عند الأصيل تماماً بعدما هاجمته عدة كوابيس، أفاق مضطرب المزاج، معكر السريرة، لم يفلح فنجان القهوة ودخان السيجارة التي نفته بشراهة أن يصلحا من حالته النفسية. ربما لهذا، مد يده إلى تناول صندوق اللعبة التي ابتاعها منذ أيام، وأخذ يفك بكارتها.
ضحك كثيرا عندما تذكر تتبعه للمرأة في الشارع المكتظ بالمحلات العامة، دون أن تعيره اهتمامها حتى وهو يدلف محل الألعاب عقبها، ثم وهي تتفحص المعروضات، وهو يفعل مثلها كقرد ممتاز.
ولأنها اختارت لعبة المكعبات فقد حاكاها، واتجه خلفها أيضا إلى الصراف، ولم يجد بداً من دفع قيمتها بعدما اكتشف معرفة الصراف له، حتى يداري خجله ويخرج وفي يديه لعبة المكعبات والتي لا حاجة لأعزب مثله بها.
قال في وحدته.
– لو طلبت منها اختيار اللعبة الأنسب لطفل في السادسة من العمر مثلا. لكان مفتتحا للحديث معها، ولربما كان بداية لعلاقة جميلة، أما أن أتبعها وأحاذيها وأشتري لعبة مثلها، فهذا عين الغباء.
أطلق آهة.
أشعل سيجارة ثانية.
أبعد اللعبة عنه، وشرع في استدعاء ذاكرته.
وأطلق لخياله العنان.
أدرك أن وحدته باتت سبب انزعاجه، وأحس بالقلق.
قال في صمته:
– سأبني لفخامتي قصرا يليق بي، مؤثث بالأحلام المدهشة، والأماني القزحية.
وحين شرع في تركيب المكعبات، اكتشف ضيق المكان وضآلة نفسه، فعدل عن الفكرة وفك الذي ركبه.
ركب طيراً يحلقٍ في السماء، وأفلح في التشكيل واختيار اللون.
غير أنه استنفذ كلّ المكعبات في جسد الطير دون أن يركب له الجناحين.
لهذا أحس في داخله أنه يطير ثم يسقط دفعة واحدة وفي لمح البصر.
ولهذا ثانيا شعر بجسده وكأنه يرتطم بالأرض دون إصابات تذكر.
وثالثا، شعر بالبطولة.
قال في نفسه.
– من البطولة أن تنفذ فكرتك، وعند الفشل، لا يلحق بك أية أضرار.
إن الذي تنفقه في نيل الهدف، هو أصعب من الحفاظ عليه.
وأخذ في تفقد جسده، ليتأكد من سلامته، فشعر بالرضي يغمره، وهذا ما أغراه.
شكل من اللعبة بعد أن فك أجزاء الطير، برجاً شاهقاً، وما أن وصل إلى تركيب رأس قمته، حتى وجد نفسه يلملم بقايا غضبه في قبضته ويهوي بها على البرج الذي عاد إلى سيرته الأولى…
مكعبات فقط في شدة الصغر، ذلك لأنه خاف العلو، وخشي شدة السقوط.
أحس بالتعب.
عملية البناء أرهقته برمته..
– الفك والتركيب لعبة في غاية التعقيد، والإنهاك…
– اللعبة مسلية غير أنها في غاية السذاجة، ولا تأتي بأية نتيجة.
حدثته نفسه بذلك.
رد عليها:
– اللعبة مضيعة للوقت وهذا الذي أريد.
سأتسلى…
ركب من المكعبات جسداً لا معنى له ـ شيء ما غير مألوف. فلم يعجبه ففك المكعبات.
قال همسا كأنه يدندن بأغنية.
– غبي من يصنع لا شيء.
أشعل سيجارة في كسل ملحوظ، وأسند رأسه على الذكريات متأملا سحب الدخان التي نفثها في جو الغرفة مشكلةُُ بذلك أشكالا عدة ما تلبث حتى تتلاشى في الذي لا يُرى وتسافر إليه في رحيل لا يعود أبدا.
هو الآخر قد سافر بأجنحة الأحلام إلى الشواطئ النائية، غير أنه كان دائما يجد نفسه في ذات نقطة الانطلاق.
تمنى وهو يسحب نفسا شيقاً من السيجارة أن يكون ريحا دائمة، والترحال دون تحديد غاية له.
لكنه تذكر وهو ينفث الدخان من فمه، أنه سندباد يطير في مكانه، ويرحل إلى نفسه فقط.
هاهو ذا الآن وحيدا مع خلوته، في شقته العتيقة التي ورثها عن أبيه.
شقة مؤثثة بالقديم وبالضروري فقط،
عزوبية مفرطة لا فكاك منها.
وظيفة متواضعة في مصلحة الآثار.
وجيب فقير.
رد على حديث لسانه الأخرس.
– ماذا سيتغير في الأمر لو أنني حققت الذي يشتهيه أي رجل مثلي، لا شيء؟
لن تتغير أصابعي من مكانها ولن تتحول الكتاكيت إلى عصافير.
لماذا مثلا أكون حارسا للملايين وليس بمقدوري انتعال حذاءين مرة واحدة.
بيد أنه عندما جاءت الملايين في ذهنه، أسرع في رمي السيجارة وفي تشكيل خزنة للنقود من المكعبات اللدائنية وعندما انتهى، وتمعن منظرها الذي أعجبه، تفجر عطشه الشديد للمال، وسارع في فتح بابها.
من الخواء المليء في الخزنة خرجت عليه خيبة كبرى ولم يفلح في إطفاء نار عطشه باستلال ولو ورقة نقدية واحدة يمكنه بها ابتياع أصغر الأشياء وأبخسها ثمنا.
هذا ما جاء إليه بالغضب الكبير الذي حطم به الخزنة التي تحولت إلى مكعبات لدائنية لا أكثر من ذلك ولا أقل.
ليس أمامه إلاّ مكعبات عديدة الألوان غاية في الصغر، عند تعشيقها، في بعضها، تصير إلى أي شيء.
أي شيء هذا هو مجرد مجسمٍ لحجم ما، يمليه طيف حلم، أو شكل حقير لأمنية ساذجة تصنعه أصابع اليد، وهي تتلاعب بالمكعبات، ويغرق هو في التسلية، واغتيال الوقت، وتوجيه حواسه كلها إلى الشكل الذي يريد أن يشكله.
طفل في منتصف العقد الخامس يلعب مثل أي طفل في الخامسة من عمره.
يتسلى، ويترك كلّ شيء خلفه.
تذكر وضعه في الحياة، وهذا اليومي الذي يأكل سنوات عمره، ويجتره حتى آخر ذرة فيه.
– كان يمكن أن يكون وضعي أفضل بكثير من وضعي الحالي الذي يبعث على الغثيان.
– لو أنني تنازلت منذ أوّل مرّة.
قالها في الفراغ الذي يحيط به وعض أصبعه،
شعر كأنه طفل صغير لم يمر بتجربة ولم تحنكه الأيام.
وعاد إلى لعبة المكعبات.
هذه المرة لم يرسم أي شيء في ذهنه.
ترك أصابعه تركب المكعبات بعشوائية مفرطة، وبعد لحظات من التركيب غير المقصود، تناهى إلى نظره الجزء الخلفي من شكل البندقية.
صرخ كطفل سعيد.
– هذا جيد.. غير أن الدبابة أفضل وأجدى.
أخذ يفك الشكل ويعيده إلى مكعبات.
داهمته فرحة الانتصار بالقبض على الفكرة، وبجدية بدأ بشكل من المكعبات دبابة ضخمة وكلما انتهى من جزء منها كان الفرح لديه يكبر حتى نهاية التركيب.
الآن صارت لديه دبابة محشوة بطلقات عديدة وفي حقيبتها الخلفية تكتظ بالعديد من الذخيرة بما يمكنه احتلال مدينة كاملة الدسم.
حشد قواه وركبها وأتجه بها إلى هدفه المنشود.
مزهوا مثل طاووس.
قويا مثل أسد..
في كامل الرجولة وفي طريقه إلى أن يصير بطلا على الخارطة التي رسمها بكلّ حدودها الورقية
انطلق بها، وتناهى إلى سمعه صوت الجموع، وهي تهتف له وترميه بالورود وبالقبلات تودعه أيضا.
اجتاز مسافة مسار يومين حتى وصل أوّل الحدود.
لكن الممنوع الذي يسكنها كان له بالمرصاد بما أجبره على التقهقر والعودة بخيبة كبرى صارت إلى كارثة بسطت رداءها على الجميع بأسره.
هـامش:
القصة لم تنته لأن الرجل حسب بناء القصة وتصاعد أحداثها تشير إلى أنه ما يزال منكبا على المكعبات لإيجاد تركيب جديد يمكنه الوصول إلى هدفه واجتياز كلّ الحدود، ليحول الكارثة إلى انتصار عظيم.
وحسب قوله، حتى وإن كان على الورق ومصنوعا من لعبة المكعبات بالفك والتركيب معاً.