سيرة

في ذاكرتي

صورة لبناء قديم بالجبل (الصورة: عن الكاتب مراد بالحاج)
صورة لبناء قديم بالجبل (الصورة: عن الكاتب مراد بالحاج)

منتصف سبعينات القرن الماضي، والصباح لم يكن على موعد مع شيء سوى الاتجاه للحقول وإعادة جدولة ترابها، وتنقية أحواض أشجار الزيتون، من بعض الأعشاب التي تشاركها مياه الأمطار، وإعادة ترتيب حدودها بالأحجار التي تُطوقها، خوفا من انحدار الماء وتأكيدا للحق في الأرض.

هكذا هي الحياة في الجبل، مواسم للزرع وأخرى للحصاد، تتخللها بعض الأحداث والمناسبات الدينية والاجتماعية، انسجاما مع نواميس الحياة وطبيعة الكون والتكوين.

مادة الإسمنت ليس لها حضور في خرائط المعمار المحلي، الذي كان يقوم على الحجارة بأنواعها والجير والجبس والرمال الخشنة مع قليل من الملح، أما الأرضيات في براح البيوت وداخلها، فقد كانت طينية متماسكة يغلب عليها التحجر، وقليلة هي البيوت التي تكونت لها أسوار بفعل التضاريس والطبيعة، ولا يمكن ملاحظة ذلك إلا بوجود باب خشبي كبير تسنده من اليمين واليسار أعمدة طويلة من صنور النخيل. 

الهواء البارد والجاف هنا كان ينتصر على كل المشهد، ويضعه بين مطرقة ضيق الأفق وسندان العوز، وكنت أرى ذلك حتى في تجاعيد الوجوه، وتعابير لغة أجساد الناس، أما شظف العيش فقد كان كافرًا ولا يتوانى عن مصادرة أي مظهر قد يرى فيه رفاهية أو ترف!

اعتلاء ظهر حمارة جدي، كان جزءً من مظاهر السطوة والعنفوان لطفل مثلي، في معركته المدينية أمام قسوة تلك البيئة، السير إلى الحقل كان مغامرة في طرق ملتوية ووعرة، يتخللها صعود مفاجئ لبعض الهضاب وانحدار عميق في سهول أخرى،  كنت أمسك بشعر ناصيتها خوفا من السقوط في أي لحظة!  أما باقي جسدي فكان بالكاد يتكئ بالأرجل على جالونات الماء الحديدية (جالونات لونها أخضر من بقايا سيارات الجيش القديمة)، تتدلى يمينا ويسارًا فوق البردعة.

مازالت صوت حوافر تلك الحمارة وهي تصطدم بأحجار الأرض في ذهني، وكأنه معزوفة موسيقية يومية يبدأ معها الصباح. الأعراس كانت بهجة يتصدرها  الحضور المميز للزكــار، ببدلته الخاصة التي تزداد جمال عند رقصهم الجماعي وغنائهم الدال على مواريث خصوصية الثقافة، ومصطلحاتها المفعمة بالشجن والعواطف.

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (10)

حواء القمودي

توكيل قانوني لجمع دراساته ومقالاته

سعيد العريبي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (28)

حواء القمودي

اترك تعليق