تعتبر النكتة نشاطا إنسانيا قوليا ينتمي إلى عالم المشفاهة. فهي فعل كلامي شفاهي حتى ولو كتبت، ذلك أن المقصود من كتابتها هو يتم تداولها شفاهيا. ولذا فهي، مثلها مثل الحكاية، وعلى خلاف الشعر، لا تعد نصا. فالأساس فيها هو بنيتها”الوقائعية” القائمة على المفارقة المتمثلة في الانعطافة الكبيرة التي تحدثها الجملة الأخيرة فيها والتي قد تمثل”نصا”. لذا تحكى النكتة بطرق مختلفة وتعتمد على مهارة ملقيها وحيله في الإلقاء والتشويق.
وهي نشاط قولي يستهدف إثارة السرور والبهجة في جلسات الأصدقاء الثنائية أو الجماعية. ثمة نكت هدفها إثارة الضحك وتخلو من أي غرض آخر. وثمة نكت تسخر من قوم أو مدينة أو إثنية معينة داخل الوطن أو شريحة اجتماعية محددة. كما أن ثمة نكتا تُعرِّض بتوجهات اجتماعية معينة أو تسخر من حكام أو أنظمة سياسية.
لذا تعد النكتة، في كثير من الحالات، نشاطا لاهيا في مظهره جادا في باطنه لأنه يحمل رؤية وموقفا من قضايا معينة.
وفي الأنظمة الدكتاتورية الشمولية يحسب للنكتة السياسية حساب كبير وتصنف تحت بند المعارضة السياسية بحيث قد يتعرض مطلقها إلى عقوبة بالغة.
تاريخيا، لا يعتبر الشعب الليبي شعبا ضاحكا أو لاهيا، ولا تمثل النكتة في حياته اليومية شأنا واضحا. وكان يشترط في النكتة التي يمكن أن تُضحك الإنسان الليبي احتواؤها على شحنة”تفجيرية” عالية.
في الفترة الملكية كانت النكت السياسية المعارضة للنظام الملكي قليلة جدا. وبُعيد انقلاب سنة 1969 راجت نكت تسخر من النظام الجديد غالبيتها نكت مصرية”مُلَيَّبَة”. فالنكت التي كان موضوعها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر تحولت إلى معمر القذافي وعبد السلام جلود. لكن سرعان ما ظهر نوع آخر من النكت”محلي الصنع” يتجلى فيه الطابع الليبي واضحا، يتخذ من أبوبكر يونس جابر، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، ضحية له. ويبدو أن هذا كان أمرا مخططا له من قبل القذافي يتمثل في إيجاد”بالون حراري” هو أبوبكر يونس جابر يجتذب”صواريخ” النكتة السياسية بدلا من أن تتجه إليه هو شخصيا. إن اختيار أبوبكر يونس جابر مادة لهذه العملية يمثل فعلا دهائيا من قبل معمر القذافي استغل فيه العنصرية الكامنة لدى الليبيين من حيث تصورهم لذهنية الزنوج وقدراتهم العقلية.
لكن النكتة السياسية غير المُصَنَّعة من قبل النظام تفجرت، بشكل موارب في البداية، في ثمانينيات القرن العشرين وانطلقت من واقعة عنف حدثت عندما كان شباب من مدينة طرابلس يقومون برحلة خلوية في منطقة تابعة لمدينة ترهونة، فحدث احتكاك بينهم وبين مجموعة من أهل ترهونة تطور إلى اشتباك أسفر عن مقتل شاب طرابلسي. إثر هذه الحادثة بدأ أهل طرابلس يُنكِّتون عن أهل ترهونة بوصفهم يمثلون الخشونة وضيق الأفق والنقص في التفكير.
تتخذ هذه النكت أهل ترهونة ضحية لها، ولكنني أرى أنها تمثل معارضة سياسية مضمرة للنظام. إنها تعبر، في جوهرها، عن دفاع المدينة، بما هي بؤرة حضارية، عن نفسها في مواجهة هجوم النظام العنيف الذي كان يستهدف بدونة وترييف الحياة اليومية والقضاء على الوجه المديني والذهنية المدينية. وعلى صعيد روح الدعابة تمثل هذه النكت ذكاء حقيقيا ومهارة واضحة.
بعد ذلك، في التسعينيات وبداية الألفية الثانية، تحولت النكتة السياسية الليبية من الإضمار إلى التصريح وظهرت نكت شديدة البراعة أصبحت تقلق النظام.
نخلص إلى أن روح الدعابة تفجرت لدى الليبيين بعد مرور عقد تقريبا على انقلاب 1969 وازدهرت النكتة الرهيفة الذكية وبذلك دخل الشعب الليبي ضمن طائفة الشعوب الضاحكة.
يقال أن المخابرات المصرية قدمت تقريرا عن ليبيا للرئيس أنور السادات أشارت فيه إلى ظهور النكتة لدى الليبيين. فقال: “جاعوا، ولاد الكلب!”.
____________________________
نشر بموقع بوابة الوسط