حسن المغربي
لا شك ان الحرية بمفهومها العام هي نشاط إنساني قديم ، وأمل منشود لكل البشر ، وقد عرفت بشكل أو بآخر في مختلف الثقافات البشرية منذ أقدم العصور ..
وقد أقر بعض مؤرخي التطور التاريخي ان أول حركة قامت في الدنيا ضد الإستبداد السياسي والظلم الاجتماعي ، كانت في عهد الفراعنة ، حيث كان للمصريين في تلك الأونة صلاة يتلونها في المعابد منها:
أيتها الآلهة ..
ان يفرعون يذلنا .. ويضربنا
والأرض التي يقول انكم وهبتموها له ترهقنا ..
أيتها الآلهة .. أعطونا راحة ..وأعطونا أرضنا..
ان ظهورنا قد انحنت ..فأقيموها..
وفي الفلسفة اليونانية كان السفسطائيون أول من انتصف لحرية التعبير في العالم القديم ، فهم يرون ان حياة الناس وأفكارهم ومعتقداتهم ملكا لهم ، ولا يجوز لاي أحد المساس بها ، وقد نادى زعيمهم (بروتاجورس) بشعاره الشهير ” الإنسان مقياس الأشياء جميعا” ، ووصفها سقراطبأنها فعل الأفضل ، وأنها حق الناس في مناقشة أمورهم دون رقابة سلطوية ، وفضل الموت على التنازل عن أفكاره ، كما عبر عنها أرسطو تعبيرا رائعا من خلال المدينة الفاضلة ، وربطها بقضية الإرادة ، بينما ألتمسها أفلاطون في عالم المثل ، فهي عنده الأرتقاء بالفعل نحو الوجود المطلق .
ان حرية التعبير كمفهوم ذرائعي من الصعب تحديدها بدقة ، لما لها من اشكالية تخص المعنى ، فهي تختلف من ثقافة الي أخرى ، فحرية التعبير في الثقافة الإسلامية -مثلا – هي فريضة إلهية ، وضرورة من ضرورات البشر ، إلا انها محكومة ومقيدة بالشريعة المحمدية ، وقد تحدث ابنخلدون عن الضابط الديني الذي ينظمها في عرضه للمرحلة الإنتقالية للإنسان من الوجود الوحشي الي الوجود المدني . في حين يذهب أصحاب الفكر المادي في تفسيرهم للحرية ، بأنها امتدادا طبيعيا لتاريخ البشر ، ويصرحون -وعلى رأسهم هيجل – بان الحرية بمفهومها العقلي هي في جوهرها الإحساس بالضرورة .
أما دعاة الفكر الليبرالي – وهم الأكثر تطرفا – ذهبوا في تعريفهم لمفهوم الحرية مذاهب شتى ، فمنهم من يشترط في الحرية قواعد تهتم بالدرجة الأولى على حفظ النفس والمال مع مراعاة عدم الجور على حقوق الآخرين وفقا للمبدأ الكلاسيكي ” أنت حر ما لم تضر” ومنهم من يذهب الي أبعد من هذا وينادي باطلاق الحرية بلا ضوابط وحدود ” النفع الفردي” الذي يعني الأنسلاخ والأنفلات من كل القيود المتوارثة (الدين/ العرف/الأخلاق) ، وهذا ما تجسد عمليا في بعض الدول الرأسمالية الكبرى كالولايات المتحدة والغرب الأوروبي.
وبالرغم من التباين الأيدولوجي بين تلك التصورات ، الا ان معايير الحرية كفكر ، وتراث إنساني مجيد ، تتجلى – بالنسبة لكل أمة – في القسمات الأخلاقية التي تضمن للفرد حرية التعبير ، لا بدعوى الي الفوضى والعبثية وعدم إحترام العرف والقانون ، وإنما من أجل المساواة والعدالة في الحقوق والواجبات بين الناس .
ان حرية التعبير حق طبيعي مشروع ، واذا ما أريد ان يكون ناضجا وحيويا ، يجب ان يشمل جميع أطياف الشعب ، ولكي نؤسس مجتمعا عالميا قابل للحياة ، لا بد ان يتاح للناس قسطا وافرا من حرية التعبير التي أعتبرها فقهاء القانون الدستوري من أثمن الحقوق التي يحصل عليها أي شعب من الشعوب ، وقد عبر ( جون سيتوارت مل ) عنها فقال : ” لو كانت البشرية بأجمعها ، الا واحدا ، من رأي واحد ، وكان هذا بمفرده ، صاحب رأي مضاد ، فأنها لن تجد حجة تبرر اسكاته ، ويكون أقوى ما لديه من حجة يبرر بها اسكات البشرية بأجمعها “
ليست حرية التعبير بالضرورة حق الفرد في المشاركة بالحياة السياسية كالإنتخابات أو التصويت في المجالس والمؤتمرات ، بقدر ما تعني أحترام الفرد كإنسان من حقه ان يفكر بنفسه ، وان يعبر عن فكره ، ويكتب آراءه بحرية تامة ، شريطة ألا تنطوي عنها الإخلال بالنظام الذي يقيمه الدستور.
ان ممارسة حرية التعبير تحي في المجتمع فضيلة الشجاعة في ابداء الرأي ، وتوقيه من الفساد المالي والكبت السياسي ، و تمنحه فرصة تصحيح أوضاعه ، بل تحقق مبدأ أنتقال السلطة من الدولة الي المجتمع بكل مؤسساته .
لذا يجدر على أي حكومة رشيدة ان ترفع يديها عن كل أنواع البحث العلمي ، وتسمح للناس بالتفكير والاتصال بجميع مجالات الحياة ، وان تعطي الأخبار الكاملة عن الشؤون العامة من خلال وسائل الأعلام المختلفة ، فللأعلام الدور الأهم في تسيير دفة الحكم ، وحينما سئل عنه الرئيس الأمريكي الأسبق ( جفرسون ) قال: ” لو كان لي ان أختار بين حكومة بدون صحف وصحف بدون حكومة ، لما ترددت لحظة في أختيار الصحف دون الحكومة ” كما أعترف ( ماديسون) بأنها – أي الصحافة- قد أنقذت أمريكا من أن تظل ” مستعمرات بائسة” تنؤ تحت النير الأجنبي.
وفي كتاب ” من حقك ان تعرف ” بين ( كنت كوبر) بواسطة التاريخ الحديث على أهمية حرية التعبير في جميع أنحاء العالم ، كما بين المآسي التي تلت الحرب العالمية الثانية حينما أقامت بعض الدول الأوروبية أحتكار وسائل الأعلام تحت إشرافها .
وبالفعل ، ففي روسيا على عهد (ستالين) فرض النظام السوفيتي قيودا شديدة على حرية التعبير والصحافة ، حيث نسجت الحكومة أجهزتها وطريقتها في الحكم والسياسة على النمط الذي يدعمها ، فأخضعت المجتمع المدني بالكامل لسلطتها بما في ذلك فكر هذا المجتمع ، وأصبح لا يسمح بأي حرية حقيقية بمعناها الذي نفهمه ، الا اذا قبل الباحثون بالمبادئ التي يرتكز عليها النظام البلشفي ، واذا ما شذ أحدهم عن هذه القاعدة يوضع في سجن ” الجولاج” ،كما وضع مصمم الطائرات الشهير (توبوليف).
وفي الصين زمن ديكتاتورية البروليتارية ، فقد تملأ الأنتقادات أعمدة الصحف والمجلات ، ولكن هذه الأنتقادات لا تتحدى بطبيعة الحال الشيوعية كنظام ، بل تفترض الشيوعية بأنها أعلى مثل للديمقراطية ، وقد ابتكر (ماو) اثناء الثورة الثقافية ما يعرف “بالجيش الأحمر ” الذيأضطهد العلماء وأجبر الخبراء وأساتذة الجامعات على العمل في المصانع والحقول ، وشن حملات واسعة النطاق على محترفي الأدب والسينما ،وقد أدت هذه الحملات الي اثارة الرعب والفوضى في البلاد ، وأثبت فيما بعد ، بأنها كارثة كبرى ، أخرت الصين جيلا بأكمله. وكذلك هو الحال في كافة الدول التي يخضع شعبها لنظرية سياسية واحدة ، كالنازية في المانيا و الفاشية في ايطاليا .
ومن الطبيعي ان يكون الشعب هو المرجع الاساس الذي تقوم عليه سياسة الدولة ، لانه الحاكم الأخير لجميع السلطات ، ولعل أول من كشف رسميا عن هذه الحقيقة ميثاق (فرجينيا) المعلن عام 1776م ، والذي ينص على ان ” جميع السلطات في يد الشعب ، وبالتالي فإنها تنبع منه ، والموظفون بأجمعهم ما هم الا أمناء على مقدرات الشعب ، وهم في جميع الأوقات مسؤولون أمامه” . وبموجب هذه الفكرة أعلنت بعض الدول الأوروبية عن بيانات حقوقية تضع في الأعتبار ( حرية التعبير) وتؤكد على أحترام قدسيتها.
نعم ، انها لجديرة التقديس ، فهي الوسيلة الوحيدة التي تضمن للشعب ان يبقى مطلعا على المعلومات التي تلزمه لكي يمارس أعباء الحكم ، كما أنها لا تأخذ معناها الحقيقي ، الا اذا برهنت عن ذلك في القول والممارسة ، والدستور الذي لا ينص عليها نصا صريحا لا لبس فيه ، هودستور ناقص ومعيب ، والشعب الذي يقبله يوقع في الوقت ذاته وثيقة عبوديته ، ومن أجل ذلك يجب ان نعمق في ضمائرنا الأحساس بقدسيتها والإيمان بحتميتها ، فهي السياج والآمان من كل الانتكاسات