قصة

فيراندا

كانت عمتي تسكن شارع الشط في شقة بالدور الثالث وسط مجمع سكني راق. تطل شقتها على حديقة صغيرة تتعانق فيها اشجار “الدفلة” بورودها الجميلة دونما رائحة. لها فيراندا امامية تطل على البحر وضريح سيدي الشعاب واخرى جانبية تطل على فندق المهاري.

تستخدم عمتي الفيراندا الجانبية لنشر الغسيل صباحا، تعبأ غسيلها الناصع في سلة بلاستيكية، تقضم المشبك بأسنانها، تنحني نحو السلة تنفض القطعة بشدة حتى يتناثر رذاذها ثم تمدها على الحبل وتمسكها بالمشابك الخشبية.

كنت اعشق حضور هذا المشهد يتبلل وجهي بالرذاذ و اشتم رائحة صابون “التايد” خاصة عندما تنشر الشراشف وتمدها بأكملها على الحبل حتى يتهيأ لي بأنها تطير في الهواء. ادخل رأسي في بللها ما بين جانبيها واركض على طول الفيراندا حتى تنهرني وتذكرني بأنه غسيل نظيف.

أما الفيراندا الأمامية فكانت ضيقة ومستطيلة تعلوها اقواس، تمتد على سورها رخامة بيضاء وتزين جدارها ثقوب خشبية متشابكة مطلية باللون الأخضر. كانت قامتي لا تسمح لي إلا بالرؤية عبر الثقوب الخشبية تلك، إلا اذا سمحت لي عمتي بالوقوف على الكرسي الخشبي وهي تحتضنني بقوة بينما يدي على الرخامة البيضاء، ارى البحر في زرقته، والسفن وهي تمخر ببطء وراء سفينة اصغر تبدو وكأنها تجرها نحو الميناء بينما يعلو صفيرها ودخانها. ارى الرجال يجلسون امام مقهى سيدي الشعاب على كراسي حديدية ضيقة ويتحلقون حول طاولات دائرية صغيرة. ارقب آخرين يتجهون نحو الجامع بينما المؤذن ينادي لصلاة المغرب بصوت غير متناغم.

وفي هذا الموضع، كنت اختلس النظر الى اسفل بين الحين والآخر لرؤية الجيران وقد افترشوا الحصير وبعثروا مناديرهم يحكون قصصهم. كانت فيراندتهم اوسع لذا كانوا هدفا سهلا للبصر. تهمس عمتي في اذني” عيب ما تشبحيش للجيران”!

ما ان تتحرك نسمات” البرودة” في الصيف بعد الظهر حتى تحمل عمتي سفرة الشاي وتتجه نحو الفيراندا. تعدل الكراسي في صف متوازي تضع طاولة خشبية صغيرة بين كرسيين تصف عليها البراد المعدني والاكواب الصغيرة وكعك سكر ومالح، وبعض حبيبات الكاكاوية المحمصة. تجلس تنظر إلى البحر بعينين صافيتين فيبدو وجهها مريحا وتقاطيعها اشد وضوحا. احبت رجلا بعد زواجها منه، ثم اختارت ان تضب اغراضها وترحل حين فشلت في الانجاب له.

“راس وليد ومن حقه الصغار”

حكت لي انه حين علم بأن قرارها نهائي وانها لن تعود تساقطت دموعه وهو يهم بالرحيل.

تغني مقاطع من اغنية شادية وهي تنظر الي البحر تتراقص على سطحه اشعة الشمس الغاربة:

“القلب يحب مرة ما يحبش مرتين”.

تمسك احيانا بالسفرة المعدنية المدورة وتنقر بأصابعها عليها نقرا خفيفا وتدندن بصوت خافت:

” والعيون عيوني تريلم… والدمع دمعي والعيون عيوني

نبكي على الأيام ما واتوني… ياميَمه اه ياسلام”

اغني معها هذه الاغنية ذات الابيات التي لا تنتهي.

لم تكن تعلق على منظر غروب الشمس الخلاب الذي نحضره يوميا. كانت فقط تسرح ببصرها و تغيب عني للحظات، بينما انا انظر الى قسماتها تارة والى اللون البرتقالي القاني الذي يسيح ويتوهج على امتداد الافق الأزرق. حين لا يبقى الا قليل من الضوء، تتطاير طيور “الخطيفة” في كل الاتجاهات وهي تصيح، ويرتفع صوت مؤذن سيدي الشعاب الأجش، تنهض بتثاقل وهي تقول ” المغرب”.

سَكنت بيوتاً عدة و جلست في فيرانداتها، آخرها بيت والدي القريب من البحر بفيراندته الواسعة عند المدخل حيث نقضي الامسيات الصيفية، نشم رائحة البحر المالحة ” طالعة من قراجيم الحوت” نتسامر ونضحك حتى منتصف الليل، الا ان فيراندا عمتي كانت الأجمل رغم ضيقها وعلوها والسويعات المعدودة التي نقضيها فيها.

وكلما رأيت فيراندا باريس الحديدية المغلقة، وعَمان التي تتنفس دخان الارجيلة، و فيراندا الرباط المطلة على شواطئ المحيط، وكندا حيث يجد الناموس مؤنته في اجسادنا، والقاهرة التي تعج بالضوضاء وأصوات المارة وراديو المحلات التي لا تقفل ابوابها، لا اتذكر الا فيراندا شارع الشط التي استكانت في عمق الذاكرة.

شارفت عمتي على نهاية الثمانينات من عمرها، تمددت التجاعيد على وجهها وفقد نظارته، تقوس ظهرها وقلت حركتها التي تستند فيها على عصاها، اصبحت تشبه جدتها التي عرفتها صغيرة خاصة حين تصبغ شعرها بالحناء.

مازالت تتخذ من فيراندا حديقتي، حيث تقيم، ملاذا يوميا في الصباح تتنفس رئتاها بحرا لا تراه، تغمض عينيها بين الفينة والأخرى وترحل ثم تعود لترحل بذاكرتها من جديد.

عمان، 24. 7. 2012

مقالات ذات علاقة

الشيخ حمد

عزة المقهور

خبز وسياسة

عبدالرحمن جماعة

سيتي ستارز 1

محمد المغبوب

اترك تعليق