشريحية وجمالية مختلفة. بينما الفنانة الشابة “إسراء ملكاوي” قدمت لوحة رمزية مرسومة على ورق الصحف بالحبر والألوان المائية، تمثل يداً هرمة تتكئ على عصا وفوقها يد طفل، لوحة ترمز لتعاقب الأجيال، جيل الطفولة يضع يده بحنان على يد الكهولة، واللوحة تمثل يد الكهل الخارج من صفحات الماضي، والطفل من سيواصل المسيرة ويعيش الحدث، فالتاريخ يعيد نفسه. وهناك لوحات عديدة متميزة تستحق الاهتمام بها وقراءتها مثل لوحة للفنانة “ميساء عبد الله المشني” المرتبطة بفلسطين حتى النخاع، ولوحة للفنانة “شادن يوسف”، وغيرهما. ولكن المجال يضيق، ولعلي أكتب عنها لاحقاً أو ضمن معارض شخصية للفنانين.
وهمسة أخيرة للبعض: يمكن للفنان أن يتأثر بأعمال فنان آخر وبأسلوبه، ومن يتابع الفن يجد أنه من السهولة أن يشعر أن اللوحة التي أمامه متأثرة بلوحة أخرى وهذا مقبول ووارد، أما أن ينسخ لوحة لفنان آخر ويضع اسمه عليها فهذا يعتبر لصوصية وسرقة مفضوحة، سواء كان النسخ متقناً أو لم يكن، أو إجراء بعض التعديلات الشكلية على لوحة لفنان آخر وينسخها وينسبها لنفسه وهذا مرفوض ومعيب، كما اعتقد أنه من الخطأ وبخاصة للفنان الذي ببداية الطريق، أن يعرض لوحات رسمها خلال فترة تعلمه وتدريبه في الكليات أو المعاهد المتخصصة بالفن وأن يضع اسمه عليها، وبخاصة حين تكون اعتمدت على النقل وليس على نزف الروح وإبداعها، فالآن أصبح بالإمكان من خلال الباحث عبر الشبكة العنكبوتية الوصول لأصول معظم اللوحات الفنية ومن أبدعها، فالفن موهبة أولاً، ومتابعة وجهد ثانياً، وروح متألقة بالأساس، وطريق الفن شاق..
(عمَّان 21/9/2016)