تشكل الاقتباسات التي يتمثل بها الكتاب أحيانا، المأخوذة من مفكرين وأدباء وسياسيين، مسألة ملتبسة وشائكة. ذلك أنها كثيرا ما تؤخذ مبتورة من سياقها وكثيرا ما يكون المستشهِد بها قد عثر عليها في غير بيئتها النصية، الأمر الذي يستحيل معه أن يدعمها بتوضيح يقرب علاقاتها السياقية في النص الأصلي.
هذه العملية تجعل القول المستشهد به ينزاح عن موقعه الدلالي الأصلي ويتحور محموله الأول. وهذا الانزياح والتحور يمكن أن يحدث في الاتجاهين: اتجاه السلب والإيجاب. فأحيانا يكتسب صبغة جديدة تخلخله وتقلل من شأنه في نظر المتلقي أو، بالعكس، تضيف إليه بعدا جديدا يعلي من شأنه لدى متلقيه.
يتم هذا الأمر في كثير من الأحيان دون نوايا مبيتة تستهدف التهوين أو الإعلاء من القول المتمثل به، وفي كثير من الحالات أيضا تكون الغاية مبيتة وبتحامل مقصود في حالة التهجم وما أحب أن أسميه “تحاملا معكوسا” في الإشادة.
حالة الاستهداف المتعمد، السلبي أو الإيجابي، يقوم بها كتاب ومثقفون، وأشخاص عاديون أحيانا، يتمترسون في مواقع آيديولوجية محددة تعلي دائما من شأن المثيل الآيديولوجي وتحقر، دائما، من شأن الآيديولوجيا النقيض وحملتِها.
وأشهر عبارة تم استغلالها سلبيا في العالم كله هي عبارة كارل ماركس القائلة: “الدين أفيون الشعوب”. فهذه العبارة بترها “اليمين العالمي” المتدين منه وغير المتدين، بل وحتى اللا ديني، وقام بتوظيفها للتشويش على الماركسية والتحذير منها لدى جماهير المؤمنين، من كل الأديان، بتعلة أن الماركسية تهزأ بالدين وتعتبره مجرد وسيلة إلهاء وتخدير وتعطيل للعقل.
الفقرة التي وردت فيها هذه الجملة تقول:
“المعاناة الدينية هي، في آن واحد، تعبير عن المعاناة الواقعية واحتجاج عليها. فالدين هو زفرة الكائن المضطهد، قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع عديمة الروح. إنه [الدين] أفيون الشعب Opium of the people.”
فنص الفقرة لايتضمن أي تحامل على الدين، بل يركز على انعدام “الروح” أو حس العدالة في الأوضاع التي يتولى الدين التعبير عنها والاحتجاج عليها.
سنشير هنا، للتدليل على الاستغلال المبيت، كيف استخدم علمان من أعلام الثقافة العربية، هما عباس محمود العقاد ود. مصطفى محمود، هذه الجملة.
في كتابه “أفيون الشعوب” يقول عباس محمود العقاد:
” يقول كارل ماركس وأتباعه: إن الأديان أفيون الشعوب، وإن الناس يقبلون على الدين
لأنه يخدرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة.
وهذا القول الهراء عن الدين آخر وصف يمكن أن ينطبق عليه، وأول وصف ينطبق
على مذهب كارل ماركس بجميع معانيه.”.
ويضيف: ” فالشعور بالمسئولية والمسكرات نقيضان، وما من دين إلا وهو يوقظ في نفس المتدين
شعورًا حاضرًا بالمسئولية في السر والعلانية.”
لاحظ هنا مفردة “المسكرات”!
ويستطرد: ” وشتان هذا، وقول القائلين: إن الدين يخدر المرء، كما تخدره المسكرات وعقاقير
الأفيون.”.
هذا الكلام يتعارض مع شموخ قامة العقاد، إذ لا يبدو أنه كان مطلعا اطلاع العالِم على الفكر الماركسي وفهمه لهذه الجملة لا يفترق عن فهم الإنسان العادي لها.
وفي كتابه “حوار مع صديقي الملحد” يقول د. مصطفى محمود تعليقا على هذه العبارة:
“الدين صحو وانتباه ويقظة .. ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير .. في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر . وليس هذا حال آكل الأفيون”.
**
ثمة جدال حول أن الجملة الأخيرة في هذه الفقرة شاعت بالنص على أن “الدين أفيون الشعوب [بالجمع]” في حين أنها في النص الأصلي “الدين أفيون الشعب [بالمفرد]” الأمر الذي يراه المعترضون تحريفا متعمدا للنص الأصلي. إلا أنني أرى أن المعنى لا يختلف في الحالتين. لأننا كثيرا ما نعبر عن الجمع بالمفرد والعكس، كما أن ماركس يقصد الدين كنوع لدى جميع الشعوب وليس دينا محددا عند شعب بعينه.
إن عدم الأمانة الفاضح والتعمد المشين في هذه الجملة ينصب على استغلال مدلول أفيون الذي اكتسبه في أزمنة تالية لزمن ماركس، وهو استعماله كمؤثر عقلي في جلسات التلهي والانبساط لخلق شعور بالبهجة. ففي زمن ماركس كان استخدام الأفيون مقتصرا على الاستعمالات العلاجية في التخدير الطبي وتسكين الآلام [مفترض أن د. مصطفى محمود، باعتباره طبيبا، يعرف ذلك!]. وبالتالي فإن الترجمة الأمينة، إلى العربية، ينبغي أن تكون: “الدين مسكن آلام الشعوب”.
إننا لا نقول أن ماركس ينطلق من مبدأ إيمان ديني وأنه يدعم الدين، وإنما يعني أنه لا يعاديه ولا يعتبره تخديرا للعقل.
_____________
نشر بموقع بوابة الوسط