سيرة

امرأة خارج العزلة (الجزء الاول)

ملامح من سيرة الرائدة الليبية خديجة عبد القادر

خديجة عبد القادر

(الجزء الاول)

(… هذا ما يجعلُ الذات تقوم بهذا السعي آخذةً على عاتِقها مهمة التألق, إذ كل تألُق هو موقف تجاه الحياة والتجربة، وهذا الموقف يمثلهُ في أسمى معاني المُخاطرة والمُجازفة ورُوح المُبادرة، “كُن أنت”).  نيتشه

رغم تعدد الأقلام النسائية الليبية وتنوع موضوعات انشغالاتهن الأدبية خمسينيات وستينيات القرن المنصرم(1)، ورغم تحقق الريادة في السفر والترحال طلباً للعلم لمن كانت رائدة الحركة النهضوية الليبية المبكرة حميدة العنيزي التي غادرت إلى تركيا في عام 1911م لتعود مفتتحة لمدرسة تعليم البنات في بنغازى 1921م، ومن تنشغل بالعمل الاجتماعي مؤسسة لأول جمعية نسائية ليبية 1953م، وكذا الحال بالنسبة لمجايلتي خديجة عبد القادر: رباب أدهم، وماجدة المبروك اللتين كانت وجهتهما الجامعة الأمريكية في بيروت (1959،1958م) إلا أن تجربة خديجة عبد القادر في الكتابة السيروية المنسية بدت كحالة استثنائية لمن تجرأت على البوح والإعلان عن مُخالفتها للمألوف مُتجاوزة لصرامة التقاليد الاجتماعية المحافظة آنذاك إذ توثق لتاريخ من حياتها في مدخل إصدارها الأول والوحيد (المرأة والريف في ليبيا 1961م) لأول ليبية توفد للدراسة العليا بمصر 1956م متخصصة في التربية الأساسية وتنمية المجتمع، ثم لرحلتها الثانية الى لندن 1961م لتطوير تخصصها الوظيفى في مجال علم المكتبات في سلسلة حلقات (31 حلقة) نشرتها بصحيفة طرابلس الغرب صفحة يوم الأحد (من 11/11/1962 الى7/7/1963م).

وخديجة عبد القادر عبد القادر الشريف مواليد 1938م، شارع كوشة الصفار, زنقة عين الجمل، رقم 37، – المدينة القديمة – طرابلس، تحصلت على الشهادة الابتدائية عام 1950م، وتخرجت من معهد المعلمات عام 1954م, لها شقيقة واحدة وثلاثة إخوة أكبرهم على صدقى عبد القادر(2) الشاعر الوطني والمحامي المحنك من كان الأب والأخ والصديق بعد فقدها لوالديها في مرحلة مبكرة من طفولتها عام 1941م كما كان له الدور الأكبر في النضج المبكر لشخصيتها مما ساهم فى خلق آرائها التحررية وهي تصيغ مشروعها الاجتماعي، فعلي الشاعر الإنسان من الذين ارتقوا في نظرتهم للمرأة ودورها في زمن بالكاد تتجاوز فيه الفتاة الليبية عتبة البيت وإذا ما تجاوزته فبرفقة ذكر من المحارم، وإذا ما بلغ بها التحرر أقصى مداه فهي المُدرسة (المُغلفة) المُختفية تحت نقابها.

• المرأة والريف في ليبيا:

غلاف كتاب_المرأة والريف في ليبيا

المحكي الأستعادى الأول لخديجة في مصر وإن لم يتجاوز العشرين صفحة – عدد سني عمرها آنذاك – إلا أنه يمثل وثيقة تاريخية توثيقية لأهم أحداث رحلتها الاغترابية المفردة المنفردة في آن، والتي تنبئ عن وعي ونضج خديجة وعن ذهنية تقدمية إذ تستفيد من معطيات الزمان والمكان وهي من تقدم أنموذجها للفتاة الليبية المتطلعة إلى تحقيق ذاتها ومن تزود بلدها بأهم المشاريع الفكرية التنموية -ما سأعرض له لاحقا-  والجميل أن تقديمها لم يكن تقليديا حيث جعلت من أطروحتها (عنوان الكتاب) جزءا مكملا لسيرتها في المكان .فخديجة عبد القادر من شقت بذاتها المتوثبة طريقاً اختارته بملئ إرادتها في واقع المرأة آنذاك، ومن طرحت أسئلتها عن كيفية أو إمكانية ترقيها المعرفي متجاوزة حالة الحجاب والعزل وتخلف أوضاع المرأة الاجتماعية لتجعل من هاجس الدراسة والتحصيل العلمي شاغلها وهي من تلاحق ما تخرجه المطابع من كتب وتعكف على القراءة والدرس وتعمل على إغناء ثقافتها وتجديدها بجهود لا تعرف الكلل مترسمة خطى الجدية والمثابرة على العلم  تكتب خديجة فى مدخل سيرتها فى المكان الأول مصر: “لازمتني فكرة الدراسة المنهجية المنتظمة، ولكن أين؟ أفي الخارج؟ وهل تستطيع الفتاة الليبية أن تخرج وتسافر؟ الفتاة الليبية التي لم تختلط بالرجل؟”.

حين أدركت أن هناك حدوداً تقيد أحلامها وهواجسها الطموحة في حيز المكان حيث تأخرت فرص التعليم الثانوي والجامعي في ولاية طـرابلس حتى عام 1958م، إلى أن رشحت لنيل دبلوم مركز التربية الأساسية فى العالم العربى بسرس الليان بقرية المنوفية بمصر عام 1956م.

ونقرأ في اعترافها وهي تشد الرحال للدراسة في مصر بعضا من لحظات التردد وبقايا رهبة الحاجز الاجتماعي العائق الوحيد آنذاك: “وجدت نفسى تجذبها عوامل سلبية واخرى إيجابية، فالأولى تحثنى على الرجوع الى أهلى ووطنى بالطائرة التي اتيت بها وهذا الشعور ينزع بالانسان لحياة الاستقرار للهروب من المسؤلية والثانية تحثنى على الكفاح والتضحية من أجل إرضاء رغبة الطموح لخدمة المجتمع الانسانى”.

لكن (علي) المُحفز والمُشجع  لشقيقته من دعاها إلى التمسك بخيارها وطموحها, فرسائله لم تكن لتنقطع دفعا وتعزيزا لثقتها بنفسها، وهنا أُذكر بحديث دار بيني وبين الشاعر علي صدقي وأنا بصدد هذه الإلمامة بالسيرة المرجعية الواقعية لخديجة وقد علقت على اعترافها بدوره سواء في كتابها (المرأة والريف في ليبيا) أو في مذكراتها الصحفية (ليبية في بلاد الإنجليز) فأشار إلى أن ذلك يعود أيضا الى شخصية خديجة المُتحفزة والجريئة بما فيها من جسارة وحماسة وتشبع بروح المغامرة منذ خطت خطواتها الأولى.

• بالطائرة إلى مصر:

خديجة من ملكت الروح المغامرة -والقتالية أحياناً- والتي استطاعت بها أن تتجاوز كل بوادر الخوف والرهبة بعد الدقائق الأولى لصعودها الطائرة، وصادف أن كان أغلب مجاوريها في الطائرة من الأجانب، وهنا لا نغالي إذا ما أكدنا أن السفر بالطائرة لوحده كحدث تحولي لم يكن متاحاً ليطاله مواطن عادي فقد ظلت وسائل النقل حدودها السيارة، وقلة قليلة تغادر حدود الجغرافيا الليبية.

غلاف كتاب_ليبية في بلاد الإنجليز

وخديجة التي حظيت بهذه الميزة مبكراً ملكت شعوراً يبيح لها ككائن – وهي الأنثى – في الحق بالعيش في حياة منفتحة لإيمانها بالموت للإنسان ما لم تكن له القدرة والرغبة للتطلع لاستحقاقه التمتع بالحياة وعيشها كما هي.

وكان أن بدد صورة الرهبة والخوف من السفر والانفراد بعيداً عن الأهل والوطن استقبال مدير المعهد العالي لخريجي الجامعات مصطفى سعيد قدري، وهو من قام بكتابة مقدمة (المرأة الريف في ليبيا) مبرزاً ما لمسه في الآنسة خديجة من طموح وتطلع لخدمة مجتمعها.

وإذ تتدرج خديجة في حكيها عن انطلاقتها الأولى بعد وصفها المعنوي والنفسي لرحلتها وبعد مُضى يومها بكل ما فيه من مغامرة جديدة انذاك، لتنتقل الى التفكير بالدراسة والتي هي الهدف الأساسي لاغترابها هذا، فقد ولجت المعهد العالي وابتدأ المشوار الدراسي، ولكن كيف واجهت خديجة عالمها الجديد ؟ تقول خديجة من جملة ما كتبت: (دخلت زمرة الطالبات والطلبة بقاعة المحاضرات التي لا تنقطع طيلة اليوم, وقد وجدت بعض الصعوبات في الحياة الاجتماعية هناك في بادئ الأمر, بينما لم أجد أي صعوبات بالنسبة للمواد التي تُدرس).

أتراهُ كان إحساسـاً طبيعياً بحكم انتقالهـا من مجتمع منغلق محافـظ حد التزمت (طرابلس) إلى مجتمع شاعت فيه الحريـة الاجتماعية (القاهرة)، ولكن ألم تكن هذه البيئة وبما تحقق فيها من مكاسب لصالح المرأة ما تطلعت إليه وحلمت به، لذلك فإن خديجة سرعان ما تندمج مع الطلبة والطالبات العرب في المعهد وقد جدت أنها جديرة بأن تتحمل أعباء مسئوليتها على نفسها, وأن لا مجال للتراجع عن أهدافها التي ترسمتها وعولت على تحقيقها وبما أتيح لها في وقته.

ولم تمض شهور على إقامتها في المعهد بمصر حتى فوجئت بالعدوان الثلاثي (حرب 1956م) إبان تأميم قناة السويس وبنفس السنة والتي جعلت من الحكومة المصرية تعلن حالة الاستنفار للحرب في كل أنحاء مصر وتجنيد مواطنيها. وبالفعل فلم يستثن من ذلك المؤسسات التعليمية بما فيها المعهد العالي لخريجي الجامعات الذي كانت خديجة إحدى طالباته فقد جندت كأي مواطن مصري للدفاع عن هذه الأرض العربية وتصف لنا الحدث فتكتب: “أفقتُ ذات صباح بعد أن عشتُ على أعصابي مع الشعب العربي أيام الرعب, فإذا بالأسلحة وثياب الكاكي العسكرية تكدس بالمعهد… وفتحت عيني مندهشة في أول الأمر كما لم أفتحهما من قبل… وبطريقة تلقائية وجدتني ضمن الطابور الواقف أمام المدرب العسكري أستلم بدلتي الكاكي العسكرية وسلاحي, ومضيت في التدريب على الأسلحة الخفيفة المختلفة”.

ولعلنا نستشف ارتفاع الحس القومي عند كاتبتنا وهي من تسطر بقلمها رصدها لحدث تأميم القناة بصفته (تجربة كبيرة حامية) مما يؤكد وطنيتها وقوميتها اللتين لا تحدهما حدود ولا فواصل ولا يفوتنا أن نذكر هنا أنها أول ليبية ترتدي الزي العسكري النظامي وتحمل السلاح مُتحمسة للدفاع عن قضية وطن, ووسط تلك الأجواء المشحونة بالترقب تورد حادثة طريفة وإن كانت وقفة خديجة عندها ينبئُ عن وعي حقيقي بالأزمة وجوانبها ففي حين اجتمعت فلاحات المنوفية – وعلى رأسهن صاحبتها – لمنع الأستاذة الخبيرة الهولندية من دخول المعهد أثناء تلك الأزمة لكونها أوروبية تنتمي لإحدى الدول المؤيدة – بحسب فهمهن البسيط – وأنها مشمولة بعداوتهن، رغم محاولة الأستاذة الدفاع عن موقفها الذي كان محايداً وأن لا شأن لها بالسياسة.

وتسترسل خديجة في سرد أحداث اندماجها ومعايشتها اليومية لحياة القرية المصرية المتواضعة في المنوفية التي كانت ضمن الحصص العملية لتتعرف الطالبات على المجتمع الريفى في نموذجه المصري، وهى من تنسجم وتتآلف مع الفلاحات البسيطات بين الترعة والجاموسه وبيت الطين!.

_______________________

نشر بموقع ليبيا الستقبل

(*) مقدمة كتابي (ليبية في بلاد الانجليز – خديجة عبد القادر) – صدر 2009.

1. مرجعيتي في ذلك الدراسة الرائدة للكاتبة الأديبة شريفة القيادى – رحلة القلم النسائي الليبى – منشورات ELGA – 1997 وهى دراسة هامة ووحيدة متتبعة لكل الأقلام الصحفية النسائية الليبية من 1940م الى 1970م مع توثيقها لنماذج من منجزها.

2. شاعر الشباب على صدقي عبد القادر مواليد 4/6/1924م زنقة الخلوة بحى الظمرة – طرابلس وهو من أثارت شخصيته وتجربته الشعرية كثيرا من الجدل، وقد تم الرجوع فيما ورد من معلومات بالإضافة إلى مقابلتي الشخصية للشاع، والى دراسة: نجم الدين غالب الكيب – شاعر الشباب على صدقي عبد القادر – المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس – ط2 -1985م

مقالات ذات علاقة

للتاريخ فقط (26)

عبدالحميد بطاو

الحياة من خلال عدسة التصوير

رامز رمضان النويصري

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (59 )

حواء القمودي

تعليق واحد

امرأة خارج العزلة (الجزء الثاني) | بلد الطيوب 26 أغسطس, 2015 at 04:00

[…] – طالع (الجزء الاول) […]

رد

اترك تعليق