نمر سعدي/ فلسطين
من أجمل التوصيفات التي تتسمُّ بها عمليَّةُ الإبداع أنها ممارسة حرَّة.. إلى أقصى حدود الحرية المطلقة لفن من الفنون.. وهي شرط أساسي في عملية الخلقِ والابداع.. فمن دونها لا نستطيع أن نطلق على النص أو العمل الفني صفة مبتكر.. لأن ثمَّة قيود تعيق طيرانه في فضاءات الجدَّة والأصالة والانعتاق. من دون عيون الرقيب التي تحدُّ من جموح الطائرِ واتِّساع الفضاء.
واذا نظرنا إلى علاقة المثقف المبدع بالسلطة أو المؤسسة الحاكمة فإننا نجد شيئاً من الالتباس الغامض أو شبه حلقة ناقصة في فهم سيكولوجية هذا الإنسان المختلف.. علاقة ملتبسة غامضة كثيراً ما تؤججُّ الصراع والمواجهة بين الطرفين.. بين فكر سائد وفكر متغيِّر.
قالَ لي مرَّةً شاعرٌ صديقٌ أن الكتابة في المواقع الأدبية الالكترونية تتسمُ بطابع عبثيِّ ما وتختلفُ شيئاً ما عن الكتابة الأكثر أهميةً والتوثيقية التي نحتفي بها وننشرها فيما بعد في كتبٍ كما هي من دون أن نبدِّل عبارةً هنا أو جملةً هناكَ إلا تلك السطور التي من الممكن أن تلتبسُ في مفهوم السلطة فيساقُ كاتبها بسببها إلى دهاليزِ السياسةِ والسجون المظلمة.. وتابعَ بأنه يكتبُ بحريةٍ وبحماس أكثر على صفحتهِ في موقع التواصل الاجتماعي في الفيسبوك ولكنه عندما أرادَ أن يصدر ديوانهُ الجديد أسقط منهُ كل ما يتعلَّق بمواقفهِ السياسية خوفاً من تأويل خاطئ لها من قبل السلطة التي غالباً ما تحضرُ في النصِّ حسب قول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش..
كلنا يعرف المصير التراجيدي للكاتب العباسي عبد الله بن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة.. ذلك الكتاب الذي ألفَّه الفيلسوف الهندي بيدبا على ألسنة الحيوانات ولكنه في مضمونهِ حوى نقداً لاذعاً للسلطة السياسية.. وقرأنا عن كتَّابٍ وشعراءٍ عالميين عانوا من الرقابة على كتاباتهم أمثال الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت والشعراء العراقيين عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وسعدي يوسف والشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم والشاعر الاسباني لوركا والشاعر المصري محمد عفيفي مطر الذي عانى من الرقابة وظلم المؤسسة الحاكمة معا.. والكثير غيرهم.. فمن الصعب الاحاطة بمن عانوا من نير وسطوة الرقابة على ما يكتبون.. فالنظامُ يدرك بما للكلمة الصادرة من كاتب أو شاعر لهُ مركزه وقوَّته من خطورة وسرعة انتشار لذلك نجدهُ يحاصر قرائحَ الشعراء ويقيِّدُ أفكارهم التي تتوثَّبُ للحريَّة لأنهم محرِّكُ الشعوب وضميرها اليقظ.. أتذكرُ شاعراً كان كلمَّا كتبَ شيئاً جديداً أو قامَ بنشاط ثقافي معيَّن تداهمُ بيته قوَّات الأمن بحثاً عن ما سيقضُّ مضجعها في أشعارهِ.. وكانت تدعوهُ في غرفةِ التحقيقِ إلى الكتابة عن المشاكل الوجودية والكونية أو يكتب عن المرأة.. عن كلِّ شيٍء في الحياةِ سوى عن مشاكلِ بلدهِ السياسية والتمييز الذي يعاني شعبهُ منه.
الشعراء النبوئيون أو الاستفزازيون هم من يشكِّل حالة قلقٍ مريرٍ لأيِّ نظامٍ سالبٍ لحريَّةَ شعبهِ أو يشكو من وخزة الألم والندم تجاه تقصيرهِ في قضايا كثيرة.. ولكن هذه الزمرة من الشعراء لم نرها تحيا بسعادة وتتناسلَ إلا في ظلال ديموقراطيات دول الغرب بينما انقرضت ولم يعلم بوجودها أحد في دول ذات أنظمة قمع واستبداد وظلم.. والشعراء والروائيون والفنانون الذين قتلتهم كتاباتهم في القرن العشرين وحده لا يكادون يحصون ومنهم من أبادته الشيوعية ومنهم من قضت عليهِ الفاشية. ونستطيع أن نرى أسراب الطيور المهاجرة من الشعراء من أوطانهم إلى المنافي في دول أمريكا وأوروبا.. كل ذلك بفعل مقص الرقيب الذي يتربَّصُ بأوراقهم وأجنحتهم معا.
في نظري لن تتطور أي كتابة وتصل إلى ذرى انسانية سامقة ما لم تحظى بفسح الحرية والجمال والبحث عن جوهر الحياة المطلق.