يحفل التاريخ الأدبي بالعديد من الشعراء والكُتاب الذين اتخذوا أسماء مستعارة لتوقيع أعمالهم، فكان وراء كل اسم قصة تخبرنا عن بعضها السطور التالية. فمثلا الفرزدق هو لقب الشاعر همام بن غالب بن صعصعـة التميمي، وفولتير الاسم المستعار للكاتب الفرنسي فرنسوا ماري أرويه، والأديب المصري محمد حسين هيكل وقّع أولى رواياته الشهيرة “زينب”، باسم “الفلاح المصري” خوفا من عدم تقبّل الناس لها.
قائمة الكتاب الذين اتخذوا من أسماء مستعارة طويلة، فهناك من استمر خلف الاسم المستعار طوال سنوات علاقته بالكتابة، وهناك من أعلن بعد مضي زمن عن اسمه الحقيقي وثالث يعرف أصدقاؤه المقربون فقط من هو صاحب هذا الاسم المستعار.
وربما يكون القيد الاجتماعي سببا لرغبة البعض في التخفي. فهذا ياسمينة خضرا أو محمد مولسهول اسمان لشخص واحد، وهو الأديب الجزائري المقيم في فرنسا، ويكتب بالفرنسية أيضا. تخلى عن رتبته العسكرية من أجل الكتابة.
يقول: ياسمينة خضرا هو اسمي الروائي وهو اسم زوجتي التي أحبها وشريكتي في الكفاح. وبعد تركي الجيش خلال الأحداث التي شهدتها الجزائر بسبب الإرهاب، نصحتني زوجتي باتخاذ اسم مستعار، وقالت لي “أعطيتني اسمك لمدى الحياة فأنا أعطيك اسمي للخلود!”، وأنا متمسك به إلى الأبد. لا أريد أن أغير الاسم بعد أن منحني الشهرة، زوجتي دائما تحمل لي الحظ السعيد، أتذكر مرة في أسبانيا تمت دعوتي إلى صالون أدبي وتم الإعلان عن اسمي محمد مولسهول، ويوم اللقاء لم يحضر سوى عشرة أشخاص.
الفقيه أو ليلى سليمان
في سبعينات القرن الماضي كان الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه ينشر مقالات باسم ليلى سليمان في الصحافة الليبية دعما وتشجيعا منه للنساء الليبيات على الخروج إلى العمل وتجاوز التقاليد الاجتماعية، يقول الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه عن هذه التجربة “عندما بدأت الكتابة منذ أكثر من أربعة عقود مضت، كانت قضية المرأة وما تعيشه من ظلم اجتماعي هي أكثر القضايا إلحاحا على عقول الكُتاب وقلوبهم، ورغم ما كانت تعيشه البلاد في الخمسينات والستينات من أوضاع اقتصادية وسياسية متأزمة، وما يعانيه الشعب من فقر وجهل ومرض، وما تئن تحته الأرض الليبية من وجود أجنبي ينتقص من استقلال البلاد، فقد كان الكُتاب يعطون لقضية المرأة أولوية على كل القضايا الأخرى لأنهم كانوا يرونها الخطوة الأولى التي لن يتحرر المجتمع من أزماته بدونها”.
ويضيف الفقيه قوله “بعد أن كتبت مقالات كثيرة باسمي الصريح تتناول قضايا التحرر الاجتماعي وتحارب المفاهيم الخاطئة التي تظلم المرأة وتحجر على حركتها وحريتها، رأيت أن أتسلح باسم نسائي مستعار أدخل به المعركة وأربك به صفوف أعدائها الذين لا يتوقعون خروج صوت نسائي جريء يتولى مناقشتهم وإبطال الحجج التي يستخدمونها لإبقاء المرأة بين الجدران”.
ويتابع “هكذا ظهر اسم ليلي سليمان الذي أثار حوارا ثريا في الحياة الاجتماعية والثقافية وكان عنوانا للمرأة الجديدة التي تكافح من أجل كسر الأبواب المغلقة وخروج المرأة إلى العمل والإنتاج”، وأضاف: لسنوات كثيرة بقيت أستعمل هذا الاسم وأوقع به بابا أسبوعيا في الصحافة المحلية إلى أن شعرت بأن “ليلي سليمان” قد أدّت رسالتها وأكملت دورها في إثارة القضية والانتصار لها، إلى حد أن بعض معارضيها اقتنعوا بأفكارها. كما خرجت إلى الميدان أقلام نسائية حقيقية تتولى الدفاع عن قضاياها. ودفعت الجامعات إلى ميادين العمل بأفواج كثيرة من النساء المتعلمات ليعملن في مختلف المهن والمجالات. عندئذ أدركت أن ليلي سليمان المستعارة يجب أن تختفي فأعلنت للقراء والقارئات حقيقتها ونشرت باسمي كتابا يحمل مختارات من كتاباتها أسميته “كلمات من ليلي سليمان” ليكون وثيقة عن ذلك الزمن الذي مضى.
دلال المغربي أو حواء
في هذا الموضوع، تقول الشاعرة الليبية حواء القمودي: حكايتي مع الأسماء المستعارة ابتدأت عند مراسلتي لبرنامج “من البريد إلى الأثير” لمقدمه عبدالكريم قطاطه بإذاعة صفاقس، وقد سمع أخي الكبير اسمي في هذا البرنامج. فقال لي “أعرف علاقتك بالكتابة ولن أمنعك ولكن لا تذكري اسمك مقرونا باسم العائلة والأفضل أن تختاري اسما مستعارا”، كان عمري آنذاك ثمانية عشر عاما. كنت حالمة أقرأ الشعر وأحاول التميز، فاخترت اسم “محبة” وظللت أراسل البرنامج بهذا الاسم لمدة عامين كاملين. أما في الصحافة المكتوبة فحكايتي بدأت في أغسطس 1982، حين كتبت مقالا صغيرا للرد على مقالة نشرت بصحيفة “الجماهيرية” كان صاحب المقالة يسخر من المرأة الليبية ويدعو حبيبته إلى التخلي عن الذهب والحرير لتجيء معه إلى جنوب لبنان، فكتبت مقالة صغيرة.
وتواصل: بقيت أفكر باسم فاخترت اسما غريبا مزجته من اسم مدينة أريحا والاسم الثاني هو صامد الاسم الذي أعشقه من خلال أغنية “صامد أنا صامد” ونشرت المقالة وكانت بعنوان “آتية معك” وباسم أريحا صامد. وهكذا نشرت مقالة ثانية بعنوان “أنا وأنت وهمومنا” وبهذا الاسم، ولكن ثمة مقالة أحبها جدا وهي “بيان ضد أبي وأمي” لم تنشر باسم أريحا بل اختارت لها إدارة المجلة اسما آخر هو “بنت سوق الجمعة”.
ولكن متي كانت دلال المغربي؟ عن هذا السؤال تجيب القمودي بقولها: في شهر فبراير 1983، نشرت مقالة تتحدث عن فلسطين والوطن وهمومه والسجن والشرفاء عنوانها “بين المكرونة الحارة وبين الشرفاء” أتذكر مكالمة بيني وبين فوزية شلابي بعد إملائي لهذه المقالة مع ملاحظة أن أغلب مقالاتي كنت أمليها عبر الهاتف. طلبت مني السيدة فوزية شلابي أن اختار اسما ليكون مع مقالتي غير اسم أريحا فاقترحت اسم “دلال المغربي” ونشر المقال باسم “دلال المغربي الليبية” وبعدها اختفت الليبية ليظل دلال المغربي.
وتتابع: أما لماذا دلال تحديدا، فالحكاية تبدأ منذ طفولتي وتعلقي بقضية فلسطين وحزني وبكائي مع أغاني فيروز عن “برتقال يافا” و”الآن الآن وليس غدا” وأغنية أم كلثوم “صار عندي الآن بندقية”، لكن لدلال طعم آخر عند قراءتي لمقالة نزار قباني عن العملية التي كانت دلال ومعها زميلة أخرى وأحد عشر فدائيا قد قاموا بها داخل الأراضي المحتلة. كيف جعلوا من الباص الذي اختطفوه جمهورية فلسطينية حين علقوا العلم الفلسطيني فوقه، ثم توطدت علاقتي معها (دلال المغربي) بقصيدة قرأتها في مجلة العربي لشاعر لا يحضرني اسمه واسم القصيدة “الموت الفلسطيني الجميل” مهداة إلى روح دلال سعيد المغربي.
وتخبرنا حواء القمودي: في العام 1990، أرسلت مقالات لصحيفة الطالب باسم إيمان محمد ولكن عدت لدلال سريعا وفي مجلة “لا” كنت أريد النشر باسم دلال ولكن الصديق والصحفي أحمد الفيتوري اعترض على ذلك، فقلت له: ضع اسم حواء فقط لكنه أصر أن اختار اسمي ولأن ذاكرتي مازالت تحفظ تحذير أخي من الكتابة باسم العائلة فقد اخترت اسم أبي مع اسمي “حواء القمودي” وهكذا ظهر اسمي الحقيقي العام 1993 تقريبا.
ولكن حين نشرت أول نصوصي الشعرية في مجلة الفصول الأربعة عدت لصديقتي دلال المغربي. وفي عام 1995، حين قامت مجلة الناقد بنشر ملف عن المشهد الثقافي الليبي نشرت باسم دلال المغربي، لأتوقف بعد ذلك عن النشر في الصحافة حتى عام 2000، بعد ذلك نشرت أول نص شعري باسمي في مجلة الفصول الأربعة “هي وعاداتها”.
12 عاما هي عمر التخفي وراء أسماء مستعارة بدأت بأريحا صامد واستكانت عند دلال المغربي. لقد كان القيد الاجتماعي هو السبب وراء التخفي، في جيلي كان الإعلان عن كوني كاتبة أمرا غير مقبول اجتماعيا، ومن منطقة سوق الجمعة بطرابلس والتي اشتهرت بأنها منطقة محافظة، وكتابتي الجريئة لمعرفتي أن الخيار الأسلم كان اختيار اسم مستعار. وأعترف أن الكتابة في ظل اسم مستعار منحتني مساحة حرية وقدرة على البوح ما كنت سأفعلهما باسمي الحقيقي.
____________________
نشر بصحيفة العرب اللندنية