انا من الذين يؤمنون تماما بشرعية البرلمان، واستهجن ان يجتمع المؤتمر المنتهي ولايته ويقوم بتعين رئيس وزراء وحكومة، كما لا استطيع ان افهم كيف قبل السيد عمر الحاسي ان يقوم بهذا الدور ، وأضن ان لعنة قبوله لهذا الدور ستلاحقه حتى آخر ايامه. وقد لا اتفق مع من يرى شرعية ما قام به الجيش في مصر، عملية فجر ليبيا لا تختلف عن دور السيسي، كليهما انقلاب على الشرعية المتمثلة في صندوق الانتخابات، ولا ارى شرعية لاي انقلاب مهما كان نبيل.
ان الانقلابيين يتنكرون لنتائج الصندوق باعتبار انه لا يمثل الشرعية الوحيدة، وهذا يسمح لكل من امتلك السلاح ان ينقض على المسار الشرعي، وهذا ما قام به السيسي في مصر، وقد اوصله إنقلابه والآلة الاعلامية الرخيصة الى أن يعتلي سدة الحكم. بإنقلابه لم يتغير شيء في مصر، فمائة يومه في الحكم لم تكن أفضل من مائة يوم مرسي، اللهم إلا إذا اعتبرنا تحييده لدور الاخوان في السياسة مكسب، وأنا لا اراه كذلك.
نعود الى الحالة الليبية، لقد كان البرلمان قادرا على تحيد الليبين عن الصراع الدائر وكسبهم لجانبه ليشتد عوده بهم، الا انه ارتكب هفوات …. ربما بقصد … جعلت الكثير من الليبين يعيدون النظر في تمثيله لهم، لقد كان حريا بالبرلمان ان يتفهم مشاعر الليبين، وان يكون ممثلا لهم وليس لفئة منهم. فدعمه لحفتر لم يكن بالعمل الصائب، نظرا لماضي حفتر من جهة، ومن جهة اخرى انقلابه “الكريكاتوري” بشهور قبل اعلانه معركته التى سماها الكرامة. لا يستطيع حفتر كسب احترام الليبين، كما لم يستطيع ان يكسب تقتهم، لذلك ليس من السهل عليه كسب معركته، رغم ان العديد يتمنى ذلك.
لا شك ان عملية فجر ليبيا قد اضرت بالحالة الليبية وازمتها، لكنها ليست المسؤلة الوحيدة عن هذا الامر، فالمسؤلية تقع على عاتق خصومها المسلحين ايضا. عندما خرجت مليشيات مصراتة من غرغور، كان على مليشيات الزنتان ان تترك مواقعها في طرابلس، الا انها لم تفعل. واعتقد ان “ثوار” مصراته الذين اضطرتهم حادثة غرغور على الخروج من طرابلس لم يقبلوا بهذا الخروج، فطرابلس هي قلب ليبيا، والسيطرة على طرابلس هي سيطرة على ليبيا.
من الامور الخطيرة التي اسفرت عليها الاحداث الاخيرة انها نسبت الى قبائل ومدنا بعينها، مما يسهل “استثمارها” في إثارة حرب اهلية تأتي على الاخظر واليابس، ويخرج منها امراء الحرب بالمغنم، وتخرج منها ليبيا والليبين بالمغرم. ونحن نرى هذا الامر يتبلور الان، فرغم اعلان ميليشيات فجر ليبيا ميليشيات ارهابية وجب التصدي لها وقتالها، الا انها استطاعت ان تحقق التفاف شعبي وتأيد لها كبير لا يستهان بهما، وعلينا ان نكون واقعيين ولا نستهين بالزخم الشعبي الذي اكتسبته عملية فجر ليبيا. وهذا الامر يضعنا في معظلة، فتصنيف هذا الفصيل كفصيل خارج عن الشرعية وارهابي هو تصنيف لم يعد ينفع في خدمة القضية الليبية.
نقطة أخرى، فالدروع لا تقل شرعيتها عن شرعية القعقاع والصواعق من حيث النشاءة، لذلك لم يكن من التوفيق ان نطلق على مليشيات القعقاع والصواعق صفة الشرعية وننفيه عن الدروع، وكان الاجدر بالجيش الليبي ان فصل نفسه ونأ بها عن ميليشيات القعقاع والصواعق وعن حفتر. الجيش الليبي كان موجود، وقد حجم دوره خلال عقود الاستبداد، الا انه استطاع بفضل وطنية بعض رجاله ان يستعيد دوره الكبير في ثورة 17 فبراير، فقد أشرف على تدريب الثوار، وشارك في العمليات القتالية. كان على الحكومة ان تعمل على إعادة تأهيل الجيش، وليس على منح الشرعية للميليشيات لتكون جسم للجيش الوطني، بهذا الشكل ألبنا جزء الوطن على جزئه الآخر، لذلك ارى ان الحكومة والبرلمان … عوضا عن اصلاح ما افسده المؤتمر… قد إرتكبوا خطاء فادح لا يمكن اصلاحه بسهولة حتى وإن توفرت النية لذلك.
إن حجم الدمار الذي لحق المدن الليبية في الغرب من عملية “فجر” ليبيا، وفي الشرق من عملية “الكرامة” كبيرا جدا، يجعلنا نؤمن بضرورة التدخل الاجنبي لمعالجة الوضع، وإعادة الامور الى نصابها، ولا غرابة في ذلك، فقد قام المجتمع الدولي بهذا الدور اكثر من مرة في تاريخ ليبيا الحديث. لا يجب ان ننسى ان ليبيا وضعت تحت الانتداب البريطاني عقب تحريرها من الاستعمار الايطالي، وقد قامت ادارة الانتداب بتكوين المؤسسات التسيرية للدولة الوليدة، وحين استلمها الليبين بعد انهاء الانتداب البريطاني استفادوا من المؤسسات التي كونتها الادارة الايطالية ابان حقبة الاستعمار والتي طورها الانتداب البريطاني، فكانت حجر اساس لدولة وليدة فقيرة ماديا تضم شعب امي جاهل، ذو خبرات محدودة جدا، وللاسف لم يطول استمتاع الليبين بهذه المؤسسات، فقد غيبت تماما في عصر الاستبداد، وانتهت الدولة مرة اخرى.
وفي حرب التحرير الثانية، تذخل الاجنبي بكل قوة في الشأن الليبي، وبعون آلة الحرب الغربية تم تحرير ليبيا، لقد كنا اثناء حرب التحرير نتحدث عن بناء ليبيا، وليس عن إعادة بنأئها، لاننا كنا جميعا ندرك ان نظام الاستبداد غيب المؤسسات تماما، لذلك كنا نتحدث عن بناء ليبيا من الصفر.
على ان قناعتي هذه لا تسمح لي بأن افكر في إسناد اي دور في الشأن الليبي لبعض دول الجوار، وخاصة دولة مصر ودولة الجزائر. فليس لمصر دور يحمد في الازمة الليبية، يكفي ان ننظر الى ملف تسليم “ازلام” النظام السابق الى ليبيا وعلى رأسهم احمد قداف الدم الذي لا يخفي دوره في تأزيم الشأن الليبي، ومع ذلك يستمر دور حمايته من قبل السلطات المصرية وعدم الرغبة في تسليمه للمحاكمة، او على اقل تقدير تحيد دوره وفرض قيود عليه، وهذا ادنى ما تتطلبه الدبلوماسية بين دول الجوار، إلا ان مصر لم تستطيع احترام هذه الدبلوماسية، ومع ذلك فإن اغلب الكتاب الذين تفوح في كتابتهم رئحة “الليبيرلية” لا يأتون على نقد الدور المصري في ليبيا بسبب عدائهم الايدلوجي للاخوان.
ولا يقل كيد الجزائر بالشأن الليبي عن مصر، فهي ايضا تحمي ثلة من “ازلام” النظام السابق، بعظهم لا يقل خطورة على احمد قداف الدم، كما وانها تحت حكم العسكر الذي لا يسره ان ينشاء نظام ديمقراطي في حدوده، لذلك سيسعى النظام الجزائري الى تقويض فرص بناء الدولة، وسيتحالف مع بعض الميليشيات، ويحاول ان يفرض رؤية هذه الميليشيات في اي حوار يكون قد اشرف عليه لكسب ودها، سيسعى جاهدا الى ان يكون له “حصان طروادة” داخل المؤسسات الليبية، على غرار الاحصنة الاخرى التي نتحدث عنها سرا وجهر. وهنا اتسأل لماذا تؤيد أوربا قيام الجزائر بدور الوسيط في الحوار بين الفرقاء في ليبيا؟
ومن الناحية الفنية، استهجن كيف تتق الحكومة الليبية في المهارات العسكرية والامنية المصرية، وتطلب من مصر تدريب الكوادار العسكرية والامنية، فالجيوش العربية بسبب غياب العقيدة العسكرية الوطنية وبسبب عقدة الرتب، ومركزية القرار، هي جيوش واهنة فاشلة، وقد نشرت مقال مترجم في هذا الموقع بعنوان ” أسباب الفشل ” نقلت فيه خبرة جنرال امريكي سبق له العمل مع الجيوش العربية وتحدث عن اسباب فشل الجيوش العربية في تحقيق النصر في كل المعارك التي خاضتها رغم ما تملكه من عتاد، وما تنفقه من ميزانياتها على تسليح جيوشها. نحن نريد ان نبني جيشا عاملا وفاعلا، ومصر لا تستطيع ان تساعدنا في هذا الامر بسبب تكوين جيشها، لن ننقل منها الا الفشل الذي امتازت به جيوشها.
والشرطة كذلك، علينا ان نبني شرطة عصرية تحترم انسانية الانسان وآدميته، وتقدر وطنية المواطن. هذا الامر لن يتحقق في دول الجوار، فجميعها تمتاز بملفات ضخمة في انتهاكات حقوق الانسان، وبإستثناء تونس، لا توجد تجارب ناجحة لدول الجوار يمكن الركون اليها في تحريك الازمة الليبية ودفعها نحو الحل.
لقد فشلت الجكومة وفشل البرلمان في كسب تقة المواطن وفي التعويل على حسن أداها، ومما يزيد الامر سوء انه ما زال مستمر في الانحدار بالبلد، وقد بالغ في ستر عورته بعدم كشف جلساته لعامة الناس، وهذه نقطة تحسب لصالح المؤتمر المنتي ولايته. ومع ذلك يضل البرلمان الجسم الشرعي الوحيد في ليبيا، وعلى الليبين ان يتعلموا من “دروس تونس” ، فالحالة التونسية هي اكثر الحالات توفيق في دول الربيع، ولم يأتي الحل التونسي من خارج تونس، بل جاء من مؤسساتها، لذلك نرى فرصة ابعاد شبح التدخل عن طريق ممارسة ضغط شعبي كالذي مارسته القوة المدنية في تونس على حكومة النهضة ممكنا، والله المستعان.