وعبد الرحمن منيف أيضا …
مازلت متلبسة بهذي العشرية (التسعينات)، رغم أن علاقتي مع القراءة كانت مبكرة، ولكن التعرف على أسماء مهمة والاهتمام (بالأدب الثوري) لو صحت التسمية، أن أقرأ (تولستوي) و(دستويفسكي) في عشرية الثمانينات، بعد انهماك مع روايات (إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله) لأتعرف على إبداع (يوسف ادريس). وأظن أن السينما المصرية قامت بدور هام بإنتاج تلك الروايات وخاصة إبداع “نجيب محفوظ”، والمجلات لها دورها في التعرف على الإبداع القصصي والروائي، ودائما تكون مجلة (العربي) الكويتية بابا للدخول للتعرف على الأدب العربي والعالمي، من خلال القصص والحوارات والدراسات التي تكون في كل عدد من أعدادها (مجلة العربي كانت كل شهر جديد تكون في بيتنا)، وهكذا بدأت ابحث واستعير وأحيانا (أخبيء) روايات وغيرها.
من بعض الصدف السعيدة حين افاجأ بوجود مكتبة أو بعض كتب متميزة، في أحد بيوت الأقارب، هكذا حدث مع أول رواية لـ”تولستوي”، أمّا “عبد الرحمن منيف” فصدى روايته (شرق المتوسط أو هنا الآن)، كان جذابا قويا للبحث عن أعماله، وكانت مكتبة (عمي رجب الوحيشي) وكان اسمها حينذاك (معركة قصر حمد)، فقد كانت مكانا لهذي الكنوز، وأيضا (مكتبة صوت الوطن العربي) حيث تعمل صديقتنا الصحفية والشاعرة “كريمة بن حسين”، والاستعارة التي حظيت بالنصيب الأكبر منها، وكانت رواية (مرزوق واغتيال الأشجار) عملا تلفزيونيا من إنتاج التلفزيون السوري، ولكن متعة قراءتها ستكون اكبر، ولتكون رواية (عروة الزمان الباهي)، رواية كدت أحفظها لكثرة ما قرأتها، وكم بكيت وأنا أعيش مع بطلها (محمد – الباهي)، ثم (قصدى حب مجوسية)؛ ولأن جريدة (أخبار الأدب) ستكون كل اسبوع في حوزتي (عمي رجب الوحيشي) يخليلي نسختي وعليها اسمي، من خلالها عرفت أن رواية (مدن الملح) ستكون في معرض القاهرة للكتاب، وكان هذا في 1993م فأوصيت أخي (محمد) الذي لا يفوّت هذه الفرصة كل عام، أوصيته وبإلحاح أن يجلب لي هذه الرواية- الخماسية، وحين حظيت بها و نزعت الغلاف (النايلون) وظللت أتصفح ورقاتها، و عبقت رائحة الملح، أقسم أني شممت هذه الرائحة الندية تعبق من الوريقات، أغمر وجهي وأستنشق، وضحك إخوتي من خيالي، ولكن أختنا الصغيرة (هالة) أقسمت أن رائحة الملح تفوح من بين السطور، وغرقت في عالم (مدن الملح) ورحلت في تلك الأجواء، (للأسف دائما ينظر للإبداع أنه مجرد خيال، ولكن من يستطيع أن يكتشف تلك النبوءات المدسوسة، من يعترف أن الإبداع مهما حاول أن يبتعد عن الواقع، لكن هذا الواقع يتربص بين السطور).
وكما حدث مع أعمال (أمين معلوف) وخاصة رواية (سمرقند) وكتاب (عروة الزمان الباهي)، حيث سيرة صديقه “محمد الباهي”، والذي اختطفه الموت في لحظة مباغتة (كتب عن رحيله في كتابه (لوعة الغياب)) سيرة كدت أحفظها لكثرة ما قراتها، وأحاول جمع أعمال (منيف) ولكن ستفقد إحداها يوما ما، وأما (مدن الملح) وبسبب ظرف ما، فقدت الجزء الأول منها (التيه)، ولكن أظن أن أغلب أعماله الروائية في حوزتي، وها أنا اجد في مكتبتي (أرض السواد) رواية حظيت بها أول ما نشرت، ولكن لم أستطع قراءتها مجددا، لأنها أرعبتني، وله دراسات مهمة مثل (ذاكرة المستقبل) و(سيرة مدينة- عمارة الاربعينات) وكتابه (الديمقراطية اولا.. الديمقراطية دائما).
هذه الأيام أعاود قراءة هذه الخماسية (مدن الملح)، فقدت أول جزء (التّيه) ولكن الجزء الثاني (الاخدود) يشق مسارب الوجع، يفتح باب الوعي، ولا أدري لماذا رغم مرور سنوات طويلة لم أنسَ (سلمى) تلك النّوارة التي غُدر بها، التي ذبحت قربانا الأطماع ابيها (الحكيم)، حكايتها المأساة في الجزء الثالث (تقاسيم الليل والنهار) والتي بدأت بها البارحة.
ليلة الإثنين 3/اغسطس/ 2020
اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة 1441هجري
باسترناك ودكتور زيفاغو…
سؤال يناشب العقل، أو يناكف الذاكرة، وربما يوقظ مشاعر غافية، لماذا قفزت في وثبة محاولة (ربما) إلى هذه (العلاقة) وأظن أنها (حبّ تمكن واستطاب المقام)؛ علاقة حب مع الكلمة المقروءة المخبوءة بين دفتيّ كتاب، وأنا أكتب الآن (فعلا) أحاول أن أفهم، أن أنبش في دواخلي، لماذا صار الكتاب عالما موازيا، أختبئ هناك وأجد نفسي، هذه النفس التي شعرت بغربة (البنت حوا)، خوفها وتعثر خطواتها، إحساسها الذي تعمق أنها: مجرد (بنت قبيحة: فم واسع وعينان ضيقتان وأنف مفرطح).
كيف لهذا المجتمع القدرة أن يغرس فيك (كره نفسك أو الخجل منها)، فأين سأختبئ، كان حظي الجميل أني أحببت القراءة، أن (الزنبقة السوداء) كانت بوابة باتساع البحر، وكتاب الشعر الذي جلبته صديقتي “فاطمة” -من كتب خالها- والذي خبأه أخي اللدود في (براد الشاهي الكبير) في خزانة أمي، ذاك الكتاب الصغير الذي قرأت منه قليلا ودسسته تحت مخدتي، هو أيضا فتح كوّة، لتغدو كل ورقة مكتوبة سرا أحب أن أعرف فحواه، ولكن فعلا صارت القراءة ركنا آمنا، وصرت هناك أجد (حواء) واثقة وقوية.
وهكذا سأعرف حتما أن ثمة رواية هامة جدا، وسأقرأ عن الشاعر والروائي (بوريس باسترناك)، والذي عاش أحلاما وعاصر فترات مهمة في حياة بلاده روسيا، و كان أيضا رفيقا وصديقا للكتاب وشعراء وووو، ولكن لقائي مع الرواية لم يكن باكرا جدا، لقائي بها أو وجدتها في مكتبة بيت صديقة فلسطينية، (وكان عام 1989م)، جئت لبيتهم للسؤال عنها بعد فترة غياب، و كان ذلك الإفطار الفلسطيني (الشامي) الذي كنت أراه في المسلسلات، الخبز البيتي والزيت والزعتر والزيتون والطماطم والشاي بالمريمية (والذي أحببته جدا وحظيت بحزمة عبقة من أم صديقتي)، ولأن المكتبة تزين وسط البيت كان لابدّ أن انظر وأتلمس وأبحث، وارتفعت صرخة دهشة، (دكتور زيفاغو) وحملت الكتاب بين يدي (طبعة 1959) هدية من صديق لأبيهم، وقد حاول أصغر من في البيت (أخيها محمد) ألاّ أستعير الرواية، مبديا خوفه ألاّ …. وصارت مناقشة، وعدت بتلك الرواية الأيقونة، غير مصدقة أنني وجدتها وأنها حقا بين يديّ، كيف تصفحتها وتلك الأوراق الصفراء المحببة.
ومن ينسى (دكتور زيفاغو) وقصة الحب والخوف والأفكار والرؤى، والبكاء البكاء، والأمل ألاّ يفترق الحبيبان، ووووو، ولي أن أعتذر من (محمد الحاوي) شقيق صديقتي، لم أعد إليهم الرواية، وأيضا ضاعت مني، متى؟ وكيف؟… حاولت أن أتذكر، فقط انتبهت ذات مرة أن الرواية لم تعد في مكتبتي، وأن آخر لقاء بيني وبين صديقتي كان في بيتهم في منتصف التسعينات، حيث ولدها الصغير، ثم شقيقتها الجميلة وهي آتية من عملها (مشرقة ومتألقة)، وفي أحد أعداد صحيفة (السفير: السبت 6/10/1991/ في صفحة 10 ثقافة)، وجدت مقالا مازلت احتفظ به عنوانه (سنة باسترناك في روسيا، الإتحاد بالعصر ومعايشته، مقتطفات من سيرة باسترناك، موسكو تلك اللوحة التي رسمت) والمادة من إعداد : اسكندر حبش.
والغريب كلما حاولت التخلص من هذه الصفحة التي احتفظت بها من (السفير)، أجدني أجلس لقراءتها مجددا، ربما لذاك التشابه الذي كنا نعيشه، تلك الأجواء (الستالينية)، اقرأ مقاومة المبدعين و حزنهم وعذاباتهم، “اسكندر حبش” في هذه المتابعة أو(الحوصلة) عن هذا المبدع الكبير، وخاصة بعد (الحرب العالمية الثانية)، اعتقد باسترناك أن (ويلات الحروب هي النتيجة الأسمى للكذب الإنساني) بأنها (تزعزع استقرار هذا العالم المخترع والوهمي والاصطناعي والغريب عن طبيعته الإنسانية) لكن هذه المقاومة السلبية للماضي (حملته بعيدا عن الحاضر) بهكذا تصور ومفهوم وإدراك كتب “باسترناك” روايته (دكتور زيفاغو).
والمعروف أن هذا الروائي منح (جائزة نوبل) بعد صدور هذه الرواية 1958م، ولكن كما في المقال (وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول، رفض باسترناك الجائزة) ورغم ذلك وفي اليوم ذاته (عقد كتاب موسكو اجتماعا طالبوا فيه -وبإجماع كلي- من الحكومة أن ينزعوا عن باسترناك جنسيته وأن يطرد خارج البلاد) وقد كتب (بوريس باسترناك) قصيدة بعنوان (جائزة نوبل) قال فيها:
أية إساءة رأيتموني قمت بها
هل أنا وحش أم قاتل
يا أرضي، لقد جعلت العالم بأكمله
يبكي على جمالك.
ومات “باسترناك” في ( 30آيار1960).. ولكن بعد (مائة عام) من ميلاده، كان عام 1990 هو عام “باسترناك” (دار التقدم في موسكو أصدرت مؤخرا (في ترجمة فرنسية)؛ الأعمال الكاملة لباسترناك، متضمنة دواوينه الشعرية، رواياته دراساته ورسائله).
ولا أدري هل ترجمت كل أعمال (باسترناك) إلى لغتنا، شعره ورسائله المتبادلة، ولكن تظل (دكتور زيفاغو) علامة لاسمه، ووثيقة تؤكد قدرة الإبداع على أن يلامس الوجع الإنساني، ويجعل لحظة تاريخية ربما تكون عابرة، لكن العمل الأدبي جعل منها خلودا يشير لقدرة الإنسان على المقاومة.
تعليق واحد
جميل ورائع