استطلاع / مهنّد شريفة
علاقة المبدع بالمكان تماهٍ لانصهار طردي فكلّما أنضجت الأيام المبدع ترسخت وشائجه بالمكان أكثر،ذاك الشارع الذي ركض فيه طفل صغير بكرته الجوربيّة ثم ما لبث أن صار وطنًا في حارة نحيب محفوظ يتقلّب بين فكيّ الحق والباطل ، وتأصلت جذوره داخل تُربة الأمل في قصيدة محمود درويش فعاش عمرًا يحيك أمنية عودته ، ولمسنا إنسيابيته بين أزقة الكبت والإنتصار لدى الراوئي خليفة حسين مصطفى إذ بدا المكان في خصوصيته الروائية بطلاً يقابل هزيمته بإنتصار وهنا يتقاطع معه وإن على المقلب الآخر عمق المكان عند تجربة القاص كامل المقهور إذ لا ندرك أيهما إمتشق لواء البطولة المكان أم الحنين إلى المكان، وفي هذا المقام نعود مرة أخرى لنبحر في دنيا المكان نحاول توخي المزيد من تفاصيله المتداخلة التي يستعصي علينا ظهورها للوهلة الأولى ، إن المكان عند المبدع ولادة للمستقبل وحاضن لذكريات الخطو والعثر ، ..وربما في هذا السياق المكان ليس النموذج الصارم الذي تحدده سلفًا عمارة الجدران المطليّة بالجير والألوان، المكان هو تجربة انتظار للمنتظر يكتشف فيه المبدع العالم من حوله يخاطبه ويُقامر به فيُمرِّن جوارحه بالتالي على قسوة الحنظل وضوع الياسمين… وما يميّز المبدع عن سواه أنه لا يكتفي بنزعة الإكتشاف وحسب بل يستجيب لنزعات أخرى تجعله ذا قدرة على خلق أمكنة داخل عمق المكان الواحد ورسم أبعاد جديدة لأطوار الزمكان تكون بمثابة الملاذ للهاربين من جحيم الحيّز الواحد …وعبر هذا الاستطلاع نحاول الوقوف على علاقة المبدع عمومًا بالمكان وما يحمله في أغواره من قداسة وقساوة تجعله المؤثر والمتأثِر من خلال الاضاءة على وجهات نظر أهل الفن والإبداع.
محيي الدين محجوب: شاعر وكاتب ليبي
قبل أن ألج هذا الموضوع، يمكنني استدعاء معجم المديح احتفاءً بالمكان باعتباره يتسامى في الحضور الخلاّق للإنسان.
من هنا، يتغيا المكان – سواء كان واقعًا أو متخيّلاً – بمكانته السّامية وحضوره الفيّاض داخل نصّي الشّعري، أشعر أنّني مشدود إليه بخيط خفي، أنشغل به مثل رضيعٍ بثدي أمّه.
بعض الأمكنة عاديّة ومهمّشة لكن باقتراب الشّاعر منها يُبلّلها بنفحةٍ شعريّةٍ تُنفخ فيها الحياة، أمكنتي في القصيدة، خاصّة وعامّة، لكنّني أجد نفسي مشدودا غريزيا إلى مكاني الخاصّ، الغائر في مناطق الدّاخلي والجوّاني لا أراه إلاّ على ضوء الرّوح، مطلقا لا أختار هذا المكان لكنه يلج إلى الفضاء النّصي من ثقب خفي فارضًا حضوره الذّهني الواعي ليصبح بذلك مكانًا مفتوحًا على عنفوان الحياة وتأجّجها، بل هو عنوان هذه الحياة.
أعرف أمكنتي مثلما أعرف لغتها، لكلّ مكان لغته، تماما مثلما لكلّ نص لحظته، قد تطلّ بعذاباتها كنهر يمنح للطّفولة والمرأة حضوره، وقد تأتي على هيأة ذميمة كحرب لم تستيقظ الشمس في مفاصلها.
بعض الأمكنة سرقوا منها اسمها، لكنّي أستردّها بخيالٍ جامحٍ كي تتنّفس برئة القصيدة، أنتشلها من ذاكرة الخراب إلى ذاكرة النّص، والقارئ لنصوصي يلمس هذا التعالق الشفيف بالفضاء المكاني بمختلف تجلياته وصوره.
أمكنة عديدة تسللت كموسيقى إلى قصائدي: “أحدّق من نعاس”، “إسكافيُّ الأمكنة”، “موسيقى”، غير أنّ أكثرها مثولاً يفصح عن جغرافيا مسقط الرّأس..
نجلاء شوكت : فنّانة تشكيلية ليبية
دور المكان مهم جدًا للفنان وتركه أثر في وجدان المشاهد أو القارىء يعزز من التراث الإنساني في كل مكان يبصم فيه ابتكاره وإلهامه خاصة الفنان الصادق.
لذا نحن نمر بمرحلة إنتقال في كل المجالات فالعلاقة بين المكان والمبدع هي التأثير المباشر والغير مباشر على نفسية المتلقي وروحه لأنه عندما يفجر الفنان فنه ينقل معه عطاء لا حدود له وتلاحم تام و توازن جميل خاصة حين نتكلم عن اللوحة كعمل صامت يجسد مشهد واحد فيه حكاية ما، ألتقط لك هذه اللحظة بدفء المكان واللون فيها بإيجابيته وسلبيته بمثابة جسر بين الوعي واللاوعي وإنعكاس العمل على المتلقي له خصوصيته لاسيّما في داخلك ، والأهم من ذلك كله أن تبقى اللوحة خالدة، وليست ديكورًا أو ترفًا فقط ، ومحصلة ذلك أن يعطي رصيدًا وتراكمًا للكل، المهم هو مقدار الشجاعة و مقدار ثقافة الجمهور أو القرّاء للعمل الفني، فالنقاش والحوار يقلص من مساحة الغربة بينهم ،وبالتالي لا ينفصل الفنان عن معاناة شعبه أو أهله فلذلك تأثير كبير وساحر..
والعملية الفنية شديدة التعقيد ومجهولة المصدر أحيانًا إلا أنها قادرة على إدهاشنا خاصة حين أتذكر أن عددًا لابأس به من لوحاتي ينعم بحرية كبيرة داخل بيوت أصدقائي جذورها ممتدة إليهم وهي حقيقة أعتز بها .
روناك عزيز : شاعرة وتشكيلية عراقية
للمكان دوره العظيم دون أي شك في ما يبدعه أي فنان أو أي كاتب أو شاعر،وكذلك الشئ نفسه مع المبدع حيث أننا ندرك بالبداهة أن ليس كل الفنانين مبدعين بالضرورة وكذلك ليس كل الشعراء.تلك العلاقة الوطيدة بين المكان والإنتاج والإبداع الفني تختلف من شخص إلى آخر ومن زمن إلى آخروتتغير كما فصول العام .
ولذلك نجد أهمية وقداسة المكان في الفنون عامة ،المكان قد يكون الوطن عند الكثيرين وقد يكون الانتماء المقدس لمكان ما تجلى فيه الشاعر وكتب نصه حين إلتقى حبيبته ،قد يكون المكان قلب العاشق والمعشوق وقد يكون جدران واهية توشك على الإنهيار لكن في ظلالها حدث الكثير،المكان ذاك البراح الذي يلهمنا يمنحنا خصوبة الخيال ودفق البوح ما يجعل أصابعنا ترسم على وتر الروح المكان جميل ومرعب في الوقت نفسه ندور في فلكه حتى آخر العمر.قد تبدع وأنت في السجن وتكتب ما لاتكتبه وأنت طائر طليق،وقد ترسم وأنت تعيش في حي بائس أجمل لوحة وقد تعيش الإغتراب ألف مرة وأنت في وطنك وبين أهلك لكنك لاتبدع ،بينما الآلاف أبدعوا فقط بعد أن أصبحوا لاجئين وكأن بلاد الغربة منحتهم كل مايريدونه لينطلقوا مبدعين ملهمين فيكتبون ويرسمون وينافسون في مجالات الإبداع المختلفة .لعنة المكان تطاردنا نعم أينما نذهب، إننا نحن المكان المتغير من حولنا.
الكيلاني عون : شاعر وأديب ليبي
(يدوِّي صوتُ القذيفة
لا تدري أين تختبئ
قطّتنا المرسومة على الجدار)
المكان ذريعتنا في إقتباس المعنى ولملمة ما يندر الإحتفاظ به، وهو وعينا المتخيَّل بوجهات إمتلاكه الحدس بنا،وبمعنى ما المكان هو نحن بصياغة تُبنى فقط على تجاوز العلاقة بمفهومها العام والوصفي.المكان بيتنا ونحن بيته، صنوان في مزج الأدوار وخلق اللاحدود بين هذه الثنائية المرتبكة بقوانين السلف التأويلي وهي حجّة كبرى لإنبناء مفاهيمي مغاير.لا يمكنني وصف المكان كشيء ساكن أو غير مالك لأدوات تعبيرية خاصة ، وهو ظلٌّ للعديد من الصور والأحداث الزاخرة بضرورة تحديد تلك التقاويم المرتبطة بجريان سيل الأيام ، وطلبات الحماية التاريخية للجسد في إختلاسه لبقع النجاة من اللاجدار.جدار أو فضاء لكنه يمشي ويقول ويعترض، يبارك ويبتهج ويشارك بكل تناقضات اليومي.علاقة المبدع مع المكان تشبه بكل بساطة كل العلاقات المكتفية بالوفاء، بألفة تقدير ما يتوجّب فعله إزاءَ العالم بدلالاته المختلفة.مكان المبدع صورته الأخرى التي تختنق وتتّسع لكنها لا تخون ولا تسقط في تهويمات الاغتسال الخاطئ أو المرتبك بمياهٍ ملوَّثة، صبران بدرايةٍ واحدة تخشى فقط عنفَ التأويل الظاهري للأناشيد.بهذا الوصف الحميمي تتبدى انعكاسات المكان في المنجز الخطابي للمبدع، ويندمج الصوتان حتى يصعب تحديد الجسد من الظل.الآن مثلاً يتضاءل الشارع وتأخذ الجدران أشكالاً لأناسٍ ذهبوا، لأناسٍ وصلوا أمكنتهم البعيدة وآخرين ما زالوا ربما في غياهب النزوح والبحث عن مأوى، الآن مثلاً بينما القذائف تتساقط يصير البيتُ أباً ويصير الفضاء القريب أباً ويصير الشارع الخائف أباً، وكل هؤلاء الآباء يحذِّرونكَ من الخروج.يستميلك المكان الذي تعوّدت أن تحتمي به وبالمقابل فأنت الأب الذي يتفقّده كل لحظة.لا أستطيع الخوض كثيراً في هذه المسألة رغم أنها من واقع الراهن المؤلم ولكن ببساطة يمكنني القول إن المكان بتنوعاته يضع بصمته على منجزي الشخصي كما أدّعي، هناك دائماً مكان في ذاكرتنا مهيّأٌ للكتابة أو القراءة، هناك جزء مكاني لا يغادرنا ولا نغادره في كل نص وكل نظرة صوب شيء ربما هو في علم ابتسامة غامضة لا أكثر.المكان ضالّتنا ونحن ضالّته.
يوسف خديم الله : شاعر وكاتب تونسي
أنا والمكان؟
ربّما كان سؤالٌ كهذا، سؤالاً خاطئا.
هو خاطئٌ، لقيامه على بداهةٍ وتلازمٍ انطولوجيّ بين المكان والإنسان، بين الجغرافيا والتّاريخ.
وإن صحّت هذه البداهةُ بشأنِ الإنسان، مطلقا، فهي قد لا تكون كذلك إذا ما كان الإنسان ذاك كائنا اجتماعيّا مخصوصا من قبيلِ من يتعامل مع اللغة باعتبارها فضاء لإنتاج المعاني والرموز ، يتظافر خلالها الجمالي و الفكري، كالشاعر مثلا.
والشاعر، بذلك المعنى، لا يتحقق له “وجود” خارج عالمه السيميائي ذاك. وعليه، يكون المكان مجرّد عامل من بين عوامل الحياة الأخرى، المتحرّكة، بل يمكن ألاّ يكون ذا تأثير مباشر طالما أنه أي الشاعر- كائنٌ اجتماعيّ مفارقٌ، و بمعنى أدقّ: منفيٌّ.
الشاعرُ كائنّ منفيٌّ بالضرورة، لا بمعنى مفارقته لمكانٍ “أصليّ” ما، بل لمفارقته للزمن، زمن المكان الذي يتعينُ به.
هو منفيّ “اختياريّا” تقريبا من زمنٍ مشروطٍ بحياةٍ تُعاشُ حسب “مقاييس” الإنتاج التي سلعنت كلّ شيء تقريبا، حتى الفنّ نفسه. وكون المكان مجرّد فضاء موضوعيّ لتك السّلعنة الشموليّة، يصارع الشاعر كل ذلك بما تبقّى من أوهامٍ عالقةٍ بـ”قيم” الإبداع.
إن التضارب بين تلك المقاييس وتلك القيم لا يجد له الشاعر حلاّ راديكاليا في الإقامة “الموضوعية” في مكانه الموضوعي، حيث يعمل ليأكل و ينام كأي دابّة داهمها الجوع فأكلت و داهمها الليل فنامت، إلاّ إذا كان شاعرا توفيقيا انتهازيّا أو بلغةٍ عصرية ناعمة: براغماتيّا!
لقائل متعاطفٍ أن يقول: إنه يجد الحلّ في إبداعه لا غير، من دون أن “يكسر دماغه” في مساءلة شروط إنتاجه وتسويقه وتداوله التي، في النهاية، لا قدرة لها على اختراق قوانين السوق المعمَّم.
صحيحٌ، نحن لا نريد للشاعر أن يكون “آلة” تفكير تنسف هويّته كشاعر، لكنّ عجزَه – والأسوأ سكوته – عن اجتراح مساحة قول أو فعل خصوصيٍّ في الشّأن العام، من خلال الشأن الثقافي، يجعله مجرّد متواطئ، متصالحٍ مع مكانٍ ليس له أصلا، لكنه لا يفعلُ سوى تبرير اغترابه فيه بادّعاء امتلاكه، واقعا في ما يعيش، أو مجازا في ما يكتب..
شخصيّا، لم يكن يعنيني هذا الأمر من طويل.
لم أرتبط بمكانٍ أوّليٍ أو نهائيّ، حتى موطني ومسقط رأسي و ملعبُ تاريخي الشخصي الباكر. لقد اخترت مغادرته إلى مكانٍ آخر لا أعرف عنه شيئا عدا أنه رأسٌ ساحليّ في خريطة تونس الشقيقة.. غادرته في اللحظة التي يعود فيها الناس، عادة، إلى موطنهم و مسقط رأسهم وملعب تاريخهم الشخصيّ الباكر، لأنّني أعرف أنني منفيٌّ أصلا، مرّتين:
مواطنا غالبا و…شاعرا دائما.
ومن قبلنا، كتب كافافيس:
(…) لا سفينةَ لك،
لا طريقَ.
فما دمتَ قد خرّبتَ حياتك، هنا،
في هذه الزاوية الصّغيرةِ
فقد دمرتها في كلّ مكانٍ آخر
من العالَم.