قصة

بائع الخردة

 

لوحة غيرهارد

تناثروا في عرض الطريق وطولها ، ارتفعت أصواتهم وتداخلت . عيونُ بعضهم ترقبُ من على الشرفاتِ حركةَ المارة ، والواقفين على حد سواء ، كان ” الخردواتي ”  يجلس وحيدا ينفث بقايا سيجارته على مضض وغيظ مكتومين !!

طالعت عيناه الجائلين أمام “دكانته” المائلة ، فقد كان موقعُها على حدبة الطريق المنعرجة ، تميز هذا الرجل في ذلك الحي (بوِسْعة البال ) لكنه ذلك اليوم لم يكن كما عهِده أهلُ الحي من ذي قبل ..فقد أصيب بالضجر ، ولم يُفْصح عن سبب ضجره ، وكثُر خروجُه وولوجه إلى محلِّه الصغير الذي تشابكت فيه الأشياء وتنوعت ، حتى ظهرت للداخل أول مرة كأنها كتلة واحدة من خيوط متشابكة ، فعدم الترتيب والتنسيق والفوضى عبثت بالمكان ، مما أدى ذلك إلى صعوبة إدراك المشتري لحاجته فهْمَ تلك الأشياء ، ورغم الفوضى التي عمّت دكانة الرجل ؛ إلا أن الزبائن لاينقطعون عنها ، فهم دائمو الوقوف فيها والنظر للمحتويات ، أحد الأجانب الذين لم يكونوا من سكان تلك القرية استوقفته لوحة قديمة (وظل ينظر إليها بذهول ) قال بصوت مرتفع : لقد رسم والدي هذه اللوحة  وأنا طفل في الابتدائية !! يا إلهي ما الذي أحضرَ هذه اللوحةَ إلى هنا ؟ !!

رد الخردواتي : وكم عمرُك الآن ؟

خمسون عاما !

نفث الخردواتي سيجارته بارتياح وابتسامة تعلو حاجبيه : إنها الحرب !

الحرب ؟

نعم ..ألست َ أنت من سكان تلك البلاد التي نشبت فيها حربٌ أهلية ؟.

آه نعم ..صدقت ولكن….

أشار الخردواتي بيده : لا تكمل …والدُك على ما أذكر جاء إلى هذه البلد ، كنتُ حينها شابا يافعا ، وفي بداية حياتي لإنشاء “محليَّ” الصغير هنا على هذه الحدبة المائلة ، كنتُ مهووسا بجمع القديم والنادر من المقتنيات .. كان والدك صديقا للعائلة ، كان  يتردد كثيرا على دكانتي ويشجعني على الاستمرار والصبر !

نفث دخان سيجارته للأعلى …وأكمل :

عندما جاء والدك إلى هنا كان لاجئا سياسيا على ما أذكر ..فقد كان مهددا في تلك الدولة !

أراني هذه اللوحة المليئة بالكثير من الألغاز …طفل ..ووجه حاكم ، كسرة خبز ومبنى حكومي على ما يبدو مبنى الرئاسة : تشتعل فيه النيران …

أخذ اللوحة وظل يتأملها بعمق : هي تظهر على عدة وجوه ، لكن المحير فيها : وجه الطفل …من هو ؟ ولماذا جاء بين المبنى الحكومي ووجه الحاكم ؟ وفيما يلتقيان ؟

كنتُ أسأله كثيرا : ما سر هذه اللوحة أو هذا الوجه على الأقل ؟

لكنه كان يخبئ سره ويجيبني بدهاء : هي وليدة لحظتها ..تعبير عن حزن !

صمت قليلا ..فأكمل الزبون  حديثه ..وهو يمعن النظر :

والدي كان جالسا إلى جانبي وأنا أكتب واجبي المدرسي .حينها كنت بالصف الثالث الابتدائي …نظر في وجهي كثيرا .. (اتجه نحو الصورة ليشير إلى وجه الطفل ) حتى أن وجه الطفل هو وجهي تماما .

أبعد البائع السيجارة التي لاتفارق فمه أبدا ووضع نظارتين كبيرتين ؛  ليقارن بين الوجه في اللوحة ووجه الرجل …نعم يشبهك !

قال الزبون : إنه أنا عندما كنت ُ طفلا …نظراتي ووجهي وشعري الأشقر ..كان والدي يمازحني وأنا أغضب من كلماته : يقول لي يا وزير الخارجية !

نظر الخردواتي في وجهه مستغربا ..وحدّق في ملابسه وطريقة وقفته !

سأله : هل لديك مركز مرموق ؟

الزبون : كلا ..لقد فتحت ُ عينيّ في هذا البلد ..حتى أني لم أكمل تعليمي …

لا أتذكر شيئا سوى النيران التي التهمت نصف المدينة ..ووالدتي التي ماتت تحت سحائب الدخان،  والدي لم يكن بالبيت ..خرجتُ ليلتها مسرعا بقميص نومي وقدماي حافيتان ، أبحث عن الجيران عن أحد ما يساعدني . لكن لا أحد كل الناس هجروا المدينة ..فقط الدخان يملأ المكان ..

صوتي كان ضعيفا : كنت أنادي والدي وصداي يتردد في أرجاء المكان ..اللوحة التي عُلّقت في زاوية ما من مكتب والدي : لم تكن ليلتها معلقة …

رأيت كُتبَ والدي تنهار شيئا فشيئا ،  تتساقط كتابا تلو الآخر …شيء  يلتهم الأشياء ..لم أفهم يومها ما الذي يحدث …

وفي اليوم التالي : أحسستُ بيد والدي تطبطب على ظهري وحملني بلطف ، كنت صباحها مع مجموعة من الناس في مخيم بعيد جدا عن مدينتنا ..وأخذني نعاس طويل لم أشعر فيه بشيء سوى تلك اليد القوية التي حملتني بصمت .

الأحداث اختفت من ذاكرتي ..لكنني تذكرتُ السيارة التي سارت بنا ، على بعد مسافة طويلة في عمق الصحراء ، يأتي الليل ويظْهرُ النهار ومازلنا في قلب الصحراء ..

والدي كان طوال المسافة لا يتحدث ..بينما المسافرون معنا يتكلمون في كل شيء. تذكرتُ وجه امرأة كانت عيناها لاتكفان عن الدموع وهي صامتة !

وصلنا إلى مدينة ذات شعب كثيرة وشوارع مليئة …البائعون يملؤون الأماكن ..

ورائحة الطعام تعبق في ذلك الشارع الملتوي الذي لا تعرف بدايته من نهايته .

تكلم والدي بهاتف في محطة بالشارع ..ورأيته يبتسم حينها ويهز رأسه مطمئنا .

قاطعه البائع قائلا : كان يخاطب والدي ..وبحكم أنني أكبر منك سنا كنت أتذكر الأحداث جيدا ..والدك صديق لوالدي …أحضره وأسكنه منزلا بالكِراء مجاورا لنا .

قبل أن يموت والدك الذي تخفّى كثيرا عن العيون : وجدني مولع بلوحته البديعة العجيبة ..(نظر فيها مرة أخرى) قائلا : كل ما فيها هي تلك الغرابة التي تسكنها .

فباعها لي بثمن كبير..وقبلت الثمن ! واشتريتها …هو أراد أن يؤَمِّنَ لك كراء المنزل …باع أشياء كثيرة . أذْكُرُ أنه باع ساعته الثمينة أيضا !.

ساد صمتٌ طويل ؛ ثم قال : آه صحيح …كان لدى والدك صندوق مجوهرات صغير جدا ، رأيته اتجه به” للمجوهراتي” لقد باع كل شيء ليوفر لك في البنك مبلغا تتعايش به في هذه البلاد ، كنتم حينها غرباء جدا حتى أن والدك لم يستطع التأقلم مع الناس سوى والدي .

شعر الزبون بضيق شديد ..

فقام الخردواتي ليضع يده على كتفه ويواسيه قائلا: أتريد هذه اللوحة ؟

بانت أسارير الفرح على وجه الرجل ، قائلا : أتمنى ذلك !

إذن خذها …ولا أريد ثمنها !

ذهب الرجل بلوحته …وظل البائع يفكر في مصير ذلك الرجل واللوحة.

كان ذلك الضجر مصدره تلك اللوحة التي سلمها البائع للرجل ..تذكر وصية مكتوبة من صاحب اللوحة : أن يحتفظ الخردواتي بهذه اللوحة ولا يعطيَها لأحد  حتى ابنه!!

المشتري اختفى ..واللوحة لا أثر لها في البيت …والبائع خرق الوصية عن غير قصد!

كرر الذهاب تكرارا ومرارا للبيت ..لكن ما من مجيب !

مرت أيام والبائع على هذه الحال. مستغربا اختفاء الرجل !

وفي يوم من الأيام الشديدة القيظ والحرارة امتلأ المحل بالزبائن ، كانوا مهتمين كثيرا بعدد من اللوحات ؛ ذات الرمزية الغامضة والقديمة جدا ، أحدُهم تكلم لغة أجنبية لمرافقه ، ليسأله عن لوحة وجه الطفل والحاكم …إلا أن المرافق رد عليه بترقب : انتبه لاتكرر السؤال عن تلك اللوحة ..لقد وصلت هي وصاحبها للسلطات وهو الآن إما بين يدي الحاكم أو تحت التراب !

شعر البائع بندم وخوف شديدين …كل الأبواب سُدّت في وجهه …كيف حدث كل ذلك ؟ ما الذي أوصل الرجل واللوحة إلى تلك البلاد؟

يوم مر بحرارته وضيقه وضجره ، اختفت على إثره كل الحكايا ، وجوه الناس من حوله تمثل مشهدية تلك اللوحة ، المواطن المقهور بين سنديانة السلطات ووطن مليء بالتمزق ..كسرة الخبز التي كانت دأْب البسطاء من أجل عائلاتهم ، الاقتصاد المنهار …والفقر الذي يدق كل الأبواب ، الهروب من وطن صار فيه التعبير ولو بالرمز ؛ إلى ملاجئ تفرض صمتها على المقيمين.

لم يكن يدري بائع الخردة أنه يبيع أفكارا وثقافات تقبع خلف مقتنياته القديمة ، التي عاش بعضها مئات من السنين ؛ وباعها أهلُها للتخلص منها حينما صارت هاجسا من هواجس السجن والإعدام .

___________

Souad733@gmail.com

 

مقالات ذات علاقة

لَكِنَّ اللهَ يُحِبُّنِي ..!!

جمعة الفاخري

معلّقة على الحائط

زمزم كوري

لعـبةُ المكعـبات

محمد المغبوب

اترك تعليق