قطعوا رأس الغول. والتفوا حوله مائدة يتلهون بها، هذا ينتف شعره، وآخر يدخل أصابعه في منخريه، وثالث يفقأ عينيه.. ورابع.. وخامس..
بهذا فوجئت ربة البيت، عقدت الدهشة لسانها، وسقط فكها الأسفل، وتسمرت وسط الحجرة كالتمثال، لعبت الدنيا برأسها فانهارت على الجدار، انثنى قدها مكوناً زاوية قائمة مع الجدار والأرض، أحست بالكومة ولم تتأوه: فالآلام الرضوض وأوجاع المفاصل في نفسها كانت الأوجع، رفعت رأسها عن صدرها، فتحت جفنيها بصعوبة، ارتد البصر يقرأ حكاية (محمد بن سلطان) والمرأة التي ترحي والدجاج الأسود يلوذ بها و (سبع صبايا في قصبايا سعد الغولة تأكلهن) كانت تحكيها جدة عجوز، وكنا ننصت إليها بشغف، فإذا ما داخلنا خوف ندخل رؤوسنا في أردانها، ونحتمي بأحضانها، فتربت بحنو على ظهورنا وتقول:
(هذي خرافة.. مجرد خرافة).
أغمضت المرأة جفنيها هرباً من حاضرها، ثم فتحتهما، حط بصرها على امتداد رجليها، حركت أصابع قدميها حركة عابثة بدون قصد، تصايح الأطفال ففاضت الحجرة بالهرج والمرج.. الحب الأزرق.. الأطباق الطائرة.. الدينصور الأعظم، تضيق الحجرة وتنفجر كالبالون، تندلق الضجة عبر النافذة تغمر الشارع، وتتطاير في الفضاء، كقصاصات الورق.
تسرع خطوات الرجل، ويطل من النافذة، يخيم ظله على الحجرة، فيرى الأطفال ملصقات (كاريكاتورية) على شاشة التلفاز، يتنافز النبض في عروقهم، ويفرفر التوتر أعصابهم، ويستقبلون الآني لبناً صناعياُ مشبعاً بإشاعات العصر.
يتراجع عن النافذة، يسند ظهره على الجدار، يطرق صامتاً، يكاذ ينقصم من وسطه، لكنه يتماسك، يحمل مشترياته، وبصعوبة يعثر على ثقب المفتاح، يضع حمولته في المطبخ، ويتجه إليهم، يقف هنيهةً عند الباب، ثم يدخل، يرفع رأسه، تنحدر قامته حتى تلامس هامته السقف، ويختصر نفسه في سطر من موسوعة الدهر.. في عقله من إصبع طفل.. ثم يصرخ، يصرخ بدون صوت، يدنو من امرأته، يقف عند امتداد قدميها، ويتخلى عن رأسه ينهدل على صدره، تحس به امرأته فتحرك أصابعها بلا معنى، ثم ترفع بصرها إليه، فيلتقيان في نظرة بائسة، يمد لها يده:
– انهضي يا امرأة.
– إلى أين يا رجل؟
تمتد الحديقة بساطاً أخضر، شجيرات ظليلة، أزهاراً باسمة، نسيماً عطراً، الأطفال كالفراشات، يرفرفون كالعصافير، يتنافرون كالظبي، هذه عقيرتها صفراء كأنها مدهونة بماء الذهب، وهذا شعره أشقر عليه مسحة من جليد الشمال، وهذا مفلفل الشعر، محروق البشرة عند خط الاستواء، خطوط من الألوان متشاكلة، متداخلة، منسابة مع الحركة وأزهار الحديقة، والشجيرات والأرض الخضراء، والظلال، تتفتح قلوبهم كتفتح الدنيا في عيونهم، ابتساماتهم كأزهار الأقحوان قادمة من فيض الفطرة وإشراقة الصفاء..
تغرب الشمس، تعود العصافير إلى أوكارها، تزم الأزهار شفاهها، ويبدأ الماء بلون الوجوه بمسحة الرماد، فيهدأ الأطفال، ويشعرون بفتور لذيذ يرخي أجسادهم، وانتعاش ممتع يهدهد أرواحهم، يلوذون بأهليهم، ويلتقون في تجمعات حميمية حول أسرهم، ويتهيأون للرحيل. هذا يتعلق بذراع أبيه وآخر بيد أمه، ويبدأون الانسحاب.
رحلت عيون المرأة المكدودة معهم، ظلت تتابعهم حتى تواروا في رماد المساء، وقتها تحسس الرجل الكرسي الخشبي تحته ثم تلفت إليها، أطرقت تدفن العناء المزمن تحت قدميها فظهر الكدر على ملامح الرجل الأكثر وضوحاً، وأغرقها الصمت والسكون ولوم المساء. بعد فترة زفر الجل، ولم يتزحزح عن مكانه، وتنهدت المرأة، ثم نهضت:
– انهض يا رجل.
– إلى أين يا امرأة؟
* * *
الجن الأزرق ملصق على الجدران، والأطباق الطائرة حطت على الأرض، والدينصور الأعظم يمد عنقه، ويفتح فكيه بلا حراك، والأطفال فرق مرمية بين الكتب الممزقة والكراسات المهملة، والشنط المترهلة، وصمت الحجرة غول ترتجف في أحضانه قلوب الطيور البريئة، دارت عيون الأبوين تتحسس الصمت الموحش، ثم ارتدت مستسلمة لهمها اليومي المعتاد.
انحنت المرأة تهدهد الأطفال، وتضمهم إلى صدرها لتحمل الواحد تلو الآخر، وانحنى الرجل يتناول الشنط، ويلملم الكراسات والكتب، حملت الأم الأطفال إلى أسرّتهم، غطت كلّ واحدٍ منهم، وقرأت عند رأسه سورة الفاتحة، ثم تفرغت لبعض شؤونها، وهي في المطبخ رجّتها صرخة أحدهم فعادت تهفو إليه، ضمته إلى حضنها، وشفتاها تهمهم بالبسملة وهو يفرفر كالمحموم، ولحظة أن صحا وأحس بالدفء، التصق بها فأحست بوجيب قلبه الصغير ينقر ضلوعها، فظلت تضمه أكثر، وتربت على ظهره، وتهدهده حتى هدأ، وسكن على صدرها، فأسلمته على فراشه وقرأت عنده (آية الكرسي).
أوت إلى حجرة النوم، سوّت سريرها العريض، وجلست لحظة على طرفه مكدودة مرهقة، ثم تحاملت على نفسها، ونهضت، وقفت أمام المرأة، أنكرت صورتها، فغيرت ثيابها، ورجلت شعرها، ومسّت شيئاً من الطيب، وخرجت، توقفت في الصالة، خيل إليها أنها تسمع أنفاس أطفالها تتردد هادئة: فخفت إلى حجرة التلفاز، كان الرجل يسند ظهره على الحائط، ورجلاه ممدودتان، ورأسه على صدره.
وقفت تحت قدميه، جاءته منها رائحة يحبها، داعبت أنفه، ودغدغت شعوره، فرفع رأسه، مدت إليه يدها:
– انهض.
– إلى أين؟
– إلى السرير.
مدَّ يده، ضمتها بكفها، وجذبته بقوة، فانهارت فوقه، لقد كانت في وقفتها وقتئذ أخف من الريشة، وكان في جلسته أثقل من همَّ الأيام.