عزلة ليبيا التي كرّستها حقائق الجغرافيا، ومفارقات التاريخ، وأنماط العيش وغرابة أطوار الإنسان، أي (المواطن الليبي) الذّي عُرِّف دستوريا بهذا الاسم فقط منذ ما ينيف عن الستين سنة وهو يؤسس بإصراره وبدعم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وبرعاية منظمة الأمم المتحدة الوليدة بعد الحرب لأول مرة في التاريخ دولته الوطنية المستقلّة عام 1951، هذه العزلة الصاعقة جعلت من ليبيا بلدا مُقصىً من مقبولية التفهّم، بله التعرّف، حتى من جيرانها الأقربين، بل غالبا ما أوقعت إنسانها، أي (مواطنها) بفضائله ورذائله في المنطقة الرمادية لمكر التاريخ التي يمكننا تسميتها بدائرة(سوء الفهم).
لن نذهب بعيدا في التاريخ. ولنبتدئ بالحدث الذي وقع في آواخر خريف عام 2011 في تونس وفَجَأَ العالمَ، بتداعياته التي عُرِّفت تجاوزا بثورات الربيع العربي الذي انتقلت شرارته ربيعا مبكّرا كالريح في بلدان عربية أخرى كمصر واليمن، وربما البحرين وسوريا قبل أن تنزلق فيما سُمّي من قبل المحللين السياسيين إحباطا: بالنموذج الليبي للثورة، وهو مايلتبسها حتى الآن.
الربيع التونسي اتخذ له شعارا وِدّيا ومدنيا هو زهرة الياسمين المحبّبة في تونس، وهو ماتلقّاه العالم منذهلا ومراقبا، وتلقّفته الأنتلجنسيا العربية ذات التوجّه العلماني ممتنّة مَعْلَما مدنيا، تزيح به الصورة الإسلامية العنيفة والمتشدّدة،التي هيمنت على المشهد الإعلامي الغربي مكرّسة الانتفاضات في المنطقةالعربية ـ الإسلامية ضد الاحتلالات والدكتاتوريات والاستبدادات الأُليجارشية من أفغانستان مرورا بالصومال وفلسطين وحتى الجزائر، في صورة مشوّهة أكّدتها جملة أعمال العنف التي طالت شعوب المنطقة نفسها وحوادث الإرهاب التي استهدفت مواطنين غربيين أبرزها الهجوم الذي طال مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001، واتهم به مسلمون متشدّدون أغلبهم عرب منضوون فيما عرف بتنظيم القاعدة الإسلامي.
المنتفضون الليبيون المجهولون، بحكم عزلتهم التاريخية من الجميع، المغيّبون لسنوات طويلة وراء العباءة القاتمة للدكتاتور، وكثبان الرمال التي تنبعث منها ألسنة لهب النفط، والذين دخلوا المشهد التغييري دون استئذان، ولم يعرف بعضهم الياسمين إلامن ذاكرة مغنٍ طرابلسي أعمى تذكارا عن ماضي الحب وأفراحه، ولكونهم يعرفون جيّدا الصبّار نبتة ثمرها مقرّص وأزهارها شحيحة مصفرّة، تحميهما ألواح شائكة تصلح سياجا يرغب في أكلها الجمال،.فإنهم سيجوا منذ الأيام الأولى ما أسموه بثورتهم في السابع عشر من فبراير 2011 بأشواك الأسلحة التي تداولتها أيدي المنتفضين بسلاسة فانتصروا بها توافقا مع إرادة دولية ارتأت تغييب أبشع وأغرب دكتاتورية من المشهد السياسي الدولي. الأمر الذي لم يكن مفهوما ومتفهّما من جميع المراقبين والمحلّلين الذين مازالو مسحورين برومانتيكية الياسمين في انتفاضة تونس.
إلا أن هذا السلاح الذي انتصر به الليبيون في ثورتهم، بعد أن تراكمت عليه أسلحة من كل حدب وصوب هو ذاته الذي أعاقوا به تواطؤا مع مصالح محليّة وأجندات دولية وإقليمية مختلفة تتداخل إلى حدّ ما مع هذه المصالح دون تحوّل بلادهم بعد التحرير إلى دولة السلم والرفاه التي حلموا بها طوال أربعة عقود من أزمنة الاستبداد الحالكة، كما أفشلهم أيضا من تمتين مشروعية مؤسّساتهم السياسية التي توفّرت فيها إلى حدّ ما الاشتراطات الديمقراطية والتي كانت محطّ دهشة العالم وإعجابه ، فحوّلوها إلى أشكال سياسية هشّة مُلحقين بليبيا التي حرّروها بدمائهم وعذاباتهم وصمة الدولة الفاشلة؛ بل ما انفكّ هذا السلاح مع تداول الوقت أن يكون عاملا مؤجِّجا لفوضى العنف والموت التي شملت تقريبا كل بقاع ليبيا وبالأخص عاصمتها طرابلس ومدنها الهّامة كبنغازي ودرنة وبعض مناطق الجنوب، ومُشكّلا أيضا عنصرا فاعلا في تراجيديا الاغتيال التي يترّبص في مشهدها اليومي القاتل المجهول/المعلوم بضحيته المعروفة والمغمورة مصوّبا سلاحه الذي لايخطئ في إصابة ضحاياه الذين وصل رقمهم في هذا العام 2014 فقط أزيد من 250 مغدورا به حسب الإحصائية الأخيرة لمنظمة(هيومن رايتس ووتش)، حصدت بنغازي وحدها نسبتها الأكبر التي شملت عسكريين وطيّارين ورجال أمن(متقاعدين وعاملين) كما حاقت أيضا بقضاة وحقوقيين ووعّاظ دينيين، وصحفيين ونشطاء في المجتمع المدني.
بل تمادت أخيرًا ولأسباب غير معروفة حتى الآن، ربما تماهيا بعيد الأضحى، في استهداف تجّار أغنام وخرافهم بالقتل العنيف، في صورة مرعبة وثقّتها صحيفة الوسط الألكترونية ذكرتني بالمجزرة الدموية المحزنة التي شهدها تينكو الأبكم احد شخصيات رواية (ليتوما في جبال الأنديس) للكاتب البيروني( ماريو بارغاس يوسا) حيث استهدفت عناصر مسلّحة من جبهة (الدرب الوضئ) اليسارية الراديكالية في التسعينيات قطيعا مسالمًا لحيوانات (الفكونا) في ضيعة بامبا غاليراس الأنديسية بغرض الإساءة دوليا للحكومة البيروانية والطعن في دعايتها السياسية البيئية وفضحها نموذجا كمبرادوريا تابعا للرأسمالية والتي للمفارقة نعى الكاتب الليبي(صادق النيهوم) أيضا نسختها الديمقراطية المشوّهة عن الأصل الليبرالي الغربي في مقدمة مقالة كتبها قبل وفاته في مدينة جنيف عام 1995 ضمّها كتابه ( الأسلام في الأسر) بعنوان (قفزة في الظلام)، وهو ما عناه مبكّرا واصفا مدينته بنغازي: بمنطفة العالم المظلمة، في رسالة بعثها في بدء أعوام الستينيات لصديقه الكاتب الليبي خليفة الفاخري من قرية في جنوب ألمانيا وكان قد شرع في دراسة اللغة الألمانية استعدادا لتحضير أطروحته في الفيلولوجيا منعته مستقبلا أسباب تتعلّق بالبيروقراطية وسوء الحظ من إنجازها.
معيدا الكتابة في نقطة الظلام ذاتها في خراريفه التي كتبها في منتصف الستينيات من القرن المنصرم وأهداها لأبنه الذي ولد في هلسنكي (بفلّندا) كي ينتفع بها فيما لو صار في يوم ما مواطنا ليبيا، محدّدا هذه المرة موقع بنغازي طبوغرافيا على بعد خمسة أميال من جهنم.
كما كرّر هذا الوصف مرة أخرى في مقالة نشرها في منتصف ستينيات القرن الماضي في صحيفة الحقيقة الليبية واصفا مدينته بنغازي بغولة مدينة معلّلا ذلك بأن روحها الحقيقية ماتت في الحرب دون أن يلتفت إلى معاني ودلالات اسم الغولة في (المنجد) اللغوي وجمعها: أغوال وهو مايتلوّن ألوانا من السحرة وهم من عناهم دائما في كتاباته أي المواطنين العلنيين الذين حارب طبائعهم وذهنياتهم باستماتة دون كيخوثية طوال رحلته الفكرية الشائقة، والذين استبصرهم من منفاه في الشمال الإسكندينافي يخوضون كل يوم في أسباخها العطنة ويدبّون في شوارعها المتربة مع أقرانهم السرّيين من المرابطية والجّن الذين تفلوا عليه من تحت القبور والخرّارات ورموه بالأحجار متربصّين به أشباحا في أزقّتها المظلمة المسماة بأسمائهم كـ(بوغولة وبو حبلة) وهو ماسرده في المقالات التي ألهمت جيلنا من كتابه(فرسان بلا معركة).
أما مالم يغب عن ذاكرتي فهي المقالة المضمومة في كتابه (تحية طيبة وبعد) والتي أدان فيها استنادا على ذاكرة طفولته إرادة التواطؤ الجماعي مع المشهد الدموي العنيف الذي كان يستهدف الخراف كل عام في أعياد الأضحى.
وأنا إذ أجلس اليوم وحيدا على مقعد خشبي قبالة نهر الراين متأملا مياهه التي تشّقها الأضواء الغامضة غموض حياتي ومستقبلي متذكّرا مقالة النيهوم التي استلّت دموع الضحك من أعيننا عندما قرأناها شبابا، متأسفا بحرقة الحزن على ما تشهده بنغازي وطرابلس التي تركتها تخوض في دوامة العنف والانتقام الأخوي بل ليبيا كلّها وهي تغرق في مشهد العبث والدمار عابرا الحدود التونسية على الأقدام في الصباح المبكر من ثاني أيام عيد الفطر متسائلا: هل كان النيهوم: يُنبّي عن مدينة قابيل التي ستكونها بنغازي عام 2014 م والتي ذكرها الشاعر الرومانتيكي وليم بليك في قصيدته(شبح قابيل) أنهّا شُيِّدت بقربان الدم البشري لا بدم الثيران والماعز.