10
البنفسجة الطموح
راجعتُ الذي كتبت، وأظن بعضه حكايات مكررة، ذُكِرت في أكثر من لقاء صحفي، وربما الحوار الذي أجرته معي الصديقة المتألقة “فاطمة غندور”، كان الأكثرانسيابا في البوح. وهذا الحوار موجود بصفحتي الخاصة أو (باب حواء القمودي) في مدونة (سريب) الخاصة بالصديق المبدع “أحمد الفيتوري”.
وأيضا وجدت في كراساتي التي أحاول هذه الأيام تنظيمها وهي المبعثرة، كراسة بها إجابات لأسئلة من الشاعروالصحفي “خالد درويش” (ولا أعلم هل نشر الحوار أم لم ينشر بعد)، وكان الحوار في عام 2003.
إذن ها أنا في اليوم التاسع من شهر يوليو، أحاول لملمة ما تبقى في ذاكرتي، واستباق مزاجيتي والتي قد تطوّح بكل هذا (الخُراف) في لحظة بكاء، وكان السؤال الذي يؤرق سيدة كريمة صادقتها لوقت قصير: لماذا لم يستطع هذا المجتمع الليبي أن يقفز إلى المستقبل؟
وها أنا استمع إلى رنين سؤالها وأصوات (مولدات الكهرباء)، تصدح من حولي ولكنّي لست بائسة ولن أفقد الأمل، وأمس في حديث مع صديقي وولدي “بدر الدين الورفلي”، أبدى انزعاجه من نبرة اليأس في نصوصي الأخيرة (لا أحب نصوصك اليائسة لا أحب اليأس فيها، ولو أحببت الصور والتشابيه)، (أنت تربطين اليأس بالعمر، وهو ما لا أحبه)، فأجبت: هو تـنبيه أن ما ضاع من العمر يكفي؟
مرعب جدا هذا الفعل (ضاع)، والذي سيكون مصدره (ضياع)، ولكن سأقفز إلى حكايتي الأثيرة إلى تلك القصة والتي من خلالها تعرفت على اسم “ميّ زيادة”، قصة في كتاب المطالعة للتعليم الثانوي والذي هو أيضا من كتب أخي التي أحظى بها في العطلة الصيفية، كان عنوانها (البنفسجة الطموح)، قرأتها في لحظة من تلك اللحظات التي ربما كنت أبحث فيها عن معنى لحياتي، البنفسجة التى رأت الورد السامق والأشجار العالية وأحبّت أن تعيش تلك الحياة أن تستقبل الشمس بوجهها وتشعر بملامسة النسيم، وأن تتذوق المطر وترى العالم الذي يقبع خلف سور الحديقة، حدث جدال بينها وبين رفيقاتها: لماذا تجازف بحياة الطمأنينة؟ حيث هي مخبأة ومصونة تأخذ نصيبها من الشمس والهواء والماء، ولكنها تواصل حلمها وتناجي أمها الطبيعة التي حتما ستستجيب لرغبة عارمة، وهكذا ستغدو سامقة وتعيش ذاك اليوم الذي يبدأ بشروق شمس تقبّلها ونسائم تداعبها وترى العالم الذي ينبض خلف سور الحديقة، ولكن وتحديدا بتلك الليلة الأولى ستأتي عاصفة وبلاهوادة ستضرب الحديقة وتقتلع الاشجار وكل ما هو سامق، ولم يتبقَ إلاَّ تلك البنفسجات المختبئات في حمى جذع شجرة كبيرة قاومت العاصفة، وجاء الصباح وهنّ يتساءلن عن مصير تلك (الغبية)، وكانت غير بعيدة تسمع حديثهن.
رفعت رأسها لتعلن لهم أن هذا اليوم الذي عاشته، كان يساوى عمرها كله الذي ظلت تعيشه مختبئة، لقد حققت حلمها في العيش كما تحب حتى إن كان يوما واحدا!
هذه القصة عمّقت حكاية الحلم، الحب، الحرية، العلم. هذه الأقانيم التي عرفتها من رواية (الزنبقة السوداء)، ولكنّها أيضا أشارت إلى الخطر الذي سيكون لصيقا بمن ستختار أن (تحقق حلم الحرية)، هذه التي ستختار أن تخرج عن الإطار المحدد سلفا.
وليتعمق هذا الوعي، ونحن كأسرة نلملم حاجياتنا لنغادر بيتنا القديم في (السانية) ونذهب إلى (الدوبلكس) الذي بدأ البناء فيه في العام 1976م، وكان دخولنا إليه قبل أن يكتمل نهائيا في نهاية يوليو 1978م، لأن تلك الفترة كان (الزحف) على أملاك الناس جارياً على قدم وساق، بمقولة (البيت لساكنه)، وهذا البيت كان حلم أمي الذي صارعت لأجله كثيرا، لم تخاصم أبي لأجل شيء خاص بها، ولم تطلب ذهباً أو حريراً، كانت فقط تريد بيتاً كبيراً.
وهكذا كان، حين اشترى أبي حصص أخواته وأمه وابنة أخيه في قطعة الأرض، والتي اسمها (سانية عبادي)، تلك السانية التي كنا نذهب إليها في موسم الزيتون كي نجمع حباته الغدقات.
في ذاكرتي يوم مفعم حيث جمعنا أكياس الزيتون التي كانت حصيلة العمل في (أرضنا بالسانية)، ثم لنصعد على (الكارطون)، حيث نجلس على أكياس الزيتون المعبأة والتي تفوح برائحة الزيت.
يا الله من يعيدني إلى تلك اللحظة و(الكارطون)، بهدوء يعبر الطريق، وأبي ينش على الحمار وأنا وأخوتي نتخافت الضحك وترتفع التحايا من هنا وهناك، وصوت أبي الذي يردها، ونصل إلي حيث أكياس الزيتون، حصيلة تلك الزيتونات الباذخات في (سانية عبادي)، نحمّلها ونواصل السير إلى المعصرة، (معصرة الفزاني)، رائحة الزيت، صوته، وشكله، و(خبزة سخونة) نغمسها في زيت فواح، لنعود إلى مرابعنا. وها نحن في عشية تحديداً في نهاية شهر شعبان معنا جدتي (صالحة)، التي كانت تريد البقاء في (الحوش الكبير) قريبة من ابنتها “امني”، ولكن أبي أخبرها أنه لن يغادر بدونها.
مازلت أذكر كيف استقبلنا إعلان دخول رمضان وعلى (السبر) ذبح أبي دجاجة، وكان العشاء (مكرونة امبكبكة).
لم نسكن بالطابق الأرضي لأن السور لم يكتمل. وهكذا صعدنا إلى الدور الثاني واخترت حجرة كبيرة وأخوتي الصغار حجرة، وجدتي حجرة خاصة بها. البيت كبير واسع ويطل على (سواني) خضراء ونسائمه عبقة بملح البحر. وكان أول أغسطس هو اليوم الأول من شهر رمضان، في حجرة خاصة وفراش على الأرض ودولاب وكتب أحملها معي.
أكتشف مجلة اسمها (الشورى)، وحين يهدأ الصخب وينام اخوتي ونستعد لطقوس (السحور)، أنفرد بها وأبدأ البحث فيها، حينذاك سأجد قصة أسمها (وكانت الشمس شاهد عيان) لأبدأ القراءة وأغوص في تلك العوالم. كم بكيت وارتجفت رعبا وحقدت على (الجنود!؟)، وكم قرأت هذه القصة مرة واثنتان وثلات وووو، كل مشاهد القصة البنت والولد العصفور وأمه الحب الذي سيُغتال ويغتصب، ولكثرة ما قرأتها حفظت اسم كاتبها “عمر الككلي”، وحينذاك تحديداً كان يقبع في سجن في طرابلس أو بنغازي.
هو السجين غرس بذرة وحفر بأزميل الكلمة، الألم في روحي، وحفَّزني أن أكون متمردة.