تربطني بالفن المسرحي تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً علاقة قديمة عندما كنت ناشطاً في مطلع الستينات وربما إلى مطلع السبعينات في هذا المجال حيث قمت بتأليف وإخراج وتمثيل عدد من المسرحيات وتوليت إنشاء وادارة احدى الفرق المسرحية هي فرقة المسرح الجديد ثم تركتها لأصبح عضواً في المسرح القومي الذي أنشأته الدولة في منتصف الستينات وذهبت في تلك الاعوام إلى بريطانيا لدراسة هذا الفن من جوانبه المختلفة وعدت في مطلع السبعينات من القرن الماضي لأساهم في تأسيس وإدارة المعهد الوطني للتمثيل والموسيقى في ليبيا، حيث قمت بإخراج مسرحيات عدة من تأليفي كان من بينها الاوبريت الغنائي هند ومنصور ومسرحيات زائر المساء وصحيفة الصباح كما وقفت على خشبة المسرح، مؤدياً لمونولوغ شعري باللغة الانكليزية لجمهور من الاجانب كان هذا المهرجان الذي توليت الاشراف عليه منذ اربعة وثلاثين عاماً هو آخر عهدي بالممارسة الفعلية المسرحية حيت تفرغت للكتابة وسافرت في مهمات ديبلوماسية وثقافية واقتصر اتصالي بعالم المسرح على شيئين هما المشاهدة والكتابة، ولكنني عدت الاسبوع الماضي إلى خشبة المسرح في بادرة لها سوابقها وهي أن أقوم ككاتب بتقديم جزء من سيرتي الذاتية على خشبة المسرح، في مهرجان عالمي للمسرح هو ثالث مهرجان عالمي بعد مهرجاني أدنبرة اوفينيون، وهو مهرجان سيبيو برومانيا، وقد تلقيت دعوة للمشاركة في المهرجان فلبيتها عائداً للتمثيل المسرحي بعد هذا الانقطاع الطويل وقد شجعني على ذلك أن عدداً من الكتّاب في العالم الغربي قاموا بذلك كان آخرهم الكاتب المسرحي البريطاني الشهير ديفيد هير الذي ظهر على خشبة مسرح رويال كورت يقدم مونولوغاً مسرحياً عن انطباعاته التي استقاها من زيارة إلى القدس تصور بشكل فني طبيعة ذلك الصراع الذي يحكم العلاقة بين قاطني تلك المدينة من عرب وإسرائيليين، كذلك فإن الكاتب المسرحي البريطاني الاشهر الذي فاز العام الماضي بجائزة نوبل للآداب هارولد بينتر لم يكن يتحرج من المشاركة في التمثيل في بعض مسرحياته بعد انقطاعات قد تدوم سنوات عدة أما آخر المشاركين في مثل هذه المغامرات الفنية التي تتصل بالتمثيل المسرحي فهو القسيس الافريقي الحائز على جائزة نوبل للسلام والكاتب في القضايا الافريقية ديزموند توتو، حيت شارك في أمريكا في مسرحية تدعو للتعايش السلمي بين الأعراق والأديان، واحتداء بهؤلاء الكتاب العظام قررت مواجهة التحدي وحباني الحظ بأصدقاء ساعدوني بينهم صديق من رومانيا هو البروفسور سورين ستارتلات الذي يقوم بتدريس المسرح والسينما في الجامعات الأمريكية وله تجارب في إخراج أفلام ليهولوود والمخرجة الكاتبة السيدة فاسيليكي كابا، للقيام بعمليات الإخراج والإشراف والإنتاج الفني تطوعاً ومشاركة في هذه المسرحية التي تنتمي للمسرح الفردي بعنوان صورة جانبية لكاتب لم يكتب شيئاً، كما وجدت تشجيعاً أيضاً من شخصيات رومانية كبيرة من بينها السيد وزير خارجية رومانيا والسيد وزير الثقافة عندما استشرتهما في موضوع هذه المشاركة بل إن هذا الموضوع ورد اثناء مقابلة لي مع الرئيس الروماني السيد بوبيسكو عندما ذكرت له بأن سفارتي في بلاده ممثلاً لوطني لا تقتصر على الجانب الدبلوماسي والسياسي، وإنما سفارة ثقافية حضارية تحرص على تحقيق التفاعل وتعميق الحوار بين الثقافة التي أمثّلها وبين ثقافة هذا البلد وبناء الجسور بين بلاده وبلادي على اكثر من صعيد من بينها الصعيد الثقافي باعتبار أن رومانيا هي إحدى أعرق الدول في اوروبا الشرقية اهتماماً بالفنون والآداب ولها تراث كبير في هذه المجالات، أما عن تقديم المسرحية باللغة الانكليزية فذلك لأن المهرجان يحبذ أن تكون أعماله بهذه اللغة التي يتواصل بواسطتها هذا المحفل الكبير بجوار اللغة الرومانية لغة البلاد، ثم إن المسرحية هي بالتأكيد مسرحية عربية كتبتها بلغتي الاصلية فهويتها الثقافية العربية محفوظة لا يمسها أنها قدمت بلغة اخرى كما تبقى مثلاً هوية مسرحيات شكسبير تحمل هوية الثقافة الانكليزية التي أنتجتها حتى وهي تترجم لأية لغة من لغات الارض.
المهم أنني وقفت لأكثر من ساعة أعرض علاقة الكاتب بالظروف التي حوله من بينها صراعه مع القوى الرقابية التي تحاول الحد من حريته وتسخيره لخدمة أغراضها ثم علاقته بأبطال قصصه والشروط التي تحكم هذه العلاقة ومن بينها القواعد الحاكمة للاعمال الادبية وعالم القصة وما يقتضيه من التزام بحقائقه التاريخية وظروفه الاجتماعية والاقتصادية ثم موقفه من تلك الهوة التي تفصل الواقع عن المثال، مقتبساً من بعض القضايا التي تعرضت لها أثناء تعاملي مع عالم الكلمة خلال أكثر من أربعة عقود امثلة ونماذج ، وقد أذهلني الاستقبال البالغ الحماس والتشجيع الذي حظي به العرض بالرغم من أن لغة المسرحية لغة ادبية لأن الذي يتحدث بها الكاتب نفسه مقترباً من لغته الابداعية ومقتبساً بعض تعابيرها ذات النفس الشعري وليست لغة الاستخدام اليومي التي تتكلم بها المسرحيات التي تتناول القضايا الاجتماعية، كان المسرح مسرحاً طليعياً صغيراً ممن لا تزيد مقاعده عن مائتي مقعد كانت كلها مليئة بأعضاء المهرجان القادمين من مختلف دول العالم مع بعض المتابعين لأعمال المهرجان من قاطني المدينة وزوارها وأترك للكاتبة السيدة كاتالينا جورجي التي حضرت العرض وكتبت عنه في اكبر الصحف الرومانية الصادرة في بوخارست وهي صحيفة كوتي ديانول مقالاً طويلاً يفيض بالتقدير والاعجاب يوم الاثنين الماضي 6ـ6ـ2006 وسأنقل فقط وصفها لرد فعل الجمهور الذي قالت عنه: (( وقف الجمهور على قدميه مصفقاً له (أي للكاتب مقدم العرض) أكثر من عشر دقائق متواصلة، وبعد العرض حضر إليه أحد الفنانين الرومانيين واعترف بأن هذا العرض المسرحي كان اهم عرض مسرحي شاهده في مهرجان هذا العام )) وقد أعادني هذا التصفيق الحماسي الحار إلى ذكريات وقوفي لاستقبال مثل هذا التصفيق في أعوام قديمة كانت هي بالتأكيد أجمل وأحلى المكافآت التي يتلقاها فنان العرض وتتجاوز أية مكافآت فنية ومعنوية يحصل عليها، كما أن مثل هذا الاستقبال الذي يتلقاه فنان العرض مباشرة اثناء تقديم فنه وهو التواصل الحي الخلاّق بينه وبين جمهور العرض هو الذي يعطي لفن المسرح مذاقه الخاص الذي يميزه عن الفنون الاخرى التي مهما كانت جماهريتها كاسحة طاغية لا تتوفر على مثل هذا التماس الانساني الجميل.