من المعروف أن كلمات اللغة ترتبط بصور ثابتة في الذهن ، تجمعت عبر موروث لغوي قديم ، فعندما تسمع كلمة قمر مثلا يستدعي عقلك على الفور كلمة أو تركيبا يتناسب مع ما تجمع في ذهنك من أفكار وتصورات حول القمر ، وتتوقع أن تكون الكلمة المناسبة المكملة له من مثل : مضيء ، غطاه السحاب ، خالٍ من الحياة … إلخ.
كذلك حين تسمع كلمة (شمس) فلا بد أن تتبادر إلى ذهنك مجموعة من الكلمات مثل : دافئة ، الأصيل ، النهار ، إلخ ، ولكن إذا قال المتكلم : قمر أسود ، وقال شمس الليل ، فإن هذا يعني أن المتكلم أعاد ترتيب الكلمات وصورها الحاصلة في الذهن بشكل غير مألوف مع ما اكتسبته من خبرة لغوية سابقة ، وأنه قصد من هذا لفت انتباهك إلى معنى جديد أو إيحاء خاص .
والشاعر المبدع لا يخرج عمله عن هذا الإطار ، فهو يعيد ترتيب كلمات اللغة في نظام متميز عن وضعها العادي ، بحيث تبدو العلاقة بين الكلمات وصورها المختزنة في الذهن جديدة ومفاجئة لك .
ويتفاوت الشعراء في صياغة هذه العلاقة ، فمنهم مقتصد يبقي على كثير من الأواصر بين الدوال والمدلولات ، ومنهم مغالٍ حريص على قطع هذه الأواصر وصدْم المتلقي بعلاقات غريبة شاذة .
لقد أخذ شعراء هذا العصر يطورون العلاقات والأساليب اللغوية التي استحدثها شعراء الرمزية من قبلهم ، وبدأت الكلمات تتجاور في قصائدهم تجاوراً غريباً أفقدها ألفتها ، وأبعدها كثيرا من الميراث اللغوي والذاكرة الشعرية ، وكان غرضهم من هذا هو التطلع إلى جملة شعرية تأتلف فيها الكلمات حسب الانفعال والتجربة لا حسب العلاقة اللغوية الموروثة .
لقد دأب هؤلاء الشعراء على وصف الأشياء المادية المحسوسة بصفات معنوية ، فقد ( جسَّدوا المعنوي غير المحسوس فخلعوا عليه صفات مجسَّدة ملموسة ، وصار ما نحسه بالعين نسمعه بالأذن ، وأصبح للألوان عطور، وللعطور ضياء ، وجمعوا بين المتناقضات ، فالربيع أسود ، والفرح خريفي ، والحزن أبيض … وذابت الفوارق ، وأصبح غير الممكن ممكناً ) .
وهذه مجموعة من التراكيب والعلاقات اللغوية الجديدة انتقيناها من قصائد ودواوين مختلفة لستة شعراء معاصرين هم : نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، عبد الوهاب البياتي ، أدونيس ، خليل حاوي ، نزار قباني :
عطر الضياء المذاب ـ نام الزمان على الزمان ـ عطور الثلج ـ الدموع الخُرس ـ جواد النار ـ غابات من النعاس ـ نعمة الخيانة ـ فخدان من صلاة ـ مطر الأرض ـ النار في الدخان ـ السعال المدوَّر ـ لابساً قامة الهواء ـ القبر السفيه ـ الزمن المعجون ـ صوتها الشفقي ـ الضوء الطري ـ جبهة الرعد ـ لحماً حزيناً ـ صدى الرغوة ـ فمي يفتش عن فمي ـ تعبتُ من استدارة فمي ـ يمشي إلى الوراء الوراء ـ أنهض نحوك يا أبعادي أرضاً ـ عرس يدور تحت سراويل الموت .
هذا غيض من فيض ، فأكثر قصائد شعراء العصر تمتلئ بهذه المصاحبات اللغوية التي تصدم المتلقي بغرابتها وتناقضها واستحالة تصورها عقلا .
لا شك أن كل تركيب من هذه التراكيب اللغوية يعد خروجاً عن العرف اللغوي المتوارث ، وتهشيماً لبنية الجملة العربية التي عرفت على مدى آماد وأحقاب زمنية طويلة بأن العلاقة بين مفرداتها تؤسس وفق العقل والمنطق ، لكن شعراء العصر أدركوا بحسهم الجمالي أن عليهم مهمة تطوير لغة القصيدة ، لذلك شرعوا في تفكيك هذه الروابط العقلية والمنطقية وإحلال نمط آخر محلها صادر من دهاليز الذات وأغوار النفس وتلافيف المخيلة .
إن الدواعي التي حتَّمتْ على شعراء العصر تفكيك التركيب اللغوي القديم وإعادة صياغته من جديد ، أو إنشاء علاقة لغوية جديدة بين كلمتين أو أكثر هي في الواقع دواعٍ فنية تعود إلى رؤية كل منهم للأشياء ، وهي رؤية بالطبع لن تكون على الدوام متماهية مع رؤية المجموع أو الموروث ، فالشاعر لا بد أن تكون حواسه متميزة عن حواس غيره ، لكي يصوِّر ما لم يُصوَّر من قبل ، وليقول ما لم يقله غيره ، وذلك لأجل أن يثير في متلقيه الدهشة الممتعة ويحفِّزه على التفاعل مع تجربته ، لذلك جعل العطر مضيئا ، والصوت ملونا ، واللحم حزينا ، والخيانة نعمة ، والأفخاذ جزء من الصلاة ، والقبر سفيها … إلخ .