قصة

المحامي

مصطفى اللافي

11 سبتمبر.. من أعمال التشكيلي صلاح بالحاج
11 سبتمبر.. من أعمال التشكيلي صلاح بالحاج


كان ما ضايق السنوسي وهو عائد من سبها في الأتوبيس الصحراوي أن جاره في الأتوبيس عرف أنه محام.

وكان لا يخاف في الدنيا شيئا أو يعبس لشيء قدر خوفه وعبوسه اذا حدث في مكان ما وعرف الناس أنه محام فهو يعلم تماما أن الأسئلة حينئذ تنهال عليه, وتنهال معها الاستفسارات ولا يهم أن يكون هو متضايقا أم غير متضايق, مستريحا أم غير مستريح فهم لا يفرقون بينه كانسان, وبينه كمحام, انما يرونه دائما وفي كل الوقت محاميا.

جلس السنوسي في الأتوبيس وهو يستعيد بالله خائفا أن يبدأ الجارحديثه, ولهذا راح ينظر من النافذة وقد ترك أفكاره ترعى على مهلها في الصحراء الجدبة الممتدة وتمرح فيها من أقصاها الى أقصاها.

ولم ينفع هذا, اذ سرعان ما أحس بلكزة خفيفة أعادت أفكاره من انطلاقها وسمع جاره يقول:

 – فرصة سعيدة يا أستاذ والله..

فقال الأستاذ وهو يزوم:

– شكرا..

وأقبلت فترة صمت كان قلب السنوسي فيها كالريشة في مهب الريح, فقد كان يعلم ن جاره سوف يتحوقل بفمه ويتبسمل بعد قليل ثم يفتح باب الكلام ويا ويله لو فتح الباب..

ولم يخب ظن السنوسي اذ ما أسرع ما قال الجار:

– الا من فضلك يا أستاذ؟!

فقال السنوسي في اشمئناط:

– نعم!..

– حضرتك مدني والا جنائي.. والا مخدرات؟..

فرد السنوسي على البديهة وكأنه محام:

– كل حاجة.. كله.. كله..

ومن تجاربه السابقة مع أمثال ذلك الجار كان السنوسي يعرف أن المتحدث يسكت هنا, وتبدأ فترة صمت أخري.

وفعلا أغلق الرجل فمه المبتسم قليلا ثم فتحه قائلا:

– أهلا.. وسهلا.. تشرفنا..

وعاد سائلا:

– حضرتك تعرف الأستاذ(…)

– وتردد السنوسي قليلا ثم استخار الله وقال:

– لا والله.. أنا أسف.. ما نعرفاش..

واستنكر الجار:

– كيف ما تعرفاش.. دا من أشهر المحامين!..

فقال السنوسي بفروغ البال:

– هادا هو اللي صاير.. واللهي ما نعرفه..

– الراجل جبار.. ياما دوخ قضاة ومحاكم.

– يا سلام.. هكي صار؟!

وسكت الجار ولم يرد.. وخاف السنوسي من هذه السكتة فقد كان يعرف ما ورائها اذ بعد قليل قال الجار:

– يعني المدني حضرتك حتى هو تفهم فيه؟ّ..

– طبعا.. طبعا.. أكيد!!..

قال السنوسي هذا ولم يسأل عن السبب مخافة أن يحدث ما لا تحمد عقباه..

ولكن الجار تفوه بلهجة من لا يهمه الأمر:

– في الحقيقة عندي مشكلة..

وأطبق السنوسي فمه لا يود فتحه وكأنه ليس هنا..

لم يثبط هذا من همة الرجل فسرعان ما أردف:

– مشكلة في الحقيقة تعبو فيها المحامين.. هو مش حضرتك بتدافع على المدنيين صح؟..

وأصر المحامي على صمته ولم يرد..

ومع هذا تنحنح الجار وقال:

– المشكلة تعبو فيها هلبا..ان شاء الله ما تكونش متضايق والا حاجة.. شوف يا أستاذ.. أصل المشكلة سنة 2015 كان عندي بيت وارثه عن الوالد, وكان فيه ورثة تانيين..

وبدأ لجار يروي القصة بحذافيرها من يوم أن كانت الى يومنا هذا, ويشرح ما مرت به, والجلسات,والتمديدات, والسنوسي قد انشوى واستوى وهو يصغي, ومضطر أن يصغي.

وكانت الأتوبيس في هذه الأثناء قد وصلت الى احدى الاستراحات فنزل المحامي والرجل وراءه. وأكمل القصة وهما يتناولان القهوة وينفضان ما عليهما من أكوام التراب..

ودفع المحامي الحساب والجار مستمر في الرواية, وفي الطريق الى الأتوبيس كان الرجل قد انتهى أو كاد فسأل بلهجة لا تخلو من حداقة:

– شن رأي حضرتك؟!..

ولا بد للمحامي أن يكون له رأي.. فكيف له أن يكون محاميا اذا؟!..

وقال السنوسي رأيه, وحينئذ مط الجار ابتسامته على أخرها وقال:

  – لو سمحت ولو ان فيها مضايقة بس ممكن تكتب لي الكلمتين يلي حضرتك قلتهم.. المشكلة واللهي صعبة.. ودوخت المحامين.. والحقيقة خايف نكون ضايقتك.. لا.. لا.. ما تعبش روحك يا أستاذ.. تفضل هادي ورقة وقلم..وشكرا جزيلا وبارك الله فيك.. واللهي فرصة سعيدة..المثل بيقول رب صدفة خير من ألف ميعاد..

وكتب السنوسي المذكرة وهو يفور ويمور وينفخ..

واعتزم أن يترك المقعد الذي كان يجلس فيه, وأن يبحث له عن أخر بعيد كل البعد عن هذا الجار حتى لو اضطره أن ينزل من الأوتوبيس..

وأفلح المحامي في اغتصاب مكان.. وظل قلبه مع هذا في مهب الريح مخافة أن يكون الجار الجديد أحد المتحدثين الذين سواء عرفوه أم لم يعرفوه, فأسئلتهم لا تهدأ ولا تنتهي.. ولكن الجار كان رجلا طيبا صموتا ما فتح فمه, ولا حتى ألقى ناحيته بنظرة ولوعلى سبيل المجاز..

ورغم أن الدنيا كانت يقظا والأوتوبيس أصبحت كالفرن الذي ليس له مدخنة, والغبار من كثرته صار له لسع الناموس وأزيز الذباب, والمقاعد عليها بحور عرق في وسطها ناس, رغم هذا فقد استراح السنوسي لصمت الجارالراحة كلها, وأحس بقلبه ينعشه ثلج بارد.

وراحت الأوتوبيس تئن وهي تقطع الطريق الملتوي الطويل.. وشعر السنوسي بعد قليل أنه يود معرفة الساعة التي ستصل الأوتوبيس فيها, وكان ممكنا أن يسأل جاره ببساطة ولكنه لم يشأ هذا حتى لا ينبش الجار فيفتح فمه ولا يقفله أبدا.

ولكن.. في مطب من المطبات الكثيرة مال السنوسي على الجار فكاد يوقعه وكلمة من هنا واعتذرات من هناك تعرفا, واتضح لسنوسي أن جاره طبيب.. واكتفى السنوسي بالذي كان فأغلق باب الحديث وأحكم الاغلاق..

وانتهت المطبات, وسارت العربة كالريح والسنوسي صامت وجاره صامت أيضا, ولكن بعد وقت تذكر المحامي شيئا ونسي قراره ابتسم وقال لجاره:

– حضرتك دكتور في الطب.. والا في..

وحين وصلت العربة الى طرابلس وغادرها الركاب كان المحامي لا يزال يقول للطبيب:

لا..لا.. ما تعبش روحك.. بلاش روشته.. تفضل القلم والورقة.. باللهي يا دكتور نبي دواء يقضي عليه.. واللهي متعبني من سنة 2011..والروشتات أهيا.. ان شاء الله ما نكونش ضايقتك يا دكتور.. واللهي؟.. شكرا جزيلا بارك الله فيك.. حضرتتك تشتغل في طرابلس؟!.. يا سلام عالصدف السعيدة.. يا سلام!!..

مقالات ذات علاقة

شبشب زيكو

عائشة إبراهيم

زيارة خاطفة

ناجي الشكري

حيان يشرح لوحته

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق