تأبى الكلمة الحقيقية إلا أن تكون التزاماً صادقاً بما تطرحه الحياة من الأسئلة, وما تفرضه من أشكال المعاناة, وترفض تبعاً لذلك, أن يسلك القائمون عليها كل سبيل من شأنه الإخلال أو حتى عدم الحماس لمثل هذا الخيار المبدئي. ولا يصعب على المشتغلين بالكلمة هذا أن يكتشفوا الفرق بين الكلمة المنبثقة من هذا المنطلق والأخرى المناقضة لذلك في كل أو بعض مقومات هذا الخيار المبدئي, فتراهم لا يخفون أحتفاءهم بكل كلمة تتحلى بمثل هذه الحلل الجميلة , فيقبلون عليها وهي تحتل أعمدة الصحف وصفحات المجلات ويحسنون الأصغاء إليها وهي ترسل عبر الأثير وفوق الشاشات الصغيرة ويسرعون باقتنائها هي وهي تنقد في الأسفار وتخرج في المجلدات , وينزلون كل من يحسن تقديمها على هذه الصورة في المنزلة التي يستحقها من التقدير , يحضونه بالرعاية شاباً , ويكللون جبينه بغار الأحترام شيخاً ولا يسأمون من أحياء ذكراه وهو يودع ظلام الأرماس جسداً , الكلمة في هذه الوضعية تكتسب مشروعيتها وهي تتخلص من هذه الولادة الصعبة بين منشئها الذي يريد لها أن تكون أداة من أدوات التغيير باتجاه الأفضل , ومتلقيها الذي يدرك جدوى هذا الفعل في معركة الحياة الضاربة , فيسعى إلى اكتشاف أسرارها العميقة وتذوق جمالياتها , غير متهيب من عناء البحث ولا متافف من مدوامة الجهد , إذ عبر هذه العلاقة الجدلية يتحقق التراكم الذي لا غنى لكل نهضة فكرية مرتقبة ولا مناص من السعى في سبيله والإصرار عليه لكل محاولة هدفها أزدهار الكلمة .
يتعذر على المشتغل بالكلمة , من باب المسئولية الوطنية , أن يصرف النظر على الآتى وما يتصل به من اشكاليات , وما يفرضه هذا الانشغال من واجب المشاركة وابداء الرأي , ازاء هذا إلا في سواء كان جديداً طارئاً , تفرضه الأحداث المتتالية , أو حدثاً له في التاريخ وجود , وفي مسيرة الحياة أثر , فلا مفر عذر استشعار المسؤؤلية نحو رسالة الكلمة من المساهمة بالمنير , وفي حدود المتاح .
قد يكون هذا الاسهام متمثلاً في تقويم المسيرة وصون مكتسباتها , وقد يكون على هيئة تصحيح لما ينبغى أن ترتب به اولوياتها . وقد يجيء في إطار استخراج الصبر واستخلاص الدروس المستفادة , فيتداخل التصريح مع التلميح , والإشارة مع التفصيل . والأمر في هذا المجال يصدر من خلال الرؤية . والرؤية تفرض كما نعلم , شيئاً من الموقف وبقدر ما تتسع الرؤية , قد تضيق العبارة كما قال ذلك الفيلسوف . بيد أن الضيق يواجه منشىء الكلمة ولا يستثنى بعض متلقيها . ذلك أن هذا البعض لايتضايف من غموض الكلمة بقدر ما يتضايق من شدة الوضوح لديه , فهى إن كانت مختلفة عن سيل النفاق شكلت احراجاً , وأن ترفعت عن المداهنة كانت صدمتها أكبر , وإن سلمت من الانجرار نحو السجال القائم على التنابز بالألقاب وضجت إلى الحضور الأوسع والاحترام الأكبر , تحولت عند هذا البعض إلى مايشبه الوخز المؤلم تجاه الردىء من الكلام كيفما كانت بنوعية الجنس الأدبي الذي ينتمى إليه ذلك الردىء , والذي ماكان له أن يكون لولا بعض الاعتبارات التى تضؤل في كل مشرق شمس ومغربها , مهما استطاع من لايسرهم ذلك أن يؤجلوا ايقاف الكلمة الرديئة , بعض الوقت.
الشاعر المبدع والمحامي الشريف علي صدقي عبد القادر يعتبر بلا منازع في مقدمة أولئك الذين مثلت الكلمة عندهم ماسبق أن اومأنا إليه بصدد الكلمة من حيث الالتزام والانحياز والقدسية , بل لعله بما دأب عليه من ممارسة لهذه الكلمة يمثل أضعاف ماسبقت الإشارة إليه .
ويكفي أن نعلم أن الرجل الذي كتب القصيدة التقليدية في مطلع شبابه باقتدار لافت , وفي زمن كان مفهوم القصيدة التقليدية مسيطراً وكانت مكانته الاجتماعية وحضوره الوطني تفرض عليه -لو أراد – أن يمضي في ذلك الطريق المتمثل في تسخير القصيدة لأغراض الحياة الدنيا أو ما اصطلح على تسميته بالأغراض ولكن على النقيض من ذلك اختار فريقاً آخر تمثل في تكريس القصيدة لكل ماهو وجداني وحسب . ومن الممكن وصفه بأنه قد اوقف شعره على الجمال ولا شىء غير الجمال بحيث لم ينزلق في أي يوم من الأيام لغير ما سوى الروح وغير ماسوى الحب وغير ما سوى الوطن في مفهومه الجغرافي القطري أولاً ومفومه القومي ثانياً , فكان بخلاف الجيل الذي ينتمي إليه والحق يقال سابقاً لعصره .
ولهذا كانت رحلته باتجاه التجديد مقنعة ومبررة إلى حد كبير وكان الشكل الفنى الذي انتقل إليه علي صدقي عبد القادر هو ذلك المتمثل في شعر التفعيلة وكانت قدرته الظاهرة في اتقان الصياغة وفي تجديد الموضوع والمضمون بمعنى أن تجديده لم يأت نتاج العجز اللغوي أو ضعف القدرة الفنية وهو ما ساعده مرة أخرى إلى طرق باب الحداثة من خلال الارتياد وليس من منطلق التبعية والمحاكاة فكانت تجاربه المفعمة بالصور الجميلة والمعاني الرائعة وكان إصراره الدائم على التجديد والتجريب والمداوم على الحضور الذي لايضاهي ولا يعبأ مطلقاً بما يعتري الرحلة من بعض الصعوبات .
ميزة علي صدقي قدرته الفائقة في كتابة النثر , فالكثير من مقدمات اشعاره تمثل لوناً من الشعر , ومشاركاته في عديد المناسبات على قدر وافر من الشاعرية , أما ما درج على تقديمه للإذاعة المرئية في شهر رمضان تحت عنوان ( قوس قزح ) فهو ومن دون أي مجاملة فن من فنون النثر الراقي المتشح بالعبارة المشحونة والجملة السلسة والفكرة الفنية بالتأمل والانتقاء وصدق المعاناة .
ولعل منسقي البرامج بالمرئية قد أدركوا هذه الخاصية للشاعر علي صدقي فوقتوا قوس قزح بعد مجموعة البرامج التمثيلية التي يفلح أصحابها في اختيار التوقيت مثلما يفلحون في الاحتفاظ بها سنوياً , ثقة من هؤلاء المنسقين أن علي صدقي عبدالقادر من الأسماء التي تحرص فئات كثيرة على الاصغاء لصوته وقراءة كلماته التي لم تدنسها الأطماع .
______________________________________
صحيفة الجماهيرية.. العدد: 3841.. 12/11/2002