المقالة

ومضات رمضانية

شهر رمضان المبارك
شهر رمضان المبارك

رمضان شهر الروحانيات والانزواء إلي مسابير الذاكرة..

جلست جلسة تأمل بعد ليلة رائعة بالمدينة القديمة طرابلس واستمعت لذكريات الزمن الجميل من ذاكرة القامة الفنية عبداللطيف حويل. الاجواء والذكريات حملتني لأسبح بخيالي لاستحضار جزئيات من خبايا الذاكرة للحظات سعيدة عشتها في ظل عائلتي الكريمة هذه العائلة التي كان الشهر الفضيل له قداسة خاصة لا يمكن المساس أو التقصير بأي طقس من طقوس هذا الشهر الكريم وما قبله شهر شعبان الذي تطلق عليه أمي بالشهر القصير وحسب إجابتها لسبب التسمية أنا أيام هذا الشهر تمر سريعا وأحيانا لا يكون الشهر متكمل الأيام.

قداسة هذا الشهر القصير تكمن في الاستعداد للشهر الفضيل رمضان، من طلاء واجهة البيت باللون الأبيض، والمشربيات التي تتوسطها بروز جصي لمنحوتة غزالة في إطار دائري، يعقبها تلميع لجرس الباب النحاسي، وكذلك لوحة منزل محمد جبران الحامل لرقم منقوش.

كانت كل المنازل تحمل مثل هذه اللوحات المربعة الشكل وتحمل أسماء أصحابها .. كنت دائمة التساؤل ما دخل الصيام بهذه الاستعدادات المرهقة. وكنت دائما استغرب هذا العمل.

والغريب حجم الطلبات المتزايدة من أمي عن الأشهر الأخرى، فالوالدة كانت تجهز كل التوابل من غسل وتجفيف ثم إرسال بعضها للمطحنة. وطلبات لبعض الأطباق، فنجانين الشربة، وفنجان القهوة والشاي، وبوخشة التقديم، فلا يدخل الشهر إلا بجديدهم.

والاستغراب دائما مصاحب لذاكرتي الصغيرة، التي لم تحل لغز الحياة ومتعة أشياء قد تبدو غريبة لكنها هي أساس لسعادة فاعلها. كانت التجهيزات بحب وود، وهي في حقيقه الأمر مناجاة لرب العباد وجزء من عبادة صامته لشعيرة الصيام والقيام.

ما لها طقوس..

والبنت بنت أمها، ما كنت استغربه من تجهيزات والإصرار علي بعضها لدرجة التعنت أصبحت أتقن وأصر علي هذه التجهيزات مثلها.

ومن العبارات القابعة في ذاكرتي: (رمضان باقي ونحن الراحلون) عبارة رنانة لم تغادر مسامعي منذ أن بلغت مدارك الفهم.

عبارة لها دلالات عدة، دلالة الاغتنام:

1. فشهر رمضان باللهجة الدراجة (نهبه) فعلي المرؤ أن يغتنم فرصة التقرب إلى الله بكل الأعمال.

2. الدلالة الثانية أن الموت قريب قرب الوريد فقد لا نصوم شهرا مقبلا فعلى المرء اغتنام التطهر والتقرب بمسح ما علق في الروح والجسد من الآثام (غسل الفريسة ).

3. شهر صلة الرحم والزيارات والفرح والابتهاج والتجلي في حب الخالق وعمل الخير.

شهر رمضان كل عام يعزف لنا موسيقي سمفونية الأثر الجميل لماضي جميل وحاضر يتجدد وإن اختلف في بعض مضامينه .. فشهر رمضان شهر الروحانيات والفرح والبهجة اختلف في مفهومه لدينا ما بين الصغر والرشد .

فرمضان في صغرنا هو الامتناع عن الاكل والشرب والهدوء المطبق أثناء وجود الاب في البيت مخافة ازعاجه وإرسالنا بصونية الذوقة للجيران ولعمي هادي قيم جامعنا عبد الغني.. والعودة بمثلها أحيانا.

وارتبط بتجمعنا حول المائدة في هدوء وترقب وسكينة ونحن نستمع لصوت القارئ قبل إطلاق مدفع السرايا والوقوف للصلاة وراء الوالد. والاستمتاع بالاستماع الي البسباسي وصوت فاطمة عمر الله يرحمها العذب في قفشاتها التراثية الذي تحمل بين طياتها ترجمه الواقع الاجتماعي السياسي . تلك العبارات السريعة العميقة الدلالة.

ارتبط البسباسي ارتباطا عميقا بوجدان كل الليبيين. كلنا نتفرج علي البرامج ونعلق عليها فهي الوحيدة لا خيار لنا.. افقدتنا كثرة البرامج في عديد الفضائيات المحلية والعربية متعة التفرج والاستمتاع بالأمسية الرمضانية فاختيار الأفضل يأخذ الوقت ويفقد التمتع.

أصبحنا نعيش الحدث بسرعة المكوك في كل حياتنا فتحملنا الذاكرة دوما للتحسر علي قديمنا الجميل من بساطة الحياة وعدم التكلف.. نغوص في ذاكرتنا لنسرب بعض الجميل فأحن الي جلسة ما بعد صلاة التراويح وترأس أبي الجلسة وإحضار ما لذ وطاب من حلويات صنعية أنامل أمي الغالية رحمهما الله. حضورنا جميعا مقدس في هذه الجلسة التي لا تخلو من البصارة والتنمر علي البعض والضحك علي بعض المواقف.

شهر رمضان في بيتنا له رونقه الخاص، فوالدي رحمهما الله هذا الشهر عندهم له تقديس عظيم. كل أشهر السنه تقوم علي هذا الشهر فهما كبار العيلة سنا وقدرا. فعادات الوالدة كل طلبات الشهر متوفرة وبكثرة قبيل الشهر بأسبوع واللحمية في الموسم. ومهمتنا تزيين البيت وتنظيف البيت وشراء الجديد عادة ملازمتنا. ومن المفارقات المضحكة تكرار شراء فنجانين الشربة وسزوة القهوة كل عام.

طبعا البيت مفتوح الموسم وبداية رمضان زيارات كل العيلة للمباركة على الشهر. الأوسط زيارات الجيران والأحباب ليلة القدر قصعة الموتى طبعا قصتها قصه مرة أخري نحكيها.

أيام العيد الثلاث تجنيد إجباري.. فكل رجال العيلة ونساؤها.. المعايدة والفرح والبهجة والتقديم المرتب علي قوله أمي وغياك ثم إياك إذا ظهرت ملامح عدم الترحيب علي وجهك . شن يحزها هههه.

رمضاني الشخصي منظومة مرتكزة علي ثلاث أضلع كل ضلع موازي للآخر الضلع الأول.. العلاقة الإلهية الروحانية.. أعتبرها شي مقدس غير حبل متين لابد من زيادة سمكه في هذا الشهر الكريم فهو شهر غسل الفريسة كما يقولون. شهر تنقية الروح من شوائبها الحمد لله لنا العمل لله القبول. اشتقت لصوت أبي: آه خيرك اليوم عطلتي؟ قبل تمشي بكري للجامع. الله يرحمه غرس فينا كل خير.

الضلع الثاني؛ شوي لله وشوي لعبدالله.. الزيارات والتبضع وإن قلت في السنوات الأخيرة للتغيير من الزيارات الاجتماعية إلى الثقافية ..

الضلع الثالث؛ القراءة أولا في المصحف ثم أي رواية أو تنظيم لأوراقي، وما ساعدني هو ما ورثته عن والدي ووالدتي، النهوض مبكرا فلا أنام بعد الفجر وأخرج للعمل مبكرا، لدرجة في شهر رمضان زملائي يستغربون.

مازلنا ومازال فينا روح القديم الجميل، فمازلنا علي أسبار عليتنا، قائمين فليالي رمضان في بيتنا قصة ممتعة جالبة للفرح والتعب والحب والابتهاج.

مقالات ذات علاقة

بمقهى الفنانين طرابلس: شربنا القهوة وبعيدا أخذنا الحنين

زكريا العنقودي

في حب الأرشيف

محمد الترهوني

التطور الحقيقي

الصادق النيهوم

اترك تعليق