الطيوب | قراءة : مهنَّد سليمان
منذ الصفحات الأولى وكاتب الرواية الموسومة (ضحايا) للكاتب “جمعة الموفق” الصادرة حديثا عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع يتعمّد التعاطي مع القارئ وفق أسلوب الصدمة الكاملة إذ تتقافز تباعا سطور شهود العيان على ما كان يجري من جرائم قتل مفزعة في مدينة ترهونة ونواحيها ربما أراد الراوي اقحام القراء في أتون الموت دفعة واحدة دونما تمهل أو تدرّج فجاءت الأوصاف بالغة البشاعة والفجاجة كما وقعت تماما، الراوي كان صوتا واحدا يُحرِّك الآخرين بضمير الغائب، وأثناء وصولي إلى الربع الأول من العمل تملكتني رغبة ما بالانصراف عن مواصلة قراءة الرواية لا أدري ؟! قد يرجع ذلك إلى طبيعة اللغة الحنظلية التي وظّفها الراوي في صوغ سرديته، واللافت أن ثمة خيط مشترك يربط بين أول عمل روائي أصدره جمعة الموفق المعنون (القمر العاري) مرورا بـ(عار) وانتهاءً بآخر عمل ولعل الثيمة الوسيطة تكمن في عنصريّ المكان وانتهاك الجسد، وكأن روايته الأولى (القمر العاري) مهّد بها أرضية الخيال للوصول إلى نقطة اللا عودة فالبصقة مثل كرة الجليد أخذت تكبر وتتضخم حتى صارت قذيفة يتناثر رذاذها كشظايا الرصاص الحيّ. إن (ضحايا) تكاد تكتظ بل تختنق بعفونة الجثث ونتانتها جراء انتشار المقابر الجماعية، القسوة ذاتها مارسها الراوي تجاه القارئ كي يبرهن على رؤية درامية أعماها دم الإخوة وأبناء العمومية.
العزف النشاز
لا يكاد القارئ يستشعر أبعاد رواية (ضحايا) إلا بعد نحو 20 صفحة تقريبا ليظهر شيئا فشيئا أفق الأحداث وتشابكها مع منطق الصراع الإنساني، من جهة أخرى يصف الشاعر والروائي الليبي “عبد الحفيظ العابد” (ضحايا) بأنها تضع القارئ إزاء ما سماها (شعرية البشاعة)، برغم أن الراوي الشاعر في الأصل لم يُسرِّب قيد أنملة أي وجه شعري على امتداد المتن حتى في تلكم المشاهد المُصنّفة على أنها حميمة بين شخوص العمل أوجد الراوي مساحة كبيرة تعكس صيروة الجريمة حيث احترق بلهيبها بشير وزياد ومسعود في آن نتجت عنها صورة فقأت عيون القمر التي أودعها الضوء بفم القصيدة.
شهية نيرون
تكشف لنا الرواية أيضا عن خصائص شخصية تميل للإزدواجية المرضيّة يجسدها رجل يُلقبه أهالي بلدته بالحاج ذاك الحاج مُصاب بتشوهات أخلاقية عميقة فهو من ناحية يستقبل شكاوى الأهالي الراغبين في معرفة مصائر اختفاء أبنائهم الفجائي ، باعتباره أحد الأعيان الأكابر، ومن ناحية ثانية نجده لا يتورّع عندما يُشرف بشكل مباشر على تنفيذ أشنع الجرائم بشهية نيرون الذي أحرق روما وهو يغني فوق تلة اسكيلين، وهنا نتوقف عند الإيقاع المتصاعد للأحداث الذي يحبس أنفاس القارئ كي يصل به الصفحة الأخيرة، وبالتالي لم يُبقي الراوي هامش حياة يؤثثه الخيال. نعم هو أراد ذلك لبث معزوفة مشروخة في الحناجر تعزف النشاز طوال العمل لنرى كليبيين حقيقة لطالما هذّبنا جدرانها، وشذّبنا الأضلاع الثلاثة لصورتها لتجي لوحة الغلاف الخارجي موحية للقارئ بأعراض هول ما سيلاقي .
الحياة على استحياء
حاولت الرواية في المقابل تلطيف وقع الصدمة بعض الشيء إذا جاز لنا التعبير وإحداث اتزان بنيوي داخل عملية السرد بشخصية “نجمة” المرأة صاحبة الذائقة الوثّابة للموسيقى وللحب، ولطقوس الحياة حين تعود بها ذاكرة الأيام إلى حديقة ذكرياتها وأحلامها، وتحديدا ليلة زفافها على “مسعود” ذو الشارب الذي يشبه حدوة الحصان، وهي بعد لم تتم عامها العشرين حيث انتظرته بقميص نوم يشف عن جسد لم يخلق الله له مثيلا. إن هذا الوصف الدافئ للشخصية جعلني أستحضر “نجمة” إحدى شخصيات الروائي الراحل “خليفة حسين مصطفى” في رائعته (ليالي نجمة) فراوي ضحايا سواء بوعي مسبق أو بدافع لاشعوري أسبغ على شخصية “نجمة” الملمح الجمالي لبطلة رواية (ليالي نجمة) كذلك تناص شخصية “مسعود” صاحب الخلفية العسكرية مع شخصية الشاويش عبد الله الذي راودته نجمة في حله وترحاله بيد أنه لم يحظى بها مثلما حظي بها “مسعود” لعل العقل الباطن للرواي انتصر للشاويش عبد الله بأن جعل مسعود يلجها بكامل فحولته، وفي حي العريب بترهونة. قد يكون وجها من وجوه الانتقام للزمكان لكن سرعان ما يلبث سقف بناء أحداث (ضحايا) بالتسارع والتساقط مرة أخرى ينتقل من ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية ليهوي من علٍ على رؤوس الجميع بذات البشاعة التي ابتلعت الشعرية، وتركت في حلق الوطن غُصّة نازفة.