الفكرةُ لها أنف، ولكن دون أن يلاحظهُ أحدٌ _ هذا الأنف يحبُّ الغبارَ وتكوين الجمل وارتكاب الأخطاء _ للأرشيف جماليةٌ خاصة لا تطلبُ التقدير من أحد، ولا تحتاج إلى جمهور، جمالية الأرشيف يفهمها القادرين على الانتباه إلى الشكل النقي للأشياء المعزولة، ولمن لا يعرفون أهمية الأرشيف يجب أن أقول : بدون الأرشيف الذاكرة الجماعية ضعيفة، وسرعان ما تتبخر معرفتنا بأنفسنا، ويتبدد ماضينا المشترك في النسيان. الأرشيف هو ما يرفض كل هذه الخسائر، ويصر على الهمّهمة وإعادة رواية ما قد حدث. أشياء كثيرة بدون الصور الفوتوغرافية ستختفي من الذاكرة وتضيع _ يلتقط الناس الصور بنهم، وقلق خوفًا من الغياب، والاختفاء في ضباب الزمن _ الصور تُرتب الأشياء ترتيبًا يقاوم الزمن. الصور مرآةٌ تقفُّ في وجه الحاضر بأحسنِ طريقةٍ ممكنة _ المصورة الفوتوغرافية (أنجيلا غراويرهولز )، في معرضها نشيّد الرعاة، أو ملء المنظر الطبيعي في متحف الفن الحديث في مونتريال _ قامت بصنع صندوق زجاجي تصنف فيهِ وفقًا لنظام الفهرسة مجموعة صور لقلعة قوطية واطلقت على هذهِ المجموعة اسم أسرار حكاية قوطية، والصور مرتبة في أدراج الصندوق بحسب درجة تجريدها. في القرن التاسع عشر كانت الصورة تخضع لنظام تركيبي، وأسلوب صارم من أجل تقليل نسبة التفرد فيها لصالح الأرشيف، لأن الصورة كانت تعتبر استراتيجية يُعيد من خلالها الفنان بناء العالم، وهي جرد لثقافة الناس، والحيوانات، والنباتات وكل الثقافة المادية، لكن في القرن العشرين الصورة أصبحت تتمحور حول نفسها بشكل حميّم، ومفرط في إنسانيته _ صورة القرن العشرين تتميز بالشخصي، وهي علامة على فكر وتأمل الحقيقة غير المتناسقة للوجود، لقد أصبحت الصور مكان الدراما، والألفة، ومقاومة النسيان _النغمة الهادئة للنسيان لا تُخفي عنفهُ العاري فهو؛ لا يعرف التعب، ولا يبلّله العرق، فالأرشيف ليس مكانًا تحتضر فيهِ الذكريات، أو مقبرة للوثائق كما يعتقد البعض، إن التفكير في الأرشيف بهذهِ الطريقة يجعل منهُ حيزًا غبيًا وزائدًا، ومحكومًا على وجودهِ بالفشل. الأرشيف لا يجب التفكير فيهِ كمكان لتخزين ما هو قديم، بل التفكير فيهِ كمكان لإنشاء ذاكرة، الأرشيف لا يتكلم ولا يثرثر مثل العجائز، الأرشيف يجيب عن الأسئلة، ويكون سعيدًا عندما نطرح عليه الأسئلة الصحيحة.
كل فنان وكاتب وأديب هو بطريقة من الطرق مؤرخ، كل عمل من أعمال هؤلاء المبدعين هو؛ في حقيقة الأمر استثمار للقدرة الوثائقية لفنهِ _ الكاتب إمبرتو إيكو الذي كتب اسم الوردة.، ومقبرة براغ، وبندول فوكو، ولا نهائية القوائم وغيرها كثير _ هو أحد الكتَّاب المغرمين بالأرشيف. في رواية لهُ بعنوان: ”الشعلة الغامضة للملكة لوانا”، وهي رواية تنتمي إلى ما يسمى الشكل المختلط_ هو شكل تكون فيهِ الرواية مجرد نص وسيط لعلوم أخرى، وفيها الكثير من الاقتباسات، والنصوص التوضيحية_ قام إمبرتو في هذه الرواية برسم أرشيف جيل كامل من خلال ذاكرة بطل الرواية، ويومياته، وصوره وجعل المكان “العليّة”، هو هيكل هذا الأرشيف، هذه الرواية، وغيرها من أعمال إيكو تطرح علينا سؤال العلاقة بين الفن، وتفسير الفن، والعمل والتوثيق، ومن ناحية أُخرى أكثر حميمية يضع أمامنا صورة التاريخ المنتج ذاتيًا، والمشهد الأصلي الفردي والجماعي _ في روايات إمبرتو إيكو يظهر الأرشيف كمفهوم غير محدود، ويمكن النظر إليهِ كجمالية لعرض وتحليل الأشياء، في الرواية الحديثة يتم دمج الذات مع الحقائق التاريخية، ومواد الأرشيف. تعريف الأرشيف نفسهُ يؤكد التواصل السلمي بينهُ، وبين الرواية، الأرشيف هو: “وثائق مهما كان تاريخها وشكلها، وحالتها المادية ينتجها، ويتلقاها الشخص العادي، والشخص الاعتباري، وتستخدم من قِبل أي جهة، أو هيئة عامة، أو خاصة أثناء ممارسة نشاطها”.
إذا نظرنا إلى روايات بروست، فرجينيا وولف، وفرناندو بيسوا نجد تمثيل حميم للأرشيف، وطريقة استخدامهِ، ففي روايات هؤلاء طابع خاص وهو؛ انتاج الخيال العام الذي يعبر عن حقائق تاريخية وإنسانية، ما فعله القرن العشرين هو محوّ الخط الفاصل بين الفن والتوثيق، لكن ليس على طريقة القرن التاسع عشر التي تهتم بالعام على حساب الخاص، بل بطريقة أُخرى هي التفكير في الطريقة التي جُمعت بها ألبومات الصور، وصناديق الكرتون المليئة بالأوراق نفسها، وفي طيات هذه الفكرة يظهر الفنان كأمين محفوظات قادر على أن يروي القصة بأكملها، في رواية القرن العشرين يتشابك ماهو مرئي مع، ما هو مكتوب، اللفظ، والصورة، والرسم التوضيحي، وأي شيء آخر _ كلها عناصر يوجد في داخلها دلالات النص، قصائد بيسوا مثلاً هي أروع أرشيف لعصر الاكتشافات في البرتغال، بيسوا هو ذاكرة مظلمة لفترة مضيئة كانت فيها البرتغال تجسد عبقرية الخروج، والبحث عن المجهول، أن تكتب من منطلق أنك أمين محفوظات ليس بالأمر السهل، وعليك أن تخترع عالمًا خياليًا كل ما فيهِ هو حقائق، وهذه الحقائق يجب أن لا تظهر كشيء مُضاف، بل يجب أن يشعر القارئ أنها؛ خيال مكتوب بقلم رصاص.
لن ننسى هنا علاقة السينما بالأرشيف، وقدرتها على جمع اللحظات الجميلة، ولحظات اليأس التي عرفها العالم. السينما تجعل الذاكرة تفاعلية، وتفسيرية، وفي إعادة تشكل دائمة، إنها مكان اللقاء بين “سابقًا” حيث المعرفة لم تكن على وعي بالماضي و”الآن” بعتبره ذكريات، والأرشيف هو مصدر إلهام بالنسبة للكثير من كتَّاب السيناريو والمخرجين، تستخدم السينما الأرشيف كقوة تعبئة للعمل بسبب المصداقية التي يمتلكها، وليس لدى المشاهد شك في حقيقة وأصالة المعلومات الأرشيفية لهذا هو؛ شهادة غير قابلة للتشكيك، ولا يفكر المشاهد في أن هناك تبديل قد طرأ على هذه الوثائق، وكما قال رينيه أليو: “المؤرخون لا يفعلون شيئًا مختلفًا عن الفنانين، إنهم يتحدثون عن حياة الناس، وموتهم”، وبهذا لا يشكل الفيلم فقط وثيقة تاريخية، بل هو قطعة من التاريخ _ عن الفيلم الوثائقي “باريس 1900″، للمخرجة نيكول فيدريس قال؛ الناقد أندريه بازين : “هذه سينما نقية، نقاء مُفجع لدرجة البكاء”، المخرج بيل موريسون تعتمد أفلامهُ على لقطات أرشيفية نادرة، يقوم المخرج بإعادة تأطير اللقطات المنسيّة منذ فترة طويلة، ويصنع منها أساطير جمعية، المخرجة سيسل فونتين جمعت لقطات من أكثر من 50 فيلمًا، وصنعت فيلم بلقطات من أرشيف منسي، في الحاضر قد نعتقد للحظة أن الوثائق، والصور لا تمثل تمامًا الواقع الذي تتحدث عنهُ، لكن الحقيقة هي؛ أنها في كثير من النواحي تشكل تصورنا لهذا الواقع، ولا يعتمد هذا التصور على قيمة الوثائق فقط، بل يعتمد على قدرة هذه الوثائق على بناء الذاكرة، ورواية القصص.
إن أعمال نيكول فيدريس، و بيل موريسون، وسيسل فونتين _ تطلعنا على أمر مدهش، وهو أن هذهِ الأفلام تتحول مع الوقت إلى أرشيف يقوم ببناء التاريخ، ويأخذ موقفًا تأمليًا من الماضي، ومن كل هذا نكتشف أن الأرشيف مكان حي، وليس كما يتصورهُ البعض كزاوية ممتازة للغبار، والقوارض هناك وسط تلك الصور، ورزم الأوراق؛ يجد فنان، أو روائي رسالة، فكرة، مشهد عاطفي في صورة يصنع منه عمل جديد، وقد يرى البعض أن الأرشيف الرقمي قد ضيع الكثير من بريق الأرشيف القديم، لكن الحقيقة هي؛ إن الأرشيف القديم هو ما نقع في حبهِ لأنهُ يشكل الرغبة، والحافز، أما الأرشيف الرقمي فهو صورة على شاشة تسبب الذهان وهوس اكتائبي، لأن الأرشيف الرقمي هو مكان التعارض بين عفوية الطاولة والكرسي وتلك الكتلة غير المتجانسة من الصور على الشاشة.