يشرع موقع بلد الطيوب في نشر رواية (الحرز) للقاص والروائي “إبراهيم عبدالجليل الإمام“، على أجزاء بشكل أسبوعي!! قراءة ممتعة للجميع…
5
زارتها شقيقتها بعد ثلاثة أيام من مغادرة القافلة للواحة.. صارحتها قائلة:
- أمر ما يجعلك تغيبين عن مجلس نسوة العرش.
ارتبكت..
أضافت بانزعاج:
- ستلوكك الالسن اذا واصلت غيابك.
لم تحر جوابا.. تساءلت شقيقتها مجددا:
- هل هناك ما يزعجك؟
صمتت.. أضافت الشقيقة:
- لابد انها تلك العجوز.. هل تخشينها على الرضيع؟
منحتها منفذا ومفرا من حيث لا تدري فقالت:
- تعلمين ما يشاع عنها من أنها صاحبة عين لا تخطيء هدفها.
ضحكت الشقيقة قبل ان تسألها مجدداً:
- هل تصدقين هذا؟
- هل علي أن أغامر برضيعي؟.. كما أن العين حق كما يقول الفقيه.
- عليك بتميمة إذاً.
- هل تكفي تميمة لتقي رضيعي عين تلك العجوز؟.
- لكل تميمة غرض.. ولكل غرض تميمته.. لا أظنك جادة في خوفك هذا.
أضافت الشقيقة بعد أن رشفت من كوب الشاي:
- عليك البحث عن صانعة تمائم اخرى.
- لماذا؟
- يبدو أنه لم تصلك الأنباء بعد.
- أية أنباء؟
- أختفت تلك العجوز الشمطاء
كادت تختنق في رشفة الشاي.. قالت بعد أن وضعت الكوب واستعادت انفاسها وتوازنها بصعوبة:
- متى كان ذلك؟
- لم تنتظر رد الشقيقة.. الحقتها بسؤال آخر:
- هل غادرت مع القافلة؟.
أجابت الشقيقة:
- يقال انها اختفت قبل مغادرة القافلة بيوم واحد.
تساءلت في لهفة:
- وكيف غادرت دون أن يشعر بها أحد وإلى أين غادرت؟
ردت الشقيقة في حماسة :
- يقول زوجي أن هناك حديثا بين الرجال عن صفقة مريبة.
- لا تخلو أي صفقة من ريبة.. هذا ما نعرفه عن الصفقات.
- المريب في هذه الصفقة أن أمة الخفاء طرف فيها.
- أمة الخفاء؟
- يقولون أن تلك العجوز اختفت فجأة من واحتنا كما ظهرت فيها فجأة.
- هل العجوز الشمطاء طرف في الصفقة؟
- يقول زوجي انها عقدت أخطر صفقة وأسوء صفقة تعقد في أي سوق.
- يا لطيف.
واصلت في حماسة:
- يؤكد البعض انها من تلك الامة الخفية.. ما ظهرت في هيئة صانعة تمائم وتعاويذ الا لتصل بذلك إلى غرضها.
- أي غرض تعنين؟
- الحصول على رضيع لم يفطم بعد.
ارتبكت.. كادت تسقط كوب الشاي من يدها.. لكنها تداركت نفسها.
- هل تصدقين هذا الهراء؟ هيء هيء هيء.
- لا استغرب شيئا في هذه الواحة.
تساءلت في حيرة:
- أين رضيعك؟
- أه… هناك.. هناك في الكوبت([1]).. نائم.. نائم انه نائم.
غادرتها الشقيقة بعد ذلك لتلتحق بمجلس النسوة..
لم يكن هراء ما قالته.. تأكد لها أنها وقعت فريسة صفقة مريبة.. صفقة بين أمتين.. بينهما من العداء ما لا يمكن وصفه ولا تصديقه.. بكت من جديد رضيعها الضائع.. بكت حظها العاثر.. بكت مصيرها الغامض.
ثلاثة أيام من التفكير المضني.. تفكير لا يفضي إلا للمزيد من الحيرة والخوف والضياع.. لا حل يلوح في الافق.. حل واحد ظل يلح على عقلها.. كل الطرق التي سلمتها ادت لنفس هذا السبيل الوحيد.. انه طلب المشورة.
تكمن الخطورة في هذا الحل خشيتها افتضاح الأمر في واحة يستحيل كتم سر فيها.. أما الصعوب فتكمن في خلو الواحة ممن يمكن استشارته في مثل هذا الشأن فما بالك بالوثوق به.. سمعت حفيف زحفه بقربها.. كان الرضيع قد استيقظ كعادته مع غروب قرص الشمس.
مرت أيام كثيرة ولم تصل لحل… كان التردد والحيرة والخوف يرافقونها طيلة تلك المدة.. شعرت بألفة نحو رضيع امة الخفاء.. عاملته كما لو كان ابن رحمها الضائع في مكان ما.. لاحظت أشياء كثيرة عنه في تلك الفترة.. اشياء ستعد غريبة لو لاحظتها في ابنها الضائعة.. ربما ستعتبره مريضا أو قد تلبسه طائف من تلك الأمة.
استغراقه الشديد في النوم طيلة النهار شجعها على الخروج والالتحاق بمجلس النسوة والذهاب إلى المسجد القريب من بيتها.. كما أنه أتاح لها وقتا كافيا للذهاب لعين غسوف في الوقت المخصص للنسوة لغسيل الثياب.. استيقاظه بعد غروب الشمس مباشرة حيرها في البداية.. لكنها اعتادت ذلك.. اكتشفت كذلك قدرته على الزحف وصعود درج السطح العشرين.. بل وزحفه نحو مطبخ البيت عندما يكون تنورها متقدا.. لا شك أن ذلك طبيعي لرضيع من أمة يقال أنها مخلوقة من نار.. لو كان رضيعا انسيا لما استغربت حبه لسف التراب والعبث بالماء..
أما البخور فكان يوقظه من سباته ويبث فيه طاقة غريبة.. لذا توقفت عن اشعاله.. ما استغربته واعتادته كذلك عدم شربه الماء ورفضه لأي نوع من أنواع الطعام باستثناء صنف واحد..
حليبها.
[1] – الكوبت: غرفة صغيرة في باحة البيت الغدامسي لا ابواب لها ولا نوافذ تغلق بستارة تستعمل كخدر للزوجين.