لعل أول مرة أتعرف فيها على قاص من مدينتي طبرق كان في سنة 1985م، عندما أصبحت في الصف المتقدم بكلية الشعب المسلح عين زارة، أصبحت إدارة الكلية تسمح لنا بالخروج كل خميس بعد الغداء والأوامر اليومية، ببدلة التشريفات العسكرية، على أن نعود مساء يوم الجمعة للكلية، كنا نسرع ثلاثتنا نأخذ أول تاكسي نحو المدينة، وبالتحديد شارع الاستقلال، نترجل أمام شقة صديقين لنا، وهما عبدالحميد الشويهدي من مدينة طبرق، ومحمد دعبوب من الرحيبات، كانا يعملان في وكالة الأنباء الليبية، ويقيمان في تلك الشقة الواسعة وسط المدينة طرابلس، كنا نتناول معهما وجبة العشاء الدسمة ونحتسي الشاي الأخضر بالنعناع، ونتجاذب أطراف الحديث معهما حتى منتصف الليل، ونتصل بأهلنا في طبرق، وننام ليلة هادئة جميلة بعيدا عن أسوار الكلية، وبوقها الذي لا يكف عن الزعيق، أتذكر عند وصولنا للشقة، كنت أهرول نحو مكتبة الوحدة، وأنتقي من الصحف الصادرة صحيفة الجماهيرية، وبالصدفة عثرت يومها في الملف الثقافي للصحيفة، على قصة بعنوان (الشاويش)، ما أن اطلعت عليها حتى أخذتني الدهشة والغبطة انها لقاص من مدينتي واسمه سعيد خيرالله صالح.
إنه من مواليد طبرق سنة 1942م- خريج جامعة بنغازي 1966م – كان عضوا في لجنة جمع التراث الشعر الشعبي بالجامعة، عمل بالتدريس لفترة قصيرة- ثم عين عميدا لبلدية طبرق سنة 1970م- كما عمل مديرا لإدارة المعهد العالي للنفط، ثم في سنة 1974م اتجه للعمل الخاص.
كنت أظن انني الوحيد في مدينة طبرق، الذي يكتب القصة القصيرة، ويصدر أول مجموعة قصصية باسم مقبولة سنة 1979م.
وتابعت قراءتي لقصصه على صفحات تلك الجريدة، من بينها: الحدود، وشجون الغربة والصورة.
وعندما تخرجت من كلية الشعب المسلح، وعدت إلي مدينتي طبرق، وأسست صحيفة البطنان سنة 1986م، اخترته في أسرة تحريرها، وكنت أزوره في منزله، أو يأتي إلينا في مكتب الصحيفة، واستلم منه قصة العدد، نشرت له قصص: برتقالة الدم، وعيون الغزلان الخائفة، وابتسم لكي أرى وجهك في الظلام، والرحيل، وهجرة الضفادع نحو الشمال وغيرها..
وضم تلك القصص ونشرها في كتاب بعنوان عيون الغزلان الخائفة صدر عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع سنة 1994م
كما صدرت له مجموعته القصصية الثانية: الأجنحة والأفق عن اللجنة الشعبية العامة للثقافة والاعلام سنة 2006م، نشرت هي الأخرى في حلقات على صفحات البطنان.
وبالإضافة الي كتابته للقصة القصيرة، التي لم يبدأ في كتابتها الا بعد أن تجاوز العقد الرابع من عمره، أخذ ينشر زاوية ثابتة في الصحيفة بعنوان( فتات من خراب الذاكرة) ولمدة عشر سنوات، وجدت هذه المقالة اعجابا من القراء، واقبالا على الصحيفة، انتقى القاص منها مختارات وجمعها في كتاب صدر، عن دار السفير بمصر، بنفس العنوان على نفقته الخاصة، كما أصدر كتاب هاشم بو الخطابية شاعر من مدينتي سنة 2017م، وأصدر الطبعة الثانية من عيون الغزلان الخائفة، وكذلك الطبعة الثانية من الأجنحة والأفق عن دار السفير بمصر سنة 2017م.
كتبت عن القاص سعيد خيرالله صالح في كتابي: قراءات في القصة القصيرة الصادر عن مجلة المؤتمر، وكتاب القصة القصيرة في البطنان، صدر عن مؤسسة نجلاء محرم الثقافية بمصر.
أما كتاب فتات من خراب الذاكرة، نستطيع من خلاله أن نتعرف على سيرة القاص ففيه مقتطفات من طفولته وصباه، والأماكن الأثيرة لديه بداية من تعلمه في الكتاب الي المدرسة، ووصفه لمدينة طبرق قبل الحرب العالمية الثانية:
(وكيف كانت السماء صافية زرقاء مرصعة بنتف من السحاب الثلجي والعصافير المغردة اجنحتها ترف بحبور في اللجة الزرقاء والأرض آمنة حتى النخاع تطفح بالبشر والأطفال السعداء عرق الرجال النازف الذي ينسكب قوتا حلالا في أفواه تعبق بالحياة الوادعة).
وعن بدء الحرب العالمية الثانية يقول القاص: (وفجأة يأتي الطوفان المدينة المطمئنة تتبعثر أشلاء من الحجارة المهشمة و أعشاش العصافير وفتات اللحم الادمي وخصلات معطرة من ضفائر الصبايا والبحر صار يغلي من زمهرير النار للسفن المحترقة واستوت عيون الأسماك اللامعة في أحشائه فضلا عن حرب جنونية لا ناقة لنا فيها ولا جمل بالاضاافة الي وصفه للسوق البلدي بالمدينة، الي طاحونة بوسيف الي مكتبة علي حسن ليدي، الي فندق الجبل الأخضر، وكيف كان الكاتب سعيد خيرالله في صباه يمارس رياضة كرة القدم في نادي طبرق الرياضي الصقور حاليا مع جيله من الرياضيين..
ولو حاولنا ان نرتب هذه الحلقات لحصلنا على سيرة ذاتية للقاص سعيد خيرالله صالح، وهذه مجرد فقرات منها في هذا الكتاب: (يوم أن ولدتني أمي في وادي القطارة بطبرق وبالتحديد سنة 1942م واتون الحرب مشتعلة بضراوة، انطلقت في بيتنا زغرودة فرح صادقة تسامقت في عنان السماء الملبدة بالدخان وانتشر صداها في فضاءات شاسعة غصبا عن أزيز الطائرات ودوي المدافع وتوفي والدي بعد سبعة أيام فقط من ولادتي).
وفي فقرة أخرى ثوبي القشيب مشدود إلي ظهري بعروة خلق وتمائم جدتي تتدلى على جبيني درئا للحسد وهذا بيت الفقيه الرعيض وانا الصغير أتأبط لوحي وخطواتي الصغيرة تب على الطريق الترابي الضيق والذاكرة تجتر الرؤى).
ويتطرق القاص في كتابه هذا الي انفجار سان جورج المروع الذي وقع في ميناء طبرق في أغسطس سنة 1953م حيث يقول: (عدت لتوي من المدرسة مرهقا أحمل حقيبتي الصغيرة وأسير في خطوات قصيرة على الرصيف في ظل حائط مبنى الجوازات وفجأة دوي الانفجار وتساقط الملاط وزجاج النوافذ واهتزت الأرض بما عليها من أشياء بعنف.
لقد كانت مذبحة سان جورج يا للبشاعة لقد راح ضحيتها بعض اهلنا الذين نصبت لهم مخلفات الحرب مصيدة لقبض أرواحهم في ذلك الكهف المظلم المطل على الميناء)
وآخر مقالة له كانت في هذا الكتاب في شهر مارس 2012م عندما أشرف على السبعين من عمره وهو في منطقة بوالفرايس، التي كان دائما يتردد عليها لصيد الوز والطيور المهاجرة، فقد كانت تلك هوايته الدائمة مع بداية موسم الخريف من كل عام ولمدة شهر يقضيه في الصيد، على البحر حتى انه لقب بملك الوز، يقول: (ونهضت بقلب يعج بالدعامات البلاستيكية التي تؤجل اللحاق الي حين بالصحبة التي كانت تشنف اسماع بحيرات ومستنقعات بوالفرايس بالحياة ولكن رغم ذلك فملامح عمر جديد تلوح في الأفق لوطني ورب رفقة لهؤلاء الشباب الذين صنعوا معجزة ثورة فبراير يعطي الأمل في الحياة لكي تعود من جديد).
هذا هو القاص سعيد خيرالله صالح الذي عمل رئيسا لنادي الصقور، ونشر انتاجه القصصي في الصحف والمجلات الليبية، وشارك في العديد من الملتقيات الأدبية والمهرجانات الثقافية والأمسيات القصصية، واليوم وقد وصل الي منتصف العقد الثامن من عمره متعه الله بالصحة والعافية وأطال الله في عمره..