تراث قراءات

شعر البيت الواحد في ليبيا وعلاقته بالمرأة

 

منذ القدم لم يكن الاتجاه لتعليم المرأة في ليبيا اتجاهاً إيجابياً على الإطلاق، إذ أن الأمية كانت عادة سائدة ممجدة وتقليد غير مستنكر فيما يخص المرأة، بل أن من شذت من النساء عنها شذت عن المقبول المتعارف عليه، لكن الأمية التي تعني عدم الإلمام بالفصحى قراءةً وكتابةًً، لم تقف حائلاً بين النساء ونظم الشعر، إذ لعبت اللهجة الدارجة كبديل، الدور الذي كان من الواجب أن يكون للغة الفصحى في الحياة الشعرية لمرأة ما قبل التعليم، لهذا ليس من الممتنع تحري الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الليبي في الشعر الشعبي أكثر من الشعر الفصيح بشكل عام، ويبدو فعل ذلك أيسر في نظم المرأة أكثر من نظم الرجل، إذ تلتصق التفاصيل الدقيقة بنظم المرأة أكثر من الرجل، لأن الشعر كان حدثاً يومياً ملتصق بصغريات وكبريات الأمور، حد الإدمان على استخدامه في مختلف الشؤون الحياتية، والإيمان به رفيق وفي معالج، ومسكن نفسي قائم مقام الحب الراسخ، فهو بالنسبة لامرأة ما قبل التعليم موضوع بقاء وشغف وهاجس ومعين على الشدائد وملطف لقسوة الحياة حين تكب فيه آلامها ونجواها وسعادتها وأحزانها وشتى تقلباتها النفسية. وفي شعر (العلم) الليبي بشكل خاص حققت المرأة حضوراً ضخماً لم يكن بوسع الرجل الذي فرض عليها الأمية الأبجدية والتعبيرية أن يعتقلها دونه، بدليل أن ما أفرد لشعرها في كتب تأريخ الشعر الشعبي (راجع مؤلفات أحمد النويرى على سبيل المثال) لم يفرد للمرأة في ديوان العرب !!  وسطوة شعر المرأة العامي في ليبيا (غناوة العلم) تجاوزت قهرها وقمعها، إلى أن رددها الرجال عنها، حتى باتت الناطق الرسمي عن الشخصية الليبية بكامل حالاتها، نظراً لسهولة إذاعتها وتفوقها في التعبير الصائب عما تتطلبه دقائق المواضيع والأحداث مهما بلغت من التركيب والتعقيدً، فهو نظم قد تعداها ليردد ويحفظ، لأن القول لا يعترف بجنس القائل متى أصاب الغاية المنشودة منه، حيث تصبح له سطوة العرف التعبيري حر الانتشار غير المقيد. ولما كانت المرأة والشعر رفيقين كان الأقرب إليها وكانت الأدنى منه، بالتالي كان شعر العلم هو النمط النهائي لتلك العلاقة، فسيطر النفس الأنثوي لتأتي قصيدة العلم بشكلها المعروف كثيرة الاختزالات مشحونة بالصدق مكثفة الصور معبرة في غير ما اصطناع.

وفي تكوينها الفني يقول د.خليفة التليسي ما معناه إنها قصيدة من قصائد البيت الواحد تشبه إلى حد بعيد قصيدة (الهايكو) اليابانية. أما من حيث الشكل والمضمون فلها طبيعة مقاربة لطبيعة المرأة، وظروف ميلادها تتفق مع الظروف المحيطة بنسق حياة المرأة إلى الآن في ليبيا أكثر من حياة الرجل. وهى قصيدة تعاملت معها وبها المرأة الليبية في بيئة معينة من جغرافية ليبيا، وتميزت بها حتى صارت حكراً شعرياً عليها، بدليل محليتها العميقة وعدم شيوعها، فهي ليست مسبوقة ولا مفهومة خارج بيئتها الأم، بل وفي أنحاء من ليبيا نفسها ! في أغنية العلم رسائل وجد وشوق، برقيات خاطفة ومؤثرة كحرارة لجمر غير مرئي، إن حللتها أعطتك من المعاني ما تطنب اللغة في تفسيره، إنها نقطة المطر التي تصنع السيل الجارف والشعلة المؤسسة لبركان .

رب سائل سأل لمَ هي قصيرة بالرغم من أن حياة البادية حين وحيث ولدت كانت واسعة والوقت مديد ولا عجلة على شيء ولا من شيء، وما من موانع تصرف عن النظم الطويل كما نلحظ في مطولات وصف الإبل (البل) ووصف الخيل والصحراء والموت والحب بل ورحلة الغفران كذلك … وموضوع علاقة الوقت والرتابة بنظم الشعر موضوع آخر ليس هذا مقامه، يختلف عن موضوع نشأة غناوة العلم وتفسير قصرها وكثافتها .  لأن غناوة أو قصيدة العلم ما كانت لتكون لو لم تصدر عن امرأة نسبة الحرية الممنوحة لها معدومة مقارنة بحرية الرجل، المالك والمعطي والمتصرف بقوة العرف، ولأن المجتمع القبلي في ليبيا له أحكامه وخصوصيته في التحوط على المرأة باعتبارها رمز شرفي مهم، تفسر هذه التحفظات مجيء أغنية العلم بهذا القصر المكثف، لأنها قصيدة تحينية محدودة الزمن، تحكمها مساحة الحرية المختلقة التي بثت فيها، سواءً كانت تلك المساحة مخصصة للرعي أو جلب الماء أو جمع الحطب أو الوقوف بتنور الخبز أو حلب الشياه أو قضاء الحاجات على اختلافها… فهي فترات اختلست فيها المرأة فرصة اللقاء بمن تحب أو تبادلت الحديث مع من ودت أن توجد بينها وبينه صلة حب (غية في الدارجة) أومن استغواها واستغوته، وتلك من الممنوعات التي يشجبها المجتمع ولا يرتضيها، لأن الحب في ثقافة الأمس كان من الكبائر ومما يعيب ويعاب به لارتباطه بمفهوم الغواية في الحياة اليومية لليبيين، بكلمات أخرى وكي لا نبتعد هي قصيدة سجنتها بيئتها، شابهت ظروف ميلادها ظروف نفق لابد أن يوجد في قلب ألكاترازا !

يحدث في البادية أن يمر الغرباء بالربوع والنُّجَعِ، ليلتقون الفتيات في فترة تغيب فيها عين الرقيب أو تسهو أو تذهب لتفعل الشيء ذاته مع آخر!  فيحدث التقارب العاطفي والاستحسان للمرغوب الممنوع فيتم تعاطي الكلمات بسرعة وترسل الإشارات الرمزية لمعاني أكبر من حجم الكلمات يقوم الرجل-المتلقي -بتحليلها على مهل بعدما تكون قد وصلته وصارت عنده. بذلك انتهت المرأة في البادية الليبية إلى صناعة لونها وتصدير منتجها الشعري من العاطفة إلى النواحي التي رحبت به وغنته. فكان غناء العلم، الحل لمأزق الإفصاح في زمن محدود، رسائل صوتية قصيرة سريعة، جامعة مانعة، سهلة الحمل، مليئة بالشحنات الروحية، توجز ما في الباطن من اعتمالات، والأهم من ذلك أنه لا يمكن معرفة صاحبتها لتشريع نوع العقاب لها.  وقد تمثلت الحماية من ردة فعل المجتمع المشرع للأعراف والتقاليد في ترك القول بلا قائل والقصيدة بلا مقدمة و عنوان وتوقيع.

ثم كانت أنجع وسائل إذاعة تلك الرسائل الوجدانية، وسيلة ناسبت ظروف المكان والزمان، من سفح وجبل وواد، ألا وهي الطريقة التي غنتها بها حناجر الرعاة، طريقة لا يمكن صدها بحواجز صوتية أو ما شابه، فالاستماع يحتم لفت الانتباه لمصدر الصوت أولاً ثم التدقيق في المعاني، كما ويلحظ على من يغنيها وضع إصبعه في الأذن لحفظ الوزن والموسيقى، والامتناع عن التعرض لمصادر التشويش المخلة بالإيقاع، بالإضافة لتغطية العينين بالكف مراعاةً للحياء، وخجلاً من بعض المعاني شديدة التصريح فيها، لاسيما إن غني في جمع من كبار السن، وكأن لغناوة العلم حياء أنثوي لكي يُجاد أداؤها ينبغي الدخول في خصوصية وعزلة عن المحيطين . ويتبع في غناء العلم المواربة في الأداء الصوتي حيث يبدأ من العجز وينتهي بالصدر، ليفرض على المستمع المتابعة حتى النهاية أو للتخلص من المجاهرة (أو ليست هذه مواصفات أغنية أنثوية وجلة ؟!) فمن فهمها استمتع وله أن يمتع، ومن لم يفهمها عتقه عدم الفهم من فهم خاطئ يتبعه تداول يسئ للأغنية ولا يخدمها، فهي بالتالي فهم أو عدم فهم وما من وسط  !  إن ديوان الشعر الشعبي حفظ قصائداً موغلة في القدم بأسماء قائليها حتى تمكنت كلية الآداب بجامعة قار يونس في العصر الحديث، من جمعها من صدور رواتها أو غيرهم وطباعتها في مجلدات من منشوراتها .

فهذه القصائد التي قاومت الزمن وعاشت بأسماء أصحابها وأمكن تدوينها، تقابلها أغنية العلم المبنية أبدأ للمجهول في مجتمع قادر على الحفظ ومقتدر عليه ؟! كما وُيغلبُ كونها قصائد نسوية التكوين والنشأة، أنها لا تلجأ لخدعة الأسماء المستعارة، تلك التي يسهل كشفها في محيط بيئي محدود، ذاكرة أفراده كانت السجل المدني للنفوس والأحساب و الأنساب . بالتالي تركها دون استعارة أكثر حصانة ووقاية لشخص القائل .  لكنها أغنية وهن وقوة، انكسار وتعلي، إذلال وتجبر، تكاد تقول اعرفوني ولا تتحروني، واعتقوني في حناجركم عند كل حاجةٍ للقول . تكاد تقول ذلك في صداها غير المسموع وغير المبحوث عنه أو فيه.

9/7/1997

مقالات ذات علاقة

توظيف الحوار في رواية تلاحم الحواس للكاتب المبدع: محمد التليسي

إبتسام صفر

القاص سعيد خيرالله وفتات من خراب الذاكرة

حسين نصيب المالكي

«قول الفجي».. خرافة ليبية تتحدى النميمة

أسماء بن سعيد

اترك تعليق