يأخذ حسين قيثارة وآخذ أنا الناي، ونسرع إلى الحديقة، هناك نتخذ مكاننا المعتاد على كرسي خشبي، ظهورنا إلى ممر المشاة ومن ورائه ساحة معشبة يلعب فيها بعض الأطفال، وعيوننا ترنو إلى بساط صغير مزهر، ملون بأزهار الأقحوان ذات الألوان البديعة الزاهية…
يلمس حسن أوتار قيثارة، وتلامس شفتاي الناي، وكأننا مع النسيم علة موعد، يهب لطيفا خفيفا متجاوبا مع نغمات الناي والقيثار فتعرش الأزهار آذانها، وترف أهدابها، و تبدا تموج وتتمايل كعرائس يرقصن في ليلة فرح بهيج..
وفي وسط تلك الأزهار المتماوجة ترتفع زهرة حمراء تحزم وسطها بشريط أخضر وتظل ترقص.. وترقص بجنون.. وتظل أزهار الأقحوان حولها تهز رؤوسها وتتمايل وتصفق، ويزداد الرقص والتصفيق كلما نشط هبوب النسيم وارتفعت نغمات الناي والقيثار
وقتها يكون أطفال الحديقة قد تخلوا عن لعبهم ولهوهم واصطفوا وراءنا بلا شعور يهيمون في جونا ويتمتعون بعرس الأزهار ورنة الأوتار.. هكذا كانت أمسياتنا فن ومرح وسلام،
وذات مساء فوجئنا بما لم يخطر على بالنا.. ذلك أن البساط المزهر قد تحول إلى حطام وخراب، وكأن معركة طاحنة وقعت عليه، الأغصان مكسرة، الأزهار مداسه والأوراق معفرة بالتراب، أذهلتنا المفاجأة ألقيت الناي على الكرسي، ورمى حسين بالقيثار، وعبرنا الجداول بخطوات حزينة.. كانت الوردة الحمراء ذات الرقص الرائع قد انقصم ظهرها والتوت رقبتها وتعفر خدها بالتراب، فانحنى عليها حسين ورفع رأسها فأفاقت من غيبوبتها ورفت أهدابها، هتف بها: ماذا حدث يا زينة الحدائق؟.
قالت في أسى: (لقد دخل الحديقة صبية أشقياء، وأخذوا يتشاجرون ويتعاركون حتى ضاقت بهم ساحة اللعب وممرات الحديقة فاقتحموا الجداول وجعلوا من عرسنا البهيج ساحة لأقدامهم وعراكهم، تركونا حصيدا كما ترون)
تأوهت وأغمضت عينيها فقال الناي بحزن بالغ من فوق الكرسي:
– لمن أغني بعدك يا عروس الورود؟.
وقال القيثار:
– سأمزق أوتاري حزنا عليك.
وقلت أنا: (لابد أن نعيد لك الحياة)، ففتحت جفنيها قليلا وأجابتني بصوت ضعيف: (افعلوا ولكني انتهيت..) ثم أغمضت عينيها وفارقت الحياة، فغمرنا الحزن وارتفع أنين الناي، وسالت دموع القيثار، واحترنا في امرنا.. كيف نعيد لها الحياة ؟”
ومن ورائنا جاء صوت عمي الجنائني: (سنعيد لها الحياة ان شاء الله).. قلنا كيف؟.
كان عمنا الجنائني قد أنزل المسحاة من فوق كتفه وهوى بها على الأرض، وظل يعزق الأرض، ويرشدنا كيف نساعده، فكنا معه ننقي الشوائب ونمهد الثرى، وكان القيثار والناي ينشدان لحناً على إيقاع المسحاة حتى استوت الأرض بجداولها وحياضها، بعدها توقفنا عن العمل ورأينا وجه عمنا الجنائني يتهلل والعرق يتصبب من جبهته، ولم يلبث أن اخرج البذور من مخلاته وأخذ يزرعها ويرينا كيف نواريها الثرى، و أخيراً ربت على أكتافنا وقال تعالوا لنستريح.. جلسنا جميعا على الكرسي الخشبي أنا على يمينه وحسين على يساره وعيوننا على الأرض التي عزقناها وزرعناها.
وكان أطفال الحديقة قد تداعوا وراء ظهورنا يراقبوننا دون أن ندري، قال عمنا الجنائني:
– يا أبنائي الأعزاء.. سوف ترون كيف تعود الحياة للأزهار،؟ أيام وتشق الأرض، ثم أيام أخرى وتكتسي الأرض ثوبها الأخضر، ثم أيام أخرى وتعود الأزهار بألوانها الزاهية الى الرقص.. وما علينا جميعا إلا المحافظة على الحديقة والوقوف ضد الصبيان الأشقياء الذين يشوهون جمالها ويخربون جداولها.. ثم ربت على كتفينا وهو يضيف: عليكما بالعزف والإنشاد ليعود للحديقة عرسها وتعود للحياة بهجتها.
لحظتئذ تهلل وجه حسين ولامست أصابعه أوتار القيثار، فابتسمت ورفعت الناي الى شفتي.. فارتفع تصفيق الأطفال من ورائنا إيذانا بعودة الحياة الى الحديقة.