الكتابة في الموت هي، في وجه من وجوهها، كتابة في السياسة!. أي السلطة التي تعصف هذه الأوقات بحياتنا، وبالذات في مضمونها ( البطرياركي) المشوّه بشخصيه المتلفع بمعطف الرئيس (الأب) أو المتجلبب بجبة الإمام (الأب) بوجهيهما المؤلهين اللذين عرّاهما الراحل (جورج طرابيشي) الذي أكتب اليوم في رثائه، ومن محطة لم يذكرها في محطات حياته الست التي كتب عنها مقالته الوداعية الأخيرة المنشورة في 23 فبراير 2016، والتي قرأتها بالصدفة قبيل وفاته في 16 مارس 2016، وهي المحطة التي لم يلتفت إليها كل من كتب عن موته، الذي سيترك فراغا، في وجدان الجيل الثقافي العربي الذي أنتمي فكريا إليه، بما أثرى به عقولنا ومشاعرنا في بواكير تطلّعاتنا الثقافية بعطائه الفكري الغزير بأن عرّفنا مع آخرين، أبرزهم سهيل إدريس، وعايدة مطرجي، ومجاهدعبد المنعم مجاهد، وعبد الفتاح الديدي، ونخبة من المترجمين العرب، بكتابات (جان بول سارتر) في الفلسفة الوجودية، فيما ترجمه وهو النصيب الأوفر من سلسلة سارتر الفكرية الشهيرة (مواقف) كـ(قضايا الماركسية، و شبح ستالين، وجمهورية الصمت، ودفاع المثقفين، والأدب الملتزم، وأدباء معاصرون، وبودلير). وهي ترجمات أدين له وللفيلسوف سارتر كاتبها، كونها شكّلت شخصيتي الفكرية، ولازالت بصماتها ظاهرة حتى اليوم فيما أفكر وأكتب.
لقد استغربت وأنا أقرأ” محطات حياته الست” التي توقف فيها في محطتين تعلّقتا بسيرته الكتابية وجود محطة واحدة فقط خصّ بها ترجمته لكتابات( سيغموند فرويد) واعتبر عمله فيها بمثابة تصفية حساب مع(الأب) أو بالأحرى (الأبويةــ البطرياركية) إحدى الظواهر السلبية المهيمنة ليس في الحياة السياسية فقط، بل في عالم الأفكار، والتي مافتيء يرميها بسهامه النقدية النافذة في كتاباته الفكرية المتأخرة عن العقل العربي حتى رحيله منسحبا بهدوء عن ضجيج حياتنا الصاخب اليوم بالعنف والدمار الذي تطرحه السلطات الأبوية بكل آيديولوجياتها المرعبة.
الشاعر الفرنسي ( شارل بودلير)، عرّفتني على أشعاره المقطّعات التي كان يترجمها الكاتب (محمد صالح القمودي) في جريدة الحرّية الليبية (الخاصة) مابين عامي 68- 1969. أما ما دفعني لقراءة ترجمة
(طرابيشي) لكتاب سارتر عنه فهو فضولي لمعرفة أوثق بسيرة الشاعر الذي سُمّي بـ” الرجيم” بسبب ديوانه الشعري المعنون بـ(أزهار الشرّ)،الذي كتب فيه مصوّرا الشرور النفسية التي تصير قدر الشخص البشري، بل لعنة حياته التي يختارها بإرادته. الطريف أن سارتر أهدى كتابه عن بودلير لـ” رجيم” آخر هو الكاتب الفرنسي المشهور بمثالبه الأخلاقية الضدّ- برجوازية (جان جينيه) الذي أفرد له ساتر بعد أعوام كتابا ضافيا عنه.
شغفي ببودلير هو الذي جشّمني قراءة ترجمة كتاب ثان لسارتر بعد روايته” الغثيان” التي ترجمها الكاتب (سهيل إدريس) والتي تشاركت إرهاق قراءتها عام 1971 مع الزميل بالصف الأول الثانوي وقت ذاك (الصدّيق بشير نصر) الذي تحوّل فيما بعد للاهتمام عبر كتاباته وأبحاثه الغزيرة والمهمة إلى الدراسات الإسلامية.
واحد من الدوافع التي ربما دفعت سارتر للكتابة عن (بودلير) وربما عن (جينيه) هو كراهيتهم المشتركة لـ”الوصاية الأبوية” أي البطرياركية البرجوازية الوقورة! التي استغلت فرصة الموت المبكّر للأب البيولوجي وغيابه في طفولتهم لتهيمن بوطأة توبيخها الذي أبانه بودلير في رسائله إلى أمه التي اعتمدها سارتر في دراسته عنه وهو نفس الصدع الوجودي، الذي كتب عنه سارتر ملّمحا إلى تأثيره العميق في طفولته التي شابهت بشكل أخّف في دراميتها طفولة بودلير في سيرته الذاتية (الكلمات)، وهو الجرح الشخصي الذي أنتج ظاهرة” الأوديبية” وارتباطها بالسلطة وجعلها سمة من سمات الثقافة الغربية المعاصرة، تلك التي سيبحثها جورج طرابيشي في الثقافة العربية مستثمرا اطلاعه العميق على كتابات (سيغموند فرويد) عبر ترجمته لجلّها مستلهما استبصاراتها ورؤاها في التحليل النفسي مطبّقا إياها على الثقافة العربية في عدد من الكتابات الرصينة فيما اطلعنا عليه منها كـ:(عقدة أوديب في الرواية العربية، الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الثقافة العربية، رمزية المرأة في الرواية العربية، أنثى ضد الأنوثة في كتابات نوال السعداوي ) وغيرها.
في كتابه المبكّر (شرق وغرب، رجولة وأنوثة) الذي اطلعنا عليه إبّان صدوره عام 1977 منبهرين بسرديته الغنائية الساحرة بحث جورج طرابيشي بعمق أزمة حضارتنا العربية (الأبوية) المنسحبة على علاقة الرجل بالمرأة، والتي كانت منذ ألوف السنين ولا تزال علاقة اضطهاد وسيطرة، بل تنبأ بما نعيشه اليوم من تنامي الأصولية العنيفة والمتشددة وهيمنتها على واقعنا السياسي والاجتماعي الراهن، منبّها إلى مسألة خطيرة هي سحب (طبيعة) تلك العلاقات على العلاقات بين الإنسان والعالم تبريرا لتحكيم مبدأ الاضطهاد والسيطرة في علاقات الإنسان بالإنسان سواء بسواء، وهي الدائرة المحكمة الإغلاق التي تكرر نفسها أو تتعدد حلقاتها إلى مالانهاية حيثما وجدت علاقات اضطهاد وسيطرة، وعنف فتصير الحرب (الإرهاب) رجولة، والسلام (التسامح) أنوثة.
والقوة (العنف) رجولة، والضعف (الحضارة والثقافة) أنوثة.. إلخ. وتحت وطأة الإحساس بالخصاء الفكري والعنة الثقافية الذي لايطاق ذلُّه والذي يلابس ضمير الإنسان العربي والمسلم، يلوذ إنسان المستعمَرات السابقة إزاء الصدمة الكولونيالية التي يعاني إكراهاتها منذ قرن وحتى الآن، أول مايلوذ، بماضيه الحضاري الذي يفترض فيه أنه ينم هو الآخر عن رجولة مستعادة.
جورج طرابيشي، معريّا منطق الرجال في عالم الرجال، يشير إلى حقيقة لايجوز تغييبها عن الذهن النقدي، وهي” أن منطق الرمز هو في الوقت نفسه رمز لمنطق”، وهي المسألة التي يعمّقها في دراسته التي لانظير لها في المكتبة العربية والتي كرّسها عام 1973 حول: ( الله … في رحلة نجيب محفوظ الرمزية)، منبها إلى أن رواياته كـ:(أولاد حارتنا، والشحاذ، والعشاق، والطريق) وهذه بالذات قابلة لأن تفسر على مستويين :المستوى المباشر، الواقعي، والمستوى اللامباشر، الرمزي وعلى المستوى الأول لاتعدو أن تكون قصة بحث عن (أب)، ولكنها على المستوى الثاني قصة بحث عن (الأب)، أي الله.وهكذا ربط نجيب محفوظ بين القيم المادية والقيم الروحية بين القضية النقدية الاجتماعية، والمشكلة الميتافيزيقية معيدا الثانية الى أبعادها العينية بوصفها مشكلة اجتماعية جوهرا وأساسا، وهو أمر له مدلول تقدمي كبير في مجتمع شرقي أخذت فيه (الأبوية البطرياركية) وتناسلها في المسألة (الذكورية) أبعادا لا معقولة.
لقد جمعني لقاء عابر عام 1985بالراحل جورج طرابيشي في باحة( مركز جهاد الليبين للدراسات التاريخية)، حيث كان مع بحاثة ومفكرين عرب كانوا يشاركون في مؤتمر تاريخي نظّمه في طرابلس (المركز القومي للثقافة العربية) المدعوم وقت ذاك من ليبيا والذي كان يعمل به جورج طرابيشي كاتبا رئيسيا بمجلة (الوحدة) التي كانت تصدر بباريس.
وهو ينتظر مع المنتظرين الحافلة التي كانت ستقلّهم إلى الفندق تحدتث معه في عجالة عن كتاباته، منوها بطرحه للمشكلة الميتافيزيقية الرمزية في روايات نجيب محفوظ، مشيرا إلى ماتشهده مجتمعاتنا من غياب فادح للإنسان في ثقافتنا العربية، واتساع متمدد للبعد البطرياركي السلطوي لمفهوم الله، وقد لمحت اندهاشا طفوليا يطفر من عينيه المتوقدتين، وهو يستمع بدماثة المثقف ورقّته إلى كلامي الذي مسّ ذلك الوقت موضوعا كان من المبكّر التفكير فيه والآن صار من المتأخر تجنب تداعياته الكارثية في حياتنا.
عرف عن جورج طرابيشي كـ(جان بول سارتر) انتقالاته عبر الأفكار والأيديولوجيات ربما تهرّبا من سلطتها الأبوية فمن (حزب البعث) الذي اعتنقه يافعاً، إلى مزيج من الماركسية والوجودية، إلى خلطة من الماركسية والقومية العربية بنكهة ناصرية، إلى تنوّر ليبرالي يحاكم به العقل العربي الذي يرسف حتى اليوم في الظلامية.
وكل هذه التحولات جعلت منه المفكرّ بالوكالة كما وصف هو (نجيب محفوظ) في كتابه (من النهضة إلى الردة) بأنه فيلسوف بالوكالة، إلا أن الإيجابي في ذلك أنها أنتجت كتبا ربما يتاح لنا التعرض لها في مقالات أخرى قادمة. أما في محطة الموت الأخيرة فلا يسعنا إلا أن نقول:
جورج طرابيشي، شكرا لك ووداعا.